25‏/03‏/2013

حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة


حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة
 د.خليل حسين
        يمثل ميثاق الأمم المتحدة نقطة تحول في مجال الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته، إذ حرص واضعوه على تضمينه نصوصا صريحة تصون للإنسان - فرداً وجماعة - حقوقه وحرياته وتهتم بها اهتماماً دقيقاً ، وهي سمات تميز بها عن عهد عصب الامم. وكانت صياغة هذه الحقوق أكثر دقة ووضوحاً وتحديداً من الإعلانات الوطنية التي اقتصرت على ذكر بعض مظاهر الحقوق والتأكيد على بعضها وإغفال بعضها الآخر. كما ان تناول الميثاق لتلك الحقوق كان أكثر تناسقا ،وظهر من خلاله الفرد أكثر أهمية في مجال العلاقات الدولية والقانون الدولي.وبذلك اعتبر الميثاق أول معاهدة متعددة الأطراف في تاريخ العلاقات الدولية ، والتي اقرت مبدأ احترام الحقوق والحريات، وجعلته هدفاً من الأهداف الأربعة الأساسية التي تسعى المنظمة الدولية لإنجازها.
        وبذلك يعد ميثاق الامم المتحدة، الوثيقة الدولية الأولى ذات الطابع العالمي أو شبه العالمي الذي تضمن النص على مبدأ حقوق الإنسان.
        فميثاق الأمم المتحدة هو معاهدة جماعية توافقت فيها إرادة أعضاء المجتمع الدولي، بهدف تحديد قواعد القانون الدولي التي تحكم العلاقات بين الدول، وتقر السلام والعدل، وتدفع الرقي الاجتماعي للشعوب قدماً، فالميثاق من قبيل المعاهدات الشارعة التي تفرض على الأطراف المتعاقدة الالتزام بهذه القواعد وتحتم سيادتها على قواعد القانون الوطني بما في ذلك الدستور الداخلي.
        وقد أعرب عدد كبير من الفقهاء المعاصرين، عن إيمانهم بأن المجتمع الدولي بتوقيعه وتصديقه على ميثاق الأمم المتحدة، قد أقرَّ بأن حقوق الإنسان لم تعد مسألة وطنية داخلية، بل إنها أصبحت من مسائل القانون الدولي، وافترضوا بناءً على ذلك أن الميثاق قد خوَّل الفرد بعض الحقوق الدولية المباشرة.
        ويعتبر الميثاق اللبنة الأساسية الأولى التي كان لها فضل كبير بالإسهام في بلورة فروع القانون الدولي لحقوق الإنسان ، التي تعد من الفروع المتميزة للقانون الدولي العام، وعلى الرغم من انه لم يعدد أو يسرد، قائمة حقوق الإنسان والحريات الأساسية، فإنه أدخل على قواعد القانون الدولي العام مبدأ احترام حقوق الإنسان، وفرض على الدول الالتزامات المقابلة لهذه الحقوق والحريات(.  
 
 
المطلب الأول
مكانة حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة
        ثمة العديد من النصوص التي وردت في ميثاق الامم المتحدة التي تشير إلى حقوق الانسان بمختلف مجالاتها وانواعها، والتي حثت على تطويرها وتعزيزها عبر آليات ووسائل محددة.
اولا: نصوص حقوق الانسان في ميثاق الأمم المتحدة
        يتألف الميثاق من تسعة عشر فصلاً تتضمن مائة وإحدى عشرة مادة. إذ جاء في ديباجته ، تأكيد شعوب الأمم المتحدة لإيمانها بحقوق الإنسان وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية. كما نصت على هدف الدفع بالرقي الاجتماعي قدماً، ورفع مستوى الحياة في جو فسيح من الحرية، وإن ما جاء في الديباجة من مقاصد وأغراض الأمم المتحدة ، قد عكس رأياً عالمياً معاصراً، وأن الوظيفة الأولى للأمم المتحدة تتمثل في حفظ السلم والأمن الدوليين. وقد بات راسخاً اليوم الاعتقاد بأن الاحترام العام لحقوق الإنسان ولحرياته الأساسية شرط لحفظ السلم والأمن الدوليين، بل ولاحترام القانون عموماً.وقد حددت المادة الأولى من الميثاق أهداف ومقاصد الأمم المتحدة وجعلت من بين هذه الأهداف في فقرتها الثالثة: "تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً ، دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين،  ولا تفريق بين الرجال والنساء".
        ونصت المادة (8)، على "أنه لا يجوز للأمم المتحدة أن تضع أية قيود على أهلية الرجال والنساء للمشاركة في أجهزتها الفرعية في أية وظيفة وبمقتضى شروط المساواة".
        وأشارت المادة (13) من الميثاق إلى هذه الحقوق وهي تبين وظائف الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الفقرة (ب) بالقول: إلى أن الجمعية العامة تنشئ دراسات، وتشير بتوصيات لمقاصد عديدة منها: "الإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة بلا تمييز بينهم في الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء".
        وبما أن حقوق الإنسان لا تقتصر فقط على الحقوق المدنية والسياسية ، وإنما تشمل أيضاً الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ً، لذا خصص الميثاق الفصل التاسع منه للتعاون الدولي والاقتصادي والاجتماعي، حيث أشارت المادة 55 منه على أنه : "رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة وودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على: "..... أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تميز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلاً" ".
        وبهدف إعطاء النص أعلاه قيمة قانونية أكبر، فقد نصت المادة 56 على أن "يتعهد جميع الأعضاء (في الأمم المتحدة) بأن يقوموا، منفردين أو مشتركين، بما يجب عليهم من عمل بالتعاون مع الهيئة لإدراك المقاصد المنصوص عليها في المادة الخامسة والخمسين"، وهذا النص يعد المستند التشريعي لالتزام الدول بالتعاون مع الأمم المتحدة بصدد الحماية الدولية لحقوق الإنسان، وهو من أهم النصوص التي وردت في الميثاق.
        ونصت المادة 62 الخاصة بوظائف وسلطات المجلس الاقتصادي والاجتماعي في الفقرة الثانية منه: ".... وله أن يقدم توصيات فيما يختص بإشاعة احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية ومراعاتها".
        وفي المادة 68 نصت على أنه: "ينشئ المجلس الاقتصادي والاجتماعي لجاناً للشؤون الاقتصادية والاجتماعية ولتعزيز حقوق الإنسان، كما ينشئ غير ذلك من اللجان التي قد يحتاج إليها لتأدية وظائفه".
        وأخيراً واتساقاً مع مقاصد الأمم المتحدة المبينة في المادة الأولى من الميثاق. حيث نصت المادة (76) في الفقرتين (ج، د) على أن من بين أهداف نظام الوصاية الدولي- والذي حل محل نظام الانتداب القائم في ظل عصبة الأمم : "العمل على ترقية أهالي الأقاليم المشمولة بالوصاية في أمور السياسة والاجتماع والاقتصاد والتعليم، وإطراد تقدمها نحو الحكم الذاتي أو الاستقلال، وكذلك التشجيع على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، ولا تفريق بين الرجال والنساء...".
        وبهدف ترجمة ونقل هذه النصوص من الواقع النظري إلى الواقع التطبيقي والفعلي، فقد ركزت الأمم المتحدة جُلّ اهتمامها باتخاذ زمام المبادرة لصياغة العديد من الإعلانات والمواثيق أو الاتفاقات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية سواء في مجملها أو من خلال التركيز على طوائف محددة منها، هذا من جهة ومن جهة أخرى، الاهتمام بإنشاء آليات أو أجهزة خاصة مهمتها الإشراف على كفالة الاحترام الدولي لهذه الحقوق والعمل على ترقيتها وتطويرها وتوسيع نطاق القبول بها في مختلف دول العالم.
        وللإشراف على تطبيق هذه النصوص، تم اعتماد النظام الاختياري أو غير الإكراهي، وذلك تحسباً ومراعاةً لجانب سيادة الدول. وكما جاء في الميثاق ، فإن هذا النظام تمثل بآلية تقديم التقارير والدراسات التي يمكن أن تطلبها الجمعية العامة أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول حقوق الإنسان عموماً أو حول البعض من هذه الحقوق. إذاً فإنه نظام اختياري قد يؤدي عموماً إلى توجيه ملاحظات ضمن توصيات غير إلزامية.
 
ثانيا : القيمة القانونية لنصوص الميثاق
        أشارت المادة (56) صراحة إلى أن الدول الأعضاء تتعهد بمقتضاه القيام بما يجب عليهم عمله من أجل التعاون مع المنظمة لتحقيق مقاصدها فيما يتعلق بحقوق الإنسان، إلا أن الفقه اختلف بشأن حدود القيم الإلزامية لمجمل نصوص الميثاق الواردة بهذا الخصوص، ونتيجة لذلك تعددت الاتجاهات بهذا الخصوص كما يلي:
1. الاتجاه الأول، يرى أنصار هذا الاتجاه أن النصوص ذات الصلة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي تضمنها الميثاق ، لا تفرض التزامات قانونية محددة على الدول الأعضاء في المنظمة، وأنها جاءت فقط لكي تشرح أو توضح أهداف هذه المنظمة الدولية، بحيث تساعد العبارات التي تضمنتها على تفسير الالتزامات التي تتعهد بها الدول الأطراف في الميثاق دون أن تكون في حد ذاتها مصدر التزام، وأنها تعدد وظائفها في هذا الشأن ليس إلا. وبالتالي فإن هذه النصوص، لا تعدو أن تكون ذات قيمة أدبية أو أخلاقية باعتبارها قد وردت ضمن اتفاق دولي منشئ لأعلى منظمة دولية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية.
2. الاتجاه الثاني، ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى تأييد الاتجاه الأول ، باعتبار أن الميثاق لم يحدد حقوق الإنسان التي أوجب حمايتها، كما أن الميثاق لم يعط الأمم المتحدة صلاحية التدخل لضمان هذه الحقوق في حالة انتهاكها أو الخروج عليها، إلا إذا هددت المشكلة السلم والأمن الدوليين، وأخيراً فإن الميثاق لم ينظم وسائل حماية حقوق الإنسان، ولم يجز للأفراد أو للجماعات أن يتظلموا من أي مساس بحقوقهم.
3. الاتجاه الثالث، يقول بأن النصوص التي أوردها الميثاق بشأن حقوق الإنسان، وإن كانت لا تنطوي على قيمة قانونية إلزامية، إلا أنه يأخذ قوته باعتباره أحد المبادئ العامة التي تُبنى عليها سياسة المنظمة الدولية، شأنها في ذلك شأن غيرها من قواعد القانون الدولي. وإن هذه القوة هي التي تمثل أحد المداخل المهمة لتمكين هذه المنظمة من تحقيق مقاصدها التي أُنشئت من أجلها.
4. الاتجاه الرابع والأخير، هو الذي ينضم إليه غالبية فقهاء القانون وأساتذة العلوم السياسية، والذي مؤداه أن نصوص الميثاق المتعلق بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية لها قوة قانونية ملزمة بدون شك وسندها في ذلك ليس فقط ما جاء في الديباجة أو في نص المادتين (55) و(56) السالفي الذكر، وإنما أيضاً في نص المادة (13) منه التي ألزمت الأمم المتحدة بالعمل على أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والإعانة على تحقيقها.
ونحن نؤيد هذا الاتجاه الاخير، باعتبار أن نصوص الميثاق المتعلق بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية تتسم بالصفة القانونية الملزمة ، بالاستناد إلى أنها تعني ضمنياً أن الدول ملتزمة من جانبها بمراعاة هذه الحقوق تجاه مواطنيها أو رعاياها ، وهذا ما هو واضح بوجود التزام ضمني في نصوص المواد (55 و56 و13).
وهكذا ، فإن حقوق الإنسان وانتهاكاتها لم تعد من الاختصاصات المطلقة للدولة، ولا ينطبق عليها نص الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على أنه: "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لكي تحل بحكم هذا الميثاق...".
        فحقوق الإنسان في هذه الحالة لا تعد أمراً داخلياً بحتاً، ولا بد من تدخل واهتمام المجتمع الدولي، وعلى هذا الأساس كانت للأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة من مبررات، وذلك لإدانة الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان سواء في جنوب أفريقيا أو في الأراضي العربية المحتلة.
        وبذلك صارت السيادة حجر الزاوية في تشريعات حقوق الإنسان بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يتحدث عن علاقة حكومات ذات سيادة بشعوبها، ولكن السيادة المطلقة تراجعت إلى الحد الذي أصبحت الأمم المتحدة فيها ممثلة لمجتمع الأمم ككل، وبذلك تكون سلطتها أعلى من سلطة الحكومة.
         ولأغراض إنسانية، فإن القانون الدولي اعترف عادة بمبدأ التدخل العسكري، وأن ميثاق الأمم المتحدة أصلاً صمم ليقصر استخدام القوة على حالة الدفاع عن النفس وحالة العمل الجماعي لحماية السلام وحقوق الإنسان. ومن أبرز التدخلات التي أجازتها الأمم المتحدة، حالة كردستان العراق 1991 بذريعة حماية حقوق الإنسان، والصومال 1992، إذ يجمع الفقه على أن عملية "استعادة الأمل" تعد أول عملية إنسانية حقيقية للأمم المتحدة، وهي مثال للتدخل الإنساني العسكري، وكذلك هاييتي في العام 1994، حيث أصدر مجلس الأمن قراره الرقم 1994/940 الذي أكد أن هدف المجتمع الدولي هو إعادة الديمقراطية، وتسهيل عودة الرئيس المنتخب(. ويؤكد بعض الفقهاء أن مبدأ التدخل الدولي لأغراض إنسانية أضحى أمراً وارداً، له ما يسوغه قانوناً وواقعاً. لكن هذا البعض يطالب عند الأخذ به مراعاة أربع ضوابط أساسية.
‌أ.       اعتبار التدخل الإنساني استثناءً للقاعدة.
‌ب.  اعتبار هذا التدخل آخر البدائل المتاحة، وحصوله بعد استنفاذ الوسائل الأخرى التي تحترم فيها السيادة الوطنية للدولة المستهدفة، مع الالتزام بأن لا ينتج التدخل آثاراً أكثر ضرراً وأشد خطورة مما لو ترك الأمر بعهدة الدولة المعنية.
‌ج.    وجود رفض التدخل من جانب دولة واحدة أو من جانب عدد محدود من الدول، حتى لو كان ذلك بدعوى حماية المواطنين أو إنقاذ الرعايا من مخاطر محتملة.
‌د.      التشديد على وجوب الاعتماد في مثل تلك الحالات الخطيرة من الانتهاكات، على المنظمات الدولية أو الإقليمية المختصة للقيام بتدخل جماعي ومدروس ومنظم بعيداً عن الأهواء والمصالح الخاصة. وسواء كان هذا التدخل أممياً أو إقليمياً بتفويض أو بدون تفويض، فإن الرأي الفقهي الغالب أنه لا يوجد حق مقرر للتدخل الإنساني، فليس من حق دولة أو مجموعة من الدول أن تخرق السيادة الوطنية أو الاستقلال لدولة أخرى بحجة مساعدة شعب تلك الدولة لما قد يكتنف ذلك من دوافع سياسية.
        وفيما يتعلق بسوريا، فإن مبدأ السيادة الوطنية والمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التي تمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدولة، لم يعودا أمراً حائلاً أمام حق مجلس الأمن في التدخل الدولي. وإن كانت التوازنات والمصالح الدولية المتناقضة تمنع ذلك حتى الآن. لكن لا شيء يمنع هذا التدخل مستقبلاً من قبل مجلس الأمن في حال تغيرت الظروف ودخلت القضية السورية بازار المساومات الدولية.
        ولأن قضايا حقوق الإنسان تخضع غالباً للتسييس من قبل المجتمع الدولي، فإن التزام الأطراف جميعاً بالعملية السياسية المتمثلة بخطة المبعوث الدولي كوفي أنان، والدخول في عملية حوار وطني جامع ووقف أعمال القتل والتدمير والإرهاب من قبل جميع الأطراف، واحترام النظام لمبادئ حقوق الإنسان وحرياته خصوصاً حرية الرأي والتعبير، فضلاً عن القوانين الدولية والإنسانية والمواثيق المتعلقة، قد يكون نقطة الأمل الوحيدة المتبقية، وإن كانت تأخرت لتجنب أتون حرب أهلية قد تحرق نارها الجميع إن وقعت.
        يتضح لنا مما سبق بأن مسائل حقوق الإنسان لم تعد حكراً على الدول، بل أصبحت شراكة بين الدولة والمجتمع الدولي ومنظماته الدولية، ويكون من حق وواجب أجهزة الأمم المتحدة التدخل في شؤون أي دولة يتم فيها الإساءة لحقوق الإنسان. وهذا ما يظهر بوضوح تماماً من الفصل الأول من الميثاق الذي يحدد مقاصد المنظمة ومبادئها، إذ تعد حماية حقوق الإنسان من الأهداف الرئيسية للأمم المتحدة.
        لقد كانت الإشارات المتعددة لحقوق الإنسان ضمن نصوص الميثاق تُعد مسألة راديكالية وثورية في حينه، وهو بدوره يمثل إقراراً بدور القانون الدولي في حماية حقوق الأفراد و"طلقة الخلاص" على مفهوم "الاختصاص الإقليمي المانع" في مواجهة مواطني الدولة والمقيمين فوق إقليمها.
        بشار إلى أن الأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة ذات الصلة بحقوق الإنسان جاءت "متناثرة أو مبعثرة، أو موجزة وغامضة".كما لم يشتمل على نظام شامل يعالج حقوق الإنسان ، بمعنى أنه لم يضع قانوناً لحقوق الإنسان، ولم يرد منها تحديداً لماهية حقوق الإنسان الواجب حمايتها، كما لم يحدد واجبات الدول والتزاماتها في حماية هذه الحقوق. وإنما أنصبت غالبية نصوص الميثاق حول حماية السلم والأمن الدوليين. وذلك لأن ما تعرضت له شعوب العالم من القتل والدمار والتشرد خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية ، كان بسبب الصراعات الدولية بسبب المصالح المادية والرغبة في السيطرة على ثروات الشعوب، حيث لم تكن تلك الحروب ناتجة عن انتهاكات حقوق الإنسان. وكان قتل المدنيين من الأطفال والنساء وتشريدهم، وتدمير الممتلكات يعود إلى رغبة الدول بالسيطرة والاستحواذ. كما أن الميثاق لم يأمر الدول الأعضاء بوضع قوانين عملية مناسبة ، ولم ينشئ جهاز للتنفيذ ولم تحدد أية عقوبات، وتمثل المادة (56) فقط تعهداً من جانب جميع الدول الأعضاء بالقيام منفردة أو مجتمعة بما يجب عليها، من عمل لتحقيق الأهداف المنصوص عليها في نفس المادة.
        كما ان الفقرة السابعة من المادة الثانية لم تحدد الحالات التي يمكن أن تتدخل فيها الأمم المتحدة مما جعل المعيار غير ثابت، ويخضع للأهواء السياسية والمصالح الاقتصادية للدول الكبرى.
        وعلى الرغم من الملاحظات السالفة الذكر فقد استطاعت الامم المتحدة أن تحقق ثورة كبرى في كلا المجالين، التنظيم والقانون الدوليين. وهكذا حققت خطوات كبيرة في مجال حماية حقوق الإنسان، وفتحت الباب واسعاً أمام خطوات جديدة في مجال حماية حقوق الفرد وحرياته الأساسية، من خلال آليات ووسائل عديدة منها تصدي أجهزة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان لمهمة إعداد المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ، ووضع مشاريع الاتفاقيات والمقررات، وممارسة الضغوط السياسية على الدول، وإدانة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من ناحية، واستحداث آليات دولية لحماية هذه الحقوق والحريات، كإنشاء المحاكم الجنائية الدولية لمعاقبة مرتكبي أشد هذه الانتهاكات خطورة من ناحية أخرى.
المطلب الثاني
اجهزة الامم المتحدة وحقوق الانسان
        لم يقتصر دور الأمم المتحدة في حماية حقوق الإنسان على النصوص الواردة في الميثاق، بل انشئ عدد من الأجهزة بهدف مراقبة تطبيق ومتابعة حماية واحترام الحقوق والحريات التي تضمنها الميثاق والمواثيق الدولية الأخرى.
        وبما أن إرادة أي شخص من أشخاص القانون الدولي يكونها ويعبر عنها إرادة جهاز أو عدد من الأجهزة أو شخص ما، فإن المنظمات الدولية كشخص من أشخاص القانون الدولي يقوم بالتعبير عنها الأجهزة التي تتكون منها المنظمة ، لأنها في واقع الحال لا تمارس اختصاصاتها مباشرة وإنما تُمارس نيابة عنها عبر جهاز أو شخص ما. وبصرف النظر عما يمارس الاختصاصات فإنه يمارسها باسم ولحساب المنظمة التي يمثلها، باعتباره ليس منفصلاً عنها، وإنما كل منهما يعتبر أداة تستخدمها المنظمة ككيان واحد يكمل بعضه البعض.
        وهكذا فقد نص ميثاق الأمم المتحدة على إنشاء عدد من الأجهزة الرئيسية فيها، وتشكل حقوق الإنسان جانباً من اختصاصات هذه الاجهزة كل حسب دوره في المنظمة.وفيما يلي سوف نتطرق إلى أهم ثلاثة أجهزة في المنظمة التي تمارس اختصاصاتها في ميدان حقوق الإنسان بصورة مباشرة وهم:
 
أولا الجمعية العامة (General Assemby)
        تعتبر الجمعية العامة من أبرز أجهزة الأمم المتحدة باعتبارها الجهاز الرئيسي العام في المنظمة الذي يضم بين جنباته كل أعضائها، فضلاً عن تمتعها بسلطات عامة، إذ لها أن تناقش أية مسألة أو أمر يدخل في نطاق الميثاق، أو يتصل بسلطات ومهام جميع الأجهزة الأخرى للأمم المتحدة
        ومهام الجمعية العامة في إطار حقوق الإنسان، حسبما جاء في الميثاق، أنها تعد الدراسات وتقدم التوصيات بقصد التعاون الدولي في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحة، والإعانة على تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس كافة دون التمييز لجهة الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.
        وتحيل الجمعية العامة معظم القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والمحالة إليها من المجلس الاقتصادي والاجتماعي أو من اللجان المختصة برصد تطبيق الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، إلى اللجنة الرئيسية الثالثة(التابعة لها. ومع ذلك فمن الجائز أن تحال بعض هذه القضايا إلى اللجان الرئيسة الأخرى
        وتقوم الجمعية العامة من وقت لآخر بإنشاء أجهزة فرعية، ذات طابع مؤقت أو خاص، وكذلك لجاناً خاصة من أجل مساعدتها في تأدية المهام الملقاة على عاتقها فيما يتعلق بحقوق الإنسان مثل اللجنة الخاصة بالوضع المتعلق بتطبيق الإعلان الخاص بمنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة لعام 1961 واللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري لعام 1962 وغيرها(
        يشار إلى أن الجمعية العامة هي أكثر أجهزة الأمم المتحدة التي تتبنى الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان سواء في صورة إعلانات أو قرارات أو توصيات أو اتفاقيات دولية أو غيرها، فهي التي تبنت الميثاق الدولي لحقوق الإنسان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين)، وكذلك أغلب الوثائق الدولية الهامة الأخرى التي صدرت عن الأمم المتحدة،وهي التي تصدر القرارات بشأن تعزيز وحماية حقوق الإنسان في دول العالم كافة، وتصدر القرارات لتوجيه أعمال المجلس الاقتصادي والاجتماعي واللجان المتفرعة عنه المعنية بحقوق الإنسان.
        وتؤلف القرارات التي تصدرها الجمعية العامة سنوياً والمتعلقة بحقوق الإنسان والمعتمدة من اللجنة الثالثة، نسبة هامة من القرارات مقارنة مع التي تصدر عن باقي لجان الجمعية العامة، نظرا لازدياد الاهتمام الدولي بقضايا حقوق الإنسان  إضافة إلى أن للجمعية دور في عقد المؤتمرات وإقامة العديد من الأنشطة المتعلقة بحقوق الإنسان، مثل دعوتها للمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي عقد في طهران عام 1968، والمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي عقد في فيينا عام 1993
        ونستخلص من كل ذلك ، بأن للجمعية العامة دور كبير في هذا المضمار عن طريق إجراء الدراسات وتقديم التوصيات وإصدار القرارات لتعزيز حقوق الإنسان وحمايته عن طريق تعزيز التعاون الدولي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسعي لأجل تمتع جميع الناس بكافة حقوقهم الأساسية دون تفرقة بسبب الجنس أو العنصر أو اللغة أو الدين.
ثانيا: المجلس الاقتصادي والاجتماعي The Economic and Social Council
        يُعد هذا المجلس من الأجهزة الرئيسية التابعة للأمم المتحدة، ومن أهم الهيئات التي تتناول قضايا حقوق الإنسان بين اختصاصاتها، حيث اللجان المعنية بحقوق الإنسان تمارس نشاطاتها ضمن مظلة المجلس، والتي تعرف باللجان الوظائفية أو الفنية وعن طريق لجنة تابعة لهذا المجلس يتم التشاور مع المنظمات غير الحكومية التي أصبحت تشكل عنصراً مهماً في أعمال لجان حقوق الإنسان، وهذه الترتيبات قد يجريها المجلس مع هيئات دولية، او هيئات أهلية اذا رأى ذلك ضروريا بعد التشاور مع بعض كيانات الأمم المتحدة. وهذا ما نصت عليه المادة (71) من الميثاق
        كما يعتبر المجلس لاقتصادي والاجتماعي أداة الأمم المتحدة في العمل لتحقيق مقاصدها الاقتصادية والاجتماعية التي نصت عليها الفقرة الأولى من المادة (65) ، يستمد هذا المجلس اختصاصه من الميثاق. فله أن يضع دراسات فيما يتعلق بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية والدولية([1])، وله أن يقدم توصيات فيما يختص بإشاعة احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية ومراعاتها([2])، وله كذلك أن يعد مشروعات اتفاقات لتعرض على الجمعية العامة عن مسائل تدخل في دائرة اختصاصه([3])، كما له أيضاً أن يدعو إلى عقد مؤتمرات دولية لدراسة المسائل التي تدخل في دائرة اختصاصه، وفقاً للقواعد التي تضعها الأمم المتحدة([4]). وإقامة الصلة بين الأمم المتحدة وبين الوكالات الدولية المتخصصة وذلك بموجب اتفاقيات خاصة .وحسبما جاء في الميثاق فإن للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، الحق في أن ينشئ لجاناً للشؤون الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز حقوق الإنسان، كما ينشئ غير ذلك من اللجان التي قد تحتاج إليها لتأدية وظائفه([5]). وتطبيقاً لذلك فالمجلس تبنى موضوع تشكيل لجنة حقوق الإنسان()(Commission of Human Rights) التابعة للمنظمة منذ عام 1946. وكذلك اللجنة الخاصة بوضع المرأة واللجنة الفرعية لمحاربة الإجراءات التمييزية وحماية الأقليات. وهناك لجان فنية تابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، كما شكل المجلس لجاناً دائ، ولجان دوري، ولجان فرعي، ولجان مؤقت، ولجان مختصة، ولجان إقليمية
        لقد أسهم المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وما زال يسهم بدور هام في إطار حماية حقوق الإنسان داخل الأمم المتحدة، فعبر طريقه يتم إرسال ما يتعلق بحقوق الإنسان إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما اتخذ عام 1959، القرار رقم (F 728)  الذي جاء فيه أن الشكاوى المرسلة إلى الأمم المتحدة بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان، يجب إعداد قائمة سرية بها لترسل إلى لجنة حقوق الإنسان، واللجنة الفرعية لمحاربة الإجراءات التمييزية وحماية الأقليات. كما تبنى المجلس سنوياً العديد من القرارات الخاصة بحقوق الإنسان، أو التي تمس تطبيقها المباشر أو غير المباشر
        كما تبنى المجلس في العام 1970 ما يعرف باسم "الإجراء 1503" وذلك في قراره رقم (1503) والخاص ببحث الإخطارات المتعلقة بانتهاكات حقوق عدد كبير من الأشخاص، ولفترة ممتدة من الزمان
ثالثا: الأمانة العامة The Secretariat
     تعد الأمانة العامة احدى هيئات المنظمة الرئيسية حسبما جاء في نص الميثاق وقد اعطيت مركزا قانونيا لم يتوفر لمثيلتها ابان عصبة الامم.
        ولتعزيز دورها في مجالات حقوق الانسان أنشأت المنظمة شعبة خاصة لحقوق الإنسان داخل الأمانة العامة مقرها في جنيف في سويسرا، بهدف المساعدة في تطبيق بنود الميثاق المتصلة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وتتحمل هذه الشعبة لكونها فرعاً من فروع الأمانة العامة للأمم المتحدة المسؤولية المستمرة عن المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان من خلال الأقسام الثلاثة للشعبة، وهي قسم الوثائق الدولية والإجراءات، وقسم البحوث والدراسات ومنع التمييز، وقسم الخدمات الاستشارية والمطبوعات، ومن مهامها إعداد وتجميع الوثائق والبحوث والدراسات للأجهزة التابعة للأمم المتحدة ولجانها المعنية بالحقوق الإنسانية، ومتابعة ومواصلة هذا الموضوع عن كثب على المستوى الدولي. وقد تم تحويل هذه الشعبة إلى مركز لحقوق الإنسان في كانون الاول / ديسمبر 1983، إلى جانب تعيين مفوض سامٍ للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهما الجهازان اللذان من خلالهما تمارس الأمانة العامة للأمم المتحدة الأنشطة المتعلقة بحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية بالإضافة إلى الأمين العام، الذي يقوم بأداء تقرير سنوي عن أعمال المنظمة وفقاً للمادة (98) من الميثاق، كما ويقوم ببذل مساعيه الحميدة في حالة الانتهاكات الجسيمة والواسعة أو الجماعية لحقوق الإنسان
        وتتصف دبلوماسية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي يمارسها الأمين العام بأنها دبلوماسية هادئة، وهي مستندة إلى المساعي الحميدة التي يقوم بها، والتي تتمثل عادة بحالات عدة كإعادة الأسرى إلى بلدانهم أو تقديم الإغاثة للاجئين أو مساعدة قوافل الإغاثة في حالة الكوارث أو الحروب بغية الوصول إلى المنكوبين، أو لمنع مجازر وجرائم دولية مرتكبة في مناطق معينة، وتقوم إدارة الإعلام التابعة للأمانة العامة بإعداد ونشر دراسات تعريفية بأنشطة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية([6]).
        ونظراً لأهمية الأمانة، لكونها جهازاً يؤدي وظائف مرتبطة بمجمل أعمال المنظمة، فقد نص الميثاق على ضرورة التزام الأمين العام وموظفيه بألا يطلبوا أو يتلقوا، في تأدية واجباتهم، تعليمات من أية حكومة أو أية سلطة أخرى خارج المنظمة، كما أوجب عليهم الامتناع عن القيام بأي تصرف قد يسيء إلى مراكزهم بوصفهم موظفين دوليين مسؤولين أمام المنظمة وحدها([7]). وذلك لعدم التعارض بين مسؤولياتهم كموظفين دوليين وبين التعليمات التي يتلقونها من هذه المصادر الخارجية.
        كما تتعهد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باحترام الصفة الدولية للأمين العام والجهاز الذي يعاونه. وأن تمتنع عن القيام بأية محاولات للتأثير عليهم خلال ممارستهم لمسؤولياتهم تجاه المنظمة الدولية([8]).
        ولا بد من القول أن الأمين العام هو الذي يتولى تمثيل هيئة الأمم المتحدة أمام المحاكم وأمام المنظمات الدولية الأخرى، كما يتولى التعاقد باسم الهيئة.