19‏/02‏/2013

المعلن والمضمر في استقالة البابا


المعلن والمضمر في استقالة البابا
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 19/2/2013

        استقالة البابا بنديكت السادس عشر ليست سابقة بحد ذاتها،بقدر ما هي سابقة في مكانها وزمانها.فقد سبقه اربعة بابوات لذلك القرار،ورغم اختلاف الاسباب في كل حالة ،تبقى الخطوة جريئة بأبعادها وتداعياتها الزمنية والروحية على الكنيسة الكلثوليكية وإتباعها في غير زمان ومكان.
       المعلن في الاستقالة، الوهن والضعف وعدم القدرة على خدمة الرعية، وبصرف النظر عن ثقل العمر المتقدم للبابا ومدى أثره في قواه الجسدية والسلوكية،يبقى امرا من السهل تتبعه والتيقن منه. إلا ان ثمة جوانب أخرى تثير التساؤلات عما يمكن ان يكون وراء الاستقالة المفاجأة والتي يذهب البعض في تفسيرها، إلى ان ثمة استحالة للتكهن بها في سلوك البابا بنديكت السادس عشر ،إلا اذا تم الذهاب بعيدا في التأويل بما هو موجود من وقائع وأسباب مباشرة وغير مباشرة.
        عندما انتخب البابا بنديكت عام 2005 كان يدرك أنه رجل مسن (78 عاما) ويالتالي لن يعمر طويلا ، ومن ثم لم تكن أولوياته كتلك التي يهتم بها رجال السياسة عادة، وبحكم طبعه وسلوكه الاكاديميين بدأ في تلخيص أفكاره في أربع رسائل باباوية هي : عمل الخير والأمل والعدالة الاجتماعية والإيمان. فهل تمكن من ذلك في ثماني سنوات؟ ليس ثمة إشارة واحدة تحكم على ذلك لكن إذا كان قصده إعادة أوروبا والعالم للرب، فذلك لم يتحقق. رغم حراكه الديني واللاهوتي في غير بقعة من العالم،وبخاصة ما قام به في المشرق العربي وبصماته الواضحة في اعادة ثقة مسيحيي الشرق بمركزهم وامتيازاتهم وقدراتهم.
        ثمة مشاكل كثيرة عاصرت البابا في ولايته، كفضائح الفساد والاعتداءات الجنسية والصراع على السلطة والخلافات حول "عقيدة الإيمان"، وربما كانت هذه المشاكل ألقت بثقلها على البابا بحيث لم يعد قادراً على إدارة الحكم بنفس النهج الذي اتبعه حتى الآن.
      وفي المقابل ثمة وقائع أخرى مغايرة للأسباب السالفة الذكر،من بينها عدم مواكبة الكنيسة للعصر الحديث،فمنذ تسلم البابا منصبه عام 2005 أصبحت الكنيسة أكثر تزمتاً، وخاصة فيما يتعلق بفرضية الحقيقة الحصرية الصالحة لكل زمان ومكان كمعيار عالمي.وهذه الفرضية خلفت اعتراضات كثيرة في كنيسة روما باعتبارها تصر على أن المبادئ والقيم الكاثوليكية غير قابلة للنقاش ، وتنطبق على كافة المجتمعات والسياسات. ما ادى الى انغلاق الكنيسة تجاه العالم الآخر والحوار مع الديانات الأخرى.
     وثمة رأي شائع في الاوسط الكنسية ، إن بنديكت السادس عشر انتخب لتعزيز باباوية البابا يوحنا بولس الثاني التي استمرت 27 عاما، للخير أو الشر. وهذا ما حاول القيام به. فبابوية بنديكت كانت لاهوتيا وسياسيا وتنظيميا تعتبر استمرارا لتلك التي للبابا يوحنا بولس الثاني، بكل مزاياها وعيوبها. وميزتها الرئيسة أنها كانت ليبرالية ووسطية في سياساتها الاجتماعية، وغالبا ما كانت أيضا صريحة بشأن استخدام القوة في القضايا الدولية.أما عيوبها فتظهر في عدم القدرة على إعادة النظر في المذاهب الأخلاقية وموقفها الثابت من الشذوذ الجنسي والعزوبة والإجهاض وتحديد النسل التي تراود العقل الباطني للمجتمعات الغربية وبخاصة الأوروبية ، ما ادى بدوره الى تباين شديد في هذه المسائل بين رجال الدين والعلمانيين ، ما أدى بدوره الى غربة جماعية لهذه المجتمعات عن واقعها الديني. اضافة الى ذلك كان الانهيار في تعيين الكهنوت، الذي ادى بدوره أيضا الى الاتيان بقساوسة من آسيا وأفريقيا إلى اوروبا مع وجود  كم واضح من الفوارق الثقافية.
      استقالة البابا التي اعتبرت بنظر الكثيرين مفاجئة ، فيها القليل من المعلن والكثير من المضمر، وبصرف النظر عن هذه او تلك، فيها الكثير من العِبر التي ينبغي الاستفادة منها، ابرزها الجرأة في الاعتراف بواقع الأمور اولا،  ومحاولة افساح المجال للغير بهدف تقديم الجديد لإصلاح الواقع الموجود ثانيا.والعبرة الأهم في ذلك ان نحاول نحن العرب استنساخها على واقعنا حيث الزعامات باقية ما بقيت حية، فهل ستتغلغل هذه الواقعة الى عقولنا الباطنية ولو بصمت وتريح شعوبا ومجتمعات دفعت الكثير؟ انه سؤال محرج لكن الجرأة هي بالإجابة عنه عند البعض!