روسيا وهندسة
الامن الأوروبي
د.خليل حسين
رئيس قسم العلاقات
الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
3-2-2022
ليست الازمة الروسية الأوكرانية حديثة
بطبيعتها او مواضيعها، فثمة تاريخ من النزاعات المتعددة الأوجه والخلفيات تعود
لقرون مضت، ورغم ان الحقبة السوفياتية اخمدت هذه العلاقة غير الودية، الا ان سرعان
ما ظهرت مجددا، ووصلت مؤخرا الى تصعيد غير مسبوق وصل الى التلميح بعمل عسكري ضد
كييف.
والقضية بصورها الحديثة تعود الى العام
2014 حين ضمت موسكو شبه جزيرة القرم معتبرة إياها ارضا روسية بعدما اهدتها
لأوكرانيا في الحقبة السوفياتية كهدية عيد ميلاد لرئيسها آنذاك، ولم تكن خطوة
الاسترجاع نهاية أزمة بل بداية لفتح ملفات لا تنتهي في علاقة موسكو مع أوروبا والغرب
بشكل خاص ، توجت بمروحة واسعة من العقوبات التي باتت تداعياتها تشكل تحديا روسيا
مقلقا، وعلى قاعدة هذه العقوبات تتجدد التهديدات الغربية بمزيد منها في حال أقدمت
موسكو على أي عمل او فعل ضد كييف.
ففي خلفية المواقف ثمة قلق روسي يعود الى
نهاية الحقبة السوفياتية وتشكل مجموعة الدول المستقلة برعاية روسية، بهدف احتواء
أي تهديد امني محتمل على قاعدة ادخال أوكرانيا في عداد حلف الأطلسي، وظلت هذه
القضية تشكل مدخلا لنزاع غير مستتر ويهدد مجمل علاقات روسيا الاوروبية والأميركية ،
سيما اذا ما ادخل عليها أزمات أخرى لتحفيز وتطوير الاستثمار في قضايا أخرى إقليمية
او دولية. وهذا ما جرى فعليا وعمليا في الفترة السابقة، حيث بدت الازمة مع أوكرانيا
مدخلا للمساومة والاستثمار في ملفات ونزاعات دولية أخرى. فعلى سبيل المثال لا
الحصر، أدى الانسحاب الأميركي من أفغانستان مثلا وما استتبعه من فعاليات للانسحاب
من العراق لاحقا وتثوير وتصعيد العلاقات الأميركية الروسية ربطا ووصلا في الازمة
السورية، كل ذلك أدى الى إعادة الازمة الأوكرانية الى الواجهة وبطرق استفزازية
لأطرافها، سيما وان الطرفان بدأ يلعبان سياسات حفة الهاوية ، في وقت ظهرت صور
تصعيدية بمنسوب ومستويات عالية، فهل تنشب الخرب فعلا ، ام ما يجري يعتبر مدخلا
للبحث عن حل للخلفيات الأمنية للأزمة القائمة؟.
لقد جهدت موسكو في البحث عن هندسة امنية لأوروبا بعيدة عن الحضن الأميركي
المباشر، ورغم عدم انزعاجها الكبير مبدئيا من حلف الأطلسي ، الا انها لا تفضل
ادخال دول تعتبرها تاريخيا وحتى عقائديا في العقل الجمعي الروس جزءا منها، في حلف
الأطلسي ، لما تعتبره تهديدا مباشرا لأمنها القومي وسط تحديات روسية أميركية
متبادلة ومتداخلة في العديد من القضايا الدولية. وعلى هذه الخلفية لا زالت تعتبر
موسكو ان الوضع الاوكراني لا يمكن حسمه بعيدا عن العين الروسية وبخاصة في الجوانب
الأمنية.
لا شك ثمة تصعيد متبادل ذات صور عالية
التهديد، الا ان التدقيق في الأمر يوضح صورا مغايرة ومختلفة نسبيا، مفادها ان
الأطراف المعنية بالأزمة ومنها روسيا تفضل البحث عن مخارج غير عسكرية لمجمل مفاصل
الازمة القائمة، ذلك للعديد من الأسباب والاعتبارات، من بينها اكلاف التصعيد
العالية والتي لا يمكن ان توصل لنتائج محققة يريدها أصحاب التصعيد.
في الواقع ما تريده موسكو هو إيجاد وسائل
ضبط واضحة لمجمل قضايا الامن الروسي المتصلة بحلف الأطلسي وهو مطلب تاريخي مزمن
يصعب على روسيا الابتعاد او التخلي عنه ، سيما وان موسكو تعرف بدقة الحجم الاوروبي وتعتبر في نقس الوقت ان مشكلتها مع
الولايات المتحدة أولا وأخيرا، لأنها تدرك أيضا ان الدول الأوروبية تصرخ كثيرا لكن
الكلمة الفصل هي لواشنطن، لذا تعرف موسكو الطريق التي ستختاره في المواجهة القادمة
ان حصلت، وهي في أغلب الأحيان لن تتعدى التصعيد المحدود الدي لن يصل في الأساس الى
مستوى الاجتياح ، لأن موسكو تدرك تماما ان هذا الخيار لن يكون سهلا ولا يستطيع
المجتمع الدولي بلعه والتعامل معه كأمر واقع، علاوة على اكلافه العالية.
في المحصلة واقع من الصعب إيجاد حلول عملية
قابلة للحياة دون الجلوس في اطار تفاوضي منفتح يراعي المطالب والمصالح المتبادلة،
سيما وان عناصر الأزمة متعددة ومتشعبة ويتداخل فيها الكثير من عوامل التأثير
الذاتية والموضوعية.