22‏/03‏/2025

 التناس الاميركي الفرنسي في لبنان

د.خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

بيروت : 17/9/2020

      تمكنت الولايات المتحدة الاميركية من تحديد حجم الدور الفرنسي في الشرق الوسط وبخاصة في لبنان منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي ، بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956 وحلول واشنطن مكان باريس ولندن في المنطقة، وعلى الرغم من المصالح الفرنسية اللافتة ثمة حدود وضوابط لم تتمكن أيضا باريس من تخطيها او التأثير في مساراتها، ومن بين تلك القضايا المسألة اللبنانية بمختلف فصول ازماته المتلاحقة. ورغم العلاقات التاريخية المتميزة بين باريس وبيروت، ظل الدور الفرنسي مرتبط بالرؤية الاميركية وحاجة هذه الاخيرة لأي سياقات تدخلية ووفقا لشروطها والحدود التي ترسمها.

      ومن بين هذه السقوف المرسومة سلفا حدود الحراك الفرنسي في الأزمة اللبنانية الحالية بعد انفجار مرفأ بيروت ومحاولة تشكيل حكومة جديدة، حيث برز دخول فرنسا بشكل قوي من خلال مبادرة متكاملة، الا ان ثمة العديد من المؤشرات التي تشي بضبط سرعتة المبادرة الفرنسية ووضع ضوابط محددة لها ان لم يكن تحجيمها ، رغم ان ثمة من يقول ان محاولات جرت لتجميدها وانهاء العمل بها، وما عزز هذه الفرضية تأخر انطلاق تشكيل حكومة جديدة الامر الذي يعزز الخوف اكثر فاكثر من وضع لبنان في مسارات لا تحمد عقباها. وعلى الرغم من استشعار مخاطر تلك السيناريوهات ثمة من يواصل عمليات تصعيد في المواقف ويتكئ على اطراف إقليمية وبالعكس أيضا، لرسم صور مختلفة تصل الى حد تفجير الأوضاع وفلتان الأمور من عقالها.

          من الواضح ان باريس مشت منذ بداية مبادرتها في لبنان وفقا لتنسيق واضح ومحدد مع الادارة الاميركية/انطلاقا من معرفتها المسبقة بحجم ومدى الدور المعطى لها او اقله القادرة عليه، لكن الرؤية الامريكية تنطلق في الأساس من إعطاء فرصة محدودة النتائج للدور الفرنسي في الوقت الضائع من الانتخابات الرئاسية الاميركية ، إضافة الى وجود عناصر أخرى تتيح لواشنطن التأثير بشكل مباشر على الحراك الفرنسي وتحديد اطره ومستوياته وحتى نتائجه ان حصل، وهذا ما تدركه باريس بدقة ولا تتمكن من تجاوزه، فهي وان وضعت مسارا زمنيا لتنفيذ بعض بنود المبادرة، الا انها اضطرت للتخفيف من حجم الضغوط على الاطراف اللبنانية انطلاقا من عجزها منفردة على الدفع بالاطراف اللبنانية المضي كما تشاء في تنفيذ مبادرتها، وهو امر ترافق مثلا مع دفع الولايات المتحدة التدخل مباشرة عبر ارسال موفدين الى لبنان ومن بينهم مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الوسط، عبر ادخال قضية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية كموضوع متلازم مع قضايا أخرى ومن بينها الحكومة ومشاريعها وفقا للمبادرة الفرنسية.

       في أي حال من الأحوال، ثمة تماس فرنسي أميركي واضح في الحراك القائم لفرض مسارات محددة للازمة اللبنانية الحالية، ثمة من يعتبر ان باريس تعتبر نفسها كما بعض اللبنانيين انها الأم الحنون التي ينبغي عليها تأمين السبل الكفيلة بإخراج لبنان الى بر الأمان، وهي حاولت بصرف النظر عن قدرتها منفردة ام لا، في المقابل، ثمة استراتيجية أميركية تعتبر لبنان جزءا من مشاريع المنطقة ومن غير الممكن فصله عن الاطار العام، ما يجعله أداة لممارسة الضغوط عليه داخليا ووسيلة لضغوط خارجية عبره، وهو امر ليس بجديد اصلا، الا ان ظهور الموضوع بشكل فج حاليا مرده ترافق ازمته مع متغيرات استراتيجية في المنطقة من بينها مشاريع السلام العربي الاسرائيلي الذي سيكون لبنان جزءا منه وفقا للاستراتيجية الاميركية والذي لا يتناقض بالضرورة مع التوجه الفرنسي في هذا الموضوع.

        ثمة سباق واضح بين انفجار الوضع في لبنان بشكل واسع ومتعدد الأوجه ، وبين انفجار الوضع وفقا لضوابط محددة يمكن السيطرة عليها، وفي كلتا الحالتين سيكون لبنان مرتعا خصبا لحسابات الخسارة والربح للقوى الفاعلة فيه وخارجه، فالتماس الفرنسي الأميركي ليس وحده من يحدد ضوابط اللعبة في لبنان، بل ثمة اطراف اقليميين لها وزنها ومشاريعها ومصالحها في لبنان والمنطقة، فايران لن تسمح لفرنسا مثلا ان تقطف نتائج الوضع القائم، وهي تفضل التعامل مع الاميركيين في الملف اللبناني بعد الانتخابات الرئاسية، كما لتركيا حساباتها الخاصة في الملف اللبناني ربطا بالتماس مع فرنسا في شرق وجنوب المتوسط، علاوة على المصالح الاسرائيلية مما يجري في المنطقة، بالمحصلة ثمة تماس واضح بين واشنطن وباريس حول تفاصيل الأزمة اللبنانية ومشاريع حلولها، وفي أي حال من الأحوال لن تكون باريس قادرة منفردة على رسم حلول لازمات لبنان المتعددة، وستظل محكومة ومرهونة بمحددات الاستراتيجية الأميركية في المنطقة ومن ضمنها لبنان.