23‏/12‏/2012

عودة صواريخ الحرب الباردة

عودة صواريخ الحرب الباردة
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
بيروت في 16/12/2012
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 23/12/2012

 كادت ازمة الصواريخ الكوبية في العام 1961 ، ان تشعل حربا عالمية ثالثة لولا تدارك كل من الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة لهول ما يمكن ان يتأتى عن الأزمة ، وتمت تسوية الأزمة بطريق دبلوماسي رفيع الأداء والاستثمار المتبادل،فهل ستتمكن كل من موسكو وواشنطن ولوج حل ما لازمة صواريخ الباتريوت في تركيا؟
ربما وقائع وظروف ستينيات القرن الماضي هي مختلفة بعض الشيء في الظاهر، لكنها تحمل نفس الأسباب والمؤثرات في الباطن، فالصواريخ التي نشرها الاتحاد السوفياتي في كوبا،كانت مظهرا من مظاهر تسارع وتيرة الحرب الباردة آنذاك، وتحديا لمتطلبات الأمن القومي الامريكي كما اعتبرته واشنطن. وردا على هذا التهديد عمدت هذه الأخيرة بنشر صواريخ باليستية في تركيا موجهة إلى الاتحاد السوفياتي وكتلته، وهي المنطقة التي تعتبرها موسكو الخاصرة الرخوة لها كما تمثل كوبا لواشنطن.
أتى الحل الدبلوماسي آنذاك بعد الاحتكام إلى عبر التاريخ وبالتحديد إلى أسباب وكوارث الحرب العالمية الثانية، عبر كتاب وزعه الرئيس الامريكي على مستشاريه الأمنيين والعسكريين، الذين تأثروا به وتراجعوا عن مواقفهم الداعمة للمواجهة العسكرية مع موسكو.
اليوم تم نشر صواريخ "الباتريوت" في تركيا ، وصلا بالأزمة السورية وتداعياتها المحتملة على دول المنطقة ، قابله تصميم وتحذير بنشر صواريخ "اسكندر" الروسية ، ما يعيد خلط الأوراق مجددا ولكن بمستويات توتير اعلى، ما يسمح أيضا بتكوين عناصر أزمة دولية متفاقمة يصعب السيطرة عليها،بالنظر إلى ابعادها وتداعياتها التي ستطال فواعل اقليمية فاعلة في الأزمة السورية وبالتحديد ايران على سبيل المثال لا الحصر.
طبعا ان المعلن من أهداف صواريخ الباتريوت هي واقعية من الناحية العملية لو حُصر الموضوع في النطاق السوري تحديدا،لكن الأمر يتعدى نطاق الجغرافيا السياسية للأزمة السورية إلى المدى الحيوي الأوسع الذي يشمل طهران وموسكو أيضا. بخاصة ما اثير سابقا عن موضوع نشر الدرع الصاروخية ضمن حلف الناتو كمظلة امنية اوروبية بمواجهة الدور الروسي المتنامي وعودته ال الساحة الدولية بقوة في اطار مشروع بوتين الاورو آسيوي. علاوة على تصاعد التوتير الايراني الاسرائيلي على قاعدة البرنامج النووي وما تم من حرب بالواسطة كان آخرها قصف اسرائيل لمصنع اليرموك في السودان.
ان ما يجري من نشر للصواريخ ونشر مضاد ، يعني في علم الأزمات الدولية ، ان ثمة استعداد للتصعيد لدى أطرافها ، وهذا لا يعني بالضرورة الوصول إلى مواجهات عسكرية مباشرة ، وإنما من ضمن السيناريوهات المحتملة اعادة تموضع سياسي بشروط التسوية التي يمكن ان تكفل مصالح أطراف الأزمة المحليين والإقليميين والدوليين، وهذا ما يحاول كل طرف الوصول اليه منذ اندلاع الأزمة السورية.
ربما ان الوضع القائم حاليا ، قد كوّن بيئة قابلة للبناء عليها واستثمارها مستقبلا، فالحلول الامنية والعسكرية هي عمليا مقفلة ومن الصعب التوصل عبرها إلى حل ما ، ما يعني ضرورة الولوج بحلول تسووية تدار آلياتها ووسائلها على طريقة ادارة الازمة بالأزمة،وهي من الطرق الفاعلة والمجربة بين موسكو وواشنطن في عقود الحرب الباردة سابقا، ومن الواضح ان بؤرة الأزمة الحالية وتفاعلاتها تشير إلى لجوء الطرفين إلى مثل هذه الوسائل.
اليوم لا موسكو ولا واشنطن مستعدتان لخوض مواجهات عسكرية بهدف تحقيق بطولات وهمية، فلكل منهما مصالح حساسة في الشرق الأوسط من الصعب تجاوزها أو غض الطرف عنها ، والمضي في السبل والوسائل الدبلوماسية امر منتج ومربح للطرفين في ظل ما يحكى عن متغيرات في السياسة الخارجية الامريكية بعد تعيين جون كيري كخليفة لهيلاري كيلنتون،وما يقال عن موقعه ودوره وأسلوب عمله في ادارة الأزمات سابقا.
انتهت أزمة الستينيات بسحب الصواريخ السوفيتية من كوبا مقابل سحب الصواريخ الاطلسية من تركيا، فهل سيعيد التاريخ نفسه بشروط مختلفة وبتقاسم نفوذ جديد؟ تاريخيا حرصت موسكو على بقاء مضيقي الدردنيل والبوسفور ممرا آمنا لها بهدف الوصول إلى المياه الدافئة ، وهي تعرف ثمن ذلك جيدا، لذلك لا تستطيع إلا التحرك في نطاق ادارة الأزمة لا تفجيرها،وفي المقابل تدرك وتعرف واشنطن ،ان مثل تلك الأزمات لا يمكن حلها إلا بطرق التسوية،لأن الحروب مكلفة جدا عليها،بعد حربين اقليميتين كبيرتين في افغانستان والعراق في زمن لم يتجاوز السنتين ونيف.