28‏/12‏/2012

ماذا بعد استفتاء مصر؟


ماذا بعد  استفتاء مصر؟
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
بيروت : 23/12/2012
نشرت في صحيفة الخليج الاماراتية بتاريخ 28/12/2012



 
       تشكل عمليات الاستفتاء عادة في الدول والمجتمعات الديموقراطية الحديثة، مناسبة لتحكيم لغة العقل والمنطق في القضايا الخلافية الكبرى، وهي مناسبة أيضا للاحتكام للغة الارقام.لكن الأمر يبدو مختلفا في الدول والمجتمعات التي لم تتعود أصلا على مثل تلك السياقات الدستورية ، حيث تصبح تلك الاجراءات مناسبة أخرى لتعميق الخلافات وتصعيدها إلى مستويات تبدو في غالب الأحيان مدمرة وغير مرغوبة.
      وحالة مصر اليوم، تبدو متجهة في هذا السياق، ثمة خلافات على أصل الموضوع، وجاء الاستفتاء ليكون مناسبة أخرى لكشف المستور عن حراك تصوره البعض نموذجا يحتذى به للتغيير، إلا ان التدقيق في الكثير من القضايا يظهر عكس المأمول ،بل ما يجري يؤسس لصور قاتمة، يتجه المجتمع المصري نحوها بخطوات متسارعة .
      جيران مصر الاقربين كالحالة الليبية واليمنية والسورية ، جميعها تشكل نماذج واضحة لعدم القدرة على التغيير في ظل الاحتكام إلى لغة الدم. وهو أمر بات بحكم المعتاد عليه في الواقع السياسي والاجتماعي لهذه الدول، بل بات امرا مقضيا ، لا سبيل لرد القضاء فيه. فظروف مصر الذاتية، تتهيأ لما هو أقسى وأشد ايلاما ،ثمة انقسام عامودي يفتك بقواعد اللعبة السياسية المفترضة ،وبحسب سوابق واضحة في مجتمعات مماثلة ، أدى هذا الانقسام إلى صدامات دموية غير حاسمة ،بل شكلت حالات استنزاف لقوى النظام والشرائح السياسية والعسكرية المعارضة له.
      وإذا كانت الظروف الذاتية المصرية ، قد تهيأت واتخذت اشكالا وأنواعا موصوفة،فان الظروف الموضوعية لا تقل خطرا، بل تعتبر بيت القصيد للنتائج المحتملة للانقسام الحاصل حاليا. فتطورات الأزمة السورية مثلا ، ذهبت وبشكل لا يقبل الشك ، إلى ان الهدف منها استنزاف القوى السورية نظاما ومعارضة حتى الرمق الأخير،والأمر نفسه ينسحب على الحالة اليمنية،وكذلك الليبية وان بأشكال وصور مختلفة في الشكل، فهل ما ينتظر مصر الأمر عينه؟
       ان التدقيق في الجهة التي تحصد المكاسب والمصالح لهذه الحالات كلها، تبدو اسرائيل ، الوحيدة المستفيدة من تداعيات وآثار تلك النتائج. فماذا يضر بإسرائيل ان كانت  محاطة بدول مستنزفة القوى، مقسمة بين قوى سياسية واجتماعية تتصارع على جنس الملائكة ، وتبني لها قصورا وأحلاما في أنظمة تبدو ليست مختلفة عما سبقها.
       لقد تعوّدت مجتمعاتنا العربية وأنظمتها ، على العديد من الوسائل في ممارسة السلطة والتي تعتبرها من أسس قوتها وبقائها. بدءا من دمج الدين بالواقع السياسي الذي تفرضه كمسوغ لممارسة السلطة ، مرورا بالإبداع والتفنن في طرق ووسائل اعادة انتاج آليات الاستبداد لحكم المجتمعات، وصولا إلى استعمال الوسائل الديموقراطية لفرض شتى صنوف الديكتاتورية.
       ربما الاستفتاء في مصر ، شكل حالة متقدمة في مظاهر الحراك العربي القائم، وينبغي ان يكون مفتاحا سحريا لحل مشاكل مزمنة تعيشها مجتمعاتنا العربية، لكن ما حصل وما يمكن ان يحصل مستقبلا ، سيشكل عاملا مضافا للخوف والتوجس من ممارسة الحقوق الديموقراطية،وكأن المراد من هذه التجربة ، محاولة ترسيخ الأوجه السلبية في ذاكرتنا الجماعية وإجبارنا على التيقن بأننا مجتمعات لم تصل إلى مستوى الرشد السياسي لكي تقرر مصيرها.
      الخوف كل الخوف ، ان تحذو مصر حذو من سبقها من الشقيقات العربيات، وعندها ستكون الكارثة الكبرى التي سيفوق حجمها ونوعها كل النكبات والنكسات التي مرّت بها امتنا العربية سابقا وربما لاحقا. المطلوب اليوم من مختلف الشرائح الاجتماعية والسياسية الاصغاء إلى صوت الحكمة والعقل في تدبير ليس مستقبل مصر فقط، وإنما مجمل الواقع العربي بدوله ونظمه ومجتمعاته. لأن سقوط مصر في أتون الصراع الداخلي سيعني ان العرب ذهبوا بعيدا ، بإرادتهم أو بدونها إلى خارج التاريخ وربما الجغرافيا أيضا.
       ان تجربة الجزائر في تسعينيات القرن الماضي،وقبلها لبنان، كما اليوم كل من اليمن وليبيا وسوريا والسودان، جميعها تحمل من الصور القاسية التي توجب على مصر بمختلف شرائحها التفكر والتبصر بما هو آت، فالمهم ان يعي اطراف النزاع الداخلي ، وجوب بقاء الدولة قبل التفتيش عن نظام سياسي لها.