23‏/03‏/2025

 

قراءة في قمة بغداد

د.خليل حسين

رئيس قسم العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية

29-8-2021

         جاء انعقاد قمة بغداد في توقيتها وحضورها ما يشير الى خلفيات وتوقعات مثيرة للجدل . فهي أتت بعد الانسحاب الأميركي المدوي من أفغانستان، وفي وقت كثرت فيه الاحاديث في الكواليس الدبلوماسية عن نية واشنطن أيضا ترتيب انسحابها من العراق او إعادة تنظيم وضعها، وبصرف النظر عن توصيف او حدود التموضع الأميركي ، فنتائجه لا شك رئيسة في إعادة رسم سياسات المنطقة لجهة الأطراف الدولية او الإقليمية الفاعلة فيها والقادرة على اسناد أدوار متميزة فيها.

        ففي مقاربة تاريخية بسيطة بين الانسحاب الاميركي من أفغانستان ، والانسحاب البريطاني من قناة السويس في العام 1956 ومن شرق القناة بداية السبعينات، أدى الى نشوء ما سمي  بالفراغ الذي ملأته الولايات المتحدة آنذاك، اليوم خرجت من كابول واذا استتبعت ذلك بانسحاب من بغداد، يعني ان فراغا سينشأ وبالتالي من سيعبئه. ان التدقيق في حضور القمة يظهر حضورا فرنسيا لافتا بشخص الرئيس ماكرون، وبذلك يعتبر ذات دلالات اكثر من رمزية ليؤسس لصور أخرى . والسؤال الذي يطرح أيضا ، هل ان التموضع الفرنسي في المؤتمر  ناجم عن قرار أميركي لمسارات مستقبلية مرسومة، ام انه مجرد إشارة سياسية لن توصل الى مكان نوعي محدد؟

      ان مقررات القمة وان صيغت بعبارات دبلوماسية لا خلفيات قوية لها، كدعم عودة العراق القوي الى السياسات الإقليمية الوازنة، ودعم الأطراف المشاركة في مكافحة  الإرهاب، الا انها لم تخف الحضور الفرنسي اللافت إضافة الى الحضور التركي والإيراني، وفي الوقت نفسه غياب الحضور اللبناني والسوري رغم انهما معنيان مباشرة في أي سياسات إقليمية ترسم للمنطقة، الا اذا تُرك هذان الطرفان لترتيبات انضمام لاحقة تعكس تطورات مرتقبة.

       وفي أي حال من الأحوال، وان شهدت باريس في الفترة السابقة  تشجيعا  اميركيا ملموسا لجهة أدوار محددة بدأت بلعبها في لبنان مثلا وغيره ولو بنسب اقل كليبيا بمواجهة تركيا ، الا ان الحضور الباريسي في بغداد وبقرار أميركي ربما يخفي سياسات ستتبعها لاحقا كبيئة تنافسية صينية فرنسية في المنطقة  ربما تنتهي بعودة اميركية مدوّية أيضا، سيما وان واشنطن سبق لها وان استعاضت حضورها المباشر في بعض مناطق العالم بحضور بديل يعمل لحسابها ولمصلحتها وهو دور يمكن لباريس القيام به برضاها او رغما عنها.

       لقد تكوّنت معطيات ووقائع ونتائج كثيرة حاسمة خلال العقدين المنصرمين في العراق ودول الجوار، وانعكس ذلك أيضا على سياسات استراتيجية سعت الى تنفيذها ، رغم الكثير من المعوقات التي واجهتها، من بينها  الصعود الروسي الهائل في الشرق الأوسط عبر البوابة السورية، وكذاك الصعود الصيني في الشرق الأوسط عبر البوابة الإيرانية، وهي تحديات وازنة، فهل ستتمكن واشنطن في التأثير بها ولو عبر المقاعد الخلفية  وترك باريس في واجهة الاحداث والمتغيرات. 

       ان طبيعة السياسة كما الجغرافيا تكره الفراغ، ولا بد من لاعب او لاعبين فاعلين قادرين على ملء أي فراغ محتمل،  بالأمس بدأ فراغ أفغانستان وسُلم الامر لحركة طالبان، فهل سيتكرر الامر في بغداد. في إعادة التموضع الأميركي الأول من العراق أواخر العقد الماضي نجم عنه احداث دموية هائلة بصعود تنظيم داعش وما رافقه من اختلال وانهيار نظم عربية كثيرة، مظاهر الفوضى بدأت في أفغانستان فهل ستعم مناطق أخرى.

      لا شك بأن قمة بغداد ستترك مسارات إقليمية سياسية واقتصادية، بخاصة وان نوعية الحضور غير العربي له دلالات كثيرة من بينها محاولة هذه القوى حجز مواقع نافذة لها في الأدوار المنتظرة، وهي بطبيعة الحال نتاج موازين قوى منها ما هو قائم ومنها ما هو جار تركيبها وتنظيمها.