26‏/08‏/2012

النأي بالنفس ودخول لبنان حرب الآخرين

النأي بالنفس ودخول لبنان حرب الآخرين
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
نشرت في الخليج الاماراتية بتاريخ 26/8/2012

ثمة معتقدات شائعة في لبنان تصل إلى حد اليقين ،من بينها امكانية حياده عن الصراعات الاقليمية أو المحاور العربية أو غيرها من المسائل والقضايا التي عادة ما يتأثر بها لبنان. وفي الواقع أيضا تُرجم هذا الاعتقاد مؤخرا عبر شعار"النأي بالنفس" التي تحاول الحكومة اللبنانية المضي به،فهل بإمكان لبنان عمليا وواقعيا المضي به للوصول إلى بر الأمان من تداعيات المشاكل والأزمات المحيطة به.

في المبدأ أيضا ، ثمة مزج وخلط بين ان يكون لبنان محايدا بمفهوم الحياد الايجابي عن المشاكل والمحاور الاقليمية ومنها العربية ، وبين ان يتبع لبنان نظام الحياد وفقا للقانون الدولي العام كنموذج سويسرا أو النمسا مثلا .وفي مطلق الأحوال لكلا الحيادين قواعد ومبادئ يبدو من الصعب ان يتمكن لبنان المضي به.
فنظام الحياد وفقا للقانون الدولي يتطلب شروطا من بينها ، ان يكون هناك اتفاق اقليمي ودولي على ذلك وهذا الامر متعذر،بفعل مصالح العديد من الدول في لبنان من بينها اميركا وروسيا وإيران وسوريا والعديد من الدول العربية فضلا عن اسرائيل.والشرط الثاني اتفاق اللبنانيين على ذلك،وهذا الأمر متعذر أيضا فالمجتمع اللبناني بمختلف اطيافه السياسية والطائفية منقسم حول العديد من القضايا المركزية التي يتخبط بها ومن بينها هذه القضية باعتبارها تبعده مثلا عن الصراع العربي الاسرائيلي.والشرط الثالث ان يكون لبنان قادر على حماية حياده بنفسه اذا ما قدر له ان يتخذ هذا المسار،وفي الواقع أيضا هناك استحالة لذلك،فلبنان واقع بين دول عربية وإقليمية تفوقه قوة وقدرة على فرض السياسات والاستراتيجيات. ما يعني ان ثمة استحالة لأن يتمكن لبنان من اتخاذ نظام الحياد كوسيلة للاتقاء من الأزمات المحيطة به.وفي الواقع ان هذا النظام ظل لفترات طويلة خلال المناكفات الداخلية السابقة والحروب الداخلية التي شهدها محلا للمطالبة به وبخاصة من القوى التي تشكل في غالبيتها قوى 14 آذار في لبنان حاليا.
اما حياد لبنان الايجابي فهو أمر مرحب به من غالبية الفرقاء اللبنانيين بصرف النظر عن معتقداتهم وآرائهم،باعتبار ان نوعية هذا الحياد هو في الواقع لا يرتب واجبات قانونية على الصعيدين الاقليمي والدولي تجاه الغير. لكن المشكلة أيضا تكمن في كيفية تطبيقه وإمكانية اجبار الغير أيضا على احترام هذه السياسة التي يعبر عنها حاليا "النأي بالنفس ".
لقد حاول لبنان على الصعيد الحكومي الرسمي بشكل عام ، المضي في هذه السياسة عند اندلاع الأزمة السورية وبخاصة بعدما بدأت تداعياتها تمس اوضاع لبنان الحساسة . وهنا تكمن المشكلة ، فإذا كانت الحكومة اللبنانية راغبة بذلك فهل لديها القدرة على ذلك أيضا؟ ثمة انقسام واضح وكبير بين الفرقاء اللبنانيين حول مقاربة الأزمة السورية وكيفية التعاطي معها، ومن الواضح ان مكونات الحكومة اللبنانية تمثل بشكل مباشر مواقف الاطراف المتباينة،فان تعاطيها مع الأزمة السورية لم يكن بالقدر الكافي الذي ينجح خياراتها السياسية ووسائل تنفيذها ، من هنا كانت سياسة النأي بالنفس رغم أهميتها في هذه الظروف العربية والإقليمية المعقدة غير قادرة على النأي بلبنان عن الكثير من الآثار والتداعيات الكبيرة المتنوعة في أهدافها وغاياتها.
طبعا ان وضع لبنان لا يحسد عليه وفقا للمقاييس السياسية والأمنية المتعارف عليها ، فالرغبة شيء والقدرة على التنفيذ شيء آخر ، وبصرف النظر عن دقة التوصيف من عدمه، فقد دخل لبنان ليس في الأزمة السورية فحسب بل دخل في الحرب السورية شاء ام ابى. فأحداث الشمال مثلا هي حرب أهلية طائفية مذهبية تصل إلى حد العرقية،خطف وقتل واشتباكات وخطوط تماس ووقف للقتال وخرق له،باختصار ان عدة الحرب الأهلية باتت جاهزة كما انها انطلقت فعليا ، ومن ابسط الأمور والوسائل انتقالها إلى غير منطقة لبنانية.
وبصر ف النظر عن التوصيف القانوني أو السياسي للعديد من المفردات والمصطلحات كنظام الحياد والحياد الايجابي والناي بالنفس، لقد وقع لبنان في فخ الاقتتال الداخلي الذي لم يغب عن تاريخه الحديث والمعاصر إلا لعقد ونيف من الزمن ليعود ويطل برأسه من جديد بلبوس وأدوات وواجهات مختلفة.فمن المتعارف عليه ان للبنان حفلة جنون كل خمس عشرة سنة،انها الفترة نفسها التي بدأت من اتفاق الطائف إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ثمة مجالس عسكرية عشائرية،وثمة اعلانات لإنشاء مجالس لحماية المذاهب والطوائف، وثمة قطع طرق واعتصامات،وثمة فلتان في الشارع يصعب على أحد ضبطه،ويتوِّج هذا المشهد السريالي استقالة الدولة من مهامها المفترضة، لا امن ولا قضاء ولا حسيب ولا رقيب،باختصار ثمة تنازل عن السيادة لصالح سيادة امراء الزواريب وفي أحسن الحالات سيادة المذاهب والطوائف المتمثلة بميليشياتها وأحزابها.فأي نأي بالنفس؟ وأي نفس هي التي تأمر بالسوء؟ ان في لبنان وحوله الكثير من أماري السوء، فهل يتعظ اللبنانيون من تجاربهم وتجارب غيرهم؟ ثمة الكثير من الشكوك !