روسيا وسياسة
حفة الهاوية في أوكرانيا
د.خليل حسين
رئيس فسم
العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
16-2-2022
لم يسعف
الموقع الجيوسياسي أوكرانيا في بناء شبكة امان في محيطها الأقرب ولا الأبعد، وظلت
محل شد وجذب في معظم الحقب التاريخية التي مرت بها في علاقاتها مع روسيا ، وتسبب
ذلك الوضع بنشوء سياسة باتت امرا واقعا، قوامها التعاطي نع مختلف مظاهر العلاقات
البينية الروسية الاوكرانية بحذر وريبة وصلت في احدى حقباتها الى تنفيذ موسكو لاجتياح شبه جزيرة القرم وضمها
اليها، فيما تمارس اليوم ضغوطا ذات طابع عسكري وصفته الولايات المتحدة وحلف الناتو
انه تمهيد لاجتياح أوكرانيا.
لقد تعاطت روسيا مع المسألة الأوكرانية من
وجهة هندسة الامن في أوروبا عامة والشرقية خاصة، بعدما تمدد حلف الناتو شرقا ،
وخوف موسكو من استيعاب كييف ، وبالتالي وصوله الى الحضن الروسي، سيما وان سابقتي
اجتياح روسيا في عهد نابوليون ومن ثم عهد هتلر تما عبر أوكرانيا، ما شكل هاجسا
دائما وموضع توجّس في التعاطي مع القضايا المتصلة فيها. وما زاد هذا الخوف طريقة
تعاطي واشنطن في مواجهة السياسات الروسية من جهة ، ودفعها الى التماهي مع سياسات حفة
الهاوية في الأزمة الاوكرانية وهو ما جرّت
موسكو اليه.
ان ظروف ما بعد الحقبة السوفياتية انشأ
وضعا ليس ببعيد عن ظروف حقبة الحرب الباردة في العلاقات الروسية مع الغرب، وظل حلف
الأطلسي بطبيعة الأمر الشغل الشاغل لموسكو ، سيما وان ما يفصله عن عمقها الحيوي
هما أوكرانيا وروسيا البيضاء التي تعتبران في العقل الجمعي الروسي حديقتان خلفيتان
لهندسة وسائل الرهبة الروسية تجاه الغرب الأوروبي عامة والعلاقات مع واشنطن خاصة.
لم يكن التعاطي الأوروبي في مواجهة روسيا
موحدا، فلكل عاصمة رأيا خاصا في الموضوع وان اجتمعوا على مواجهة موسكو، فالموقف
الفرنسي مثلا عبر رئيسها ماكرون كان من خلفية انتخابية بهدف محاولة بقائه لولاية
ثانية في الاليزيه وهذا ما ظهر في مستوى مباحثاته في موسكو مع الرئيس بوتين
ومحاولة الظهور بمظهر الرجل صانع السلام في اوروبا، فيما زيارة المستشار الألماني الى
واشنطن وصفت بأنها لم تنسق بالقدر المطلوب ولم تكن الأزمة الأوكرانية بأولوية في
مباحثات الطرفين.
لقد وصلت مستويات التصعيد مؤخرا الى
منسوب غير مسبوق بعد العام 2014 تاريخ اجتياح القرم، لجهة التحشيد العسكري وتنفيذ موسكو لمناورات عسكرية لافتة
على الحدود الاوكرانية، الا انه وفي توقيت مدروس عادت موسكو وسحبت فرقا عسكرية بدت وكـأنها إشارات لإعادة تموضع
جديد هدفه تشجيع البحث عن حلول دبلوماسية
للأزمة، وهو امر استجابت له واشنطن وباقي الأطراف الأوروبية لإيجاد بيئة تهدئة
وبالتالي تسوية ما.
لقد ظل الهاجس الأمني وملفاته المتعددة
والمتنوعة بالنسية لموسكو مرتبط
بالجغرافيا السياسية وبالواقع الجيوسياسي الاوكراني ، باعتبارها الخط الأخير الدي
تعتمده روسيا في الدفاع عن امنها الحيوي، وهو ما تدركه واشنطن تماما وتحاول المسَّ
فيه عبر محاولات ضم أوكرانيا لحلف الناتو ، وهو امر تعتبره موسكو أيضا امرا محرما
وتسعى الى منع حدوثه ولو استعملت القوة العسكرية ، وقد استعملته في العام 2014 عند
اجتياح شبه جزيرة القرم وضمها، وقبلا في العام 2008 عند اجتياح جورجيا في منطقتي
ابخازيا وأوستيا والتي عمدت الى فصلهما وقلب النظام في تبليسي.
لقد نجحت موسكو الى الآن في استثمار سياسة
حفة الهاوية في التعاطي مع إدارة الأزمة الاوكرانية ، ولاقت واشنطن في الطرف الآخر
بتناغم مع اعتمادها لسياسة الاحتواء، في توفير بيئة مناسبة لتفادي المواجهة
العسكرية، وهو امر مكلف جدا لجميع الأطراف، والذي سيبدو المنتصر فيها مهزوما قياسا
على حجم الخسائر التي سيدفعها مقابل الاثمان التي سيجنيها؛ وبالتالي ستلجأ روسيا لاحقا اذا تمكنت من اعتماد خيارات أخرى
من بينها مثلا محاولة الاتيان بنظام
اوكراني يتماشى مع مصالحها وتطلعاتها كما حدث في الازمة الجورجية سابقا ، سيما وان
ظروف الازمات الأخرى التي يمكن التبادل فيها كثيرة كالشرق الأوسط بمختلف امكنته
ومحطاته ، مرورا في شرق آسيا ووسطها وصولا الى افريقيا وعقر دار واشنطن في المسرح
الجنوبي والأوسط.