السلطة العميقة في العالم الافتراضي
د.خليل حسين
رئيس قسم
العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
بيروت: 7/10/
2021
ربما المصطلح الاوسع انتشارا هذه الأيام
"الدولة العميقة" والمقصود بها السلطة العميقة التي تدير تفاصيل
القرارات التقريرية منها والتنفيذية، وحتى تتدخل وتصل الى تكوين بيئات قانونية
وحتى قضائية لتشكل شبكة حماية وأمان لمجمل رؤاها وسياساتها وغاياتها في مختلف
النظم والمجتمعات الواقعية ، مرورا بالكيانات التي تتمتع بالشخصية المعنوية وصولا
الى العالم الافتراضي ووسائله وأدواته التي باتت جزءا رئيسا من الحياة اليومية
المعاشة للبشر.
ما حصل في الخامس من أكتوبر / تشرين الأول
الجاري في العالم الافتراضي، اعتبر سابقة لجهة شمولية الحدث ومدى اتساعه وتأثيراته
وتداعياته المختلفة. فهو لا يعدو كونه عطلا تقنيا او فنيا بشريا او غير ذلك، بقدر
ما هي مؤشرات يمكن ان تؤسس لسياقات سلوكية مغايرة ، ويمكن أيضا ان تتنامي وتشكل
بيئات أشد خطورة على المجتمع البشري وطريقة حياته وتعاطيه اليومي معها. فالمشكلة
التي أصابت شركة الفايس بوك وما تستحوذ من تطبيقات مثل الانستاغرام والواتس اب
وغيرها، عطلت وجمدت اتصالات مليارين وسبعماية مليون انسان وكيان ، أي ما مجموعه
ثلث البشرية وهو رقم مهول في حسابات تلك الاعمال والقيم التداولية الفعلية ؛ كما
وصلت التقديرات لمجمل الخسائر الأولية لاسهم الشركة الى 6% ، أي ما يوازي تقريبا 7 مليارات
دولار خسائر لصاحب الفايس بوك عدا عن
حاملي الأسهم ، إضافة الى السلع والمنتجات المتداولة عبر التطبيقات المختلفة، ذلك
كله خلال ساعات معدودة لا أكثر، ما يطرح أسئلة محورية يجب البحث عن إجابات لها .
في المبدأ، لا مفر ولا مناص من الأخطاء
التقنية او الفنية الناجمة عن عمل بشري، او نتيجة ثغر طارئة في البرامج والتطبيقات،
وهو امر وارد ومعرض له في أي لحظة، الا ان غير الواضح او حتى غير المقبول ان تبقى
تلك الاحداث مجرد حدث عابر لا يتوقف عنده ،فنوعية العطل هو مريب ولم يتم الإفصاح عنه،
سوى ببيان مقتضب لا يتماثل الى حجم الكارثة التي تسبب بها العطل، وكأنه حدث عادي
يمكن ان يمر بلا تدقيق او احتساب، فيما واقعيا وصل بالأمر الى مؤسسات ومواقع حساسة
لها علاقة بالآمن البشري ومستلزماته، ما يثير أسئلة حول من المسؤول ومن يدير الامر
في المستويات الاستراتيجية العليا.
في الاحداث السابقة كانت تسند القضايا الى
الهاكرز بمختلف مشاربهم وميولهم ودوافعهم ومن يقف وراءهم، اما اليوم فالموضوع
مختلف ، فهو بحجم مؤسسة تقف خلفها سلطة عميقة دخلت الى العمل الافتراضي الدولي بكل
جرأة وهي تدرك ماذا تفعل ، والى اين ستصل وما تريد. هذه السلطة تدير حروبا تكنولوجية متعددة الطبقات
والمستويات ،كما تدير منافسات اقتصادية وصلت الى مستويات الصراعات وان لم تصل الى
مستويات عسكرية، ورغم ذلك فهي أشد قساوة وفتكا لما يمكن ان تصل اليه من شمولية
واتساع في الاضرار العامة.
ان دخول السلطة العميقة في العوالم
الافتراضية التي يتعاطى معها البشر ، هو مؤشر خطر له دلالات من نوع آخر لا يمكن تجاوزها
او التدقيق بها، فهو عدو غير مرئي يتعاطى مع الواقع بوسائل افتراضية شديدة الضرر،
وحجم ما تحدثه لا يمكن لمجتمع بعينه تحملها او حتى تفادي نتائجها ان امكن.
اما الأغرب في الموضوع ، فهو طبيعة التعاطي مع الحدث، فعادة وهو ما
جرى، حدث أصاب اكثر من ثلث البشرية في
صميم علاقاتها ووسائل حياتها المعاشة، وهي في نفس الوقت مكبلة اليدين تنتظر من يحل
المشكلة وهي بيد قلة قليلة من الخبراء لهم مصلحة مباشرة في التحكم والاستثمار ،
وعليه ان حجم القلق عند التدقيق فيه يفوق التصور، بخاصة اذا لامست هذه الأعطال
البيئات المتصلة بأمن ومستقبل حياة البشرية والإنسانية جمعاء، انها ضريبة القرية
الكونية التي تغنينا بها ولا زلنا.