25‏/03‏/2013

حقوق الإنسان في الإعلان العالمي

حقوق الإنسان في الإعلان العالمي
د.خليل حسين

"يقصد بمصطلح الشرعة الدولية مجموعة الصكوك التي تم إعدادها من قبل لجنة حقوق الإنسان" وقد استقر الفقه الدولي في مجال حقوق الإنسان على استخدام مصطلح "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان للدلالة على ثلاثة من أهم وثائق حقوق الإنسان وهي: (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية). والذي أطلقته لجنة حقوق الإنسان في دورتها الثانية التي عقدت في جنيف في الفترة من 3 إلى 17/12/1947.
        أثناء انعقاد مؤتمر سان فرانسيسكو لإعداد ميثاق الأمم المتحدة، تم اقتراح وضع إعلان ملحق بالميثاق حول حقوق الإنسان الأساسية من قبل بعض الوفود آنذاك. ولكن هذا الاقتراح لم ينل قبول المؤتمرين. وأعيد الاقتراح من قبل (بنما) في الدورة الأولى للجمعية العامة التي عقدت في لندن عام 1946، ومن ثم كلفت لجنة حقوق الإنسان المنشأة حديثاً بإعداد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
        لقد رأت اللجنة أن تكرس جهودها في المرحلة الأولى من عملها لإعداد إعلان دولي له صفة برنامج عام غير ملزم، على أن يعقب ذلك اتفاقية أو أكثر تتضمن التزامات قانونية واضحة وتدابير محدّدة لحماية حقوق الإنسان. وفعلاً أسفرت جهودها عن إعداد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/12/1948.
        وفي عام 1966 اعتمدت الأمم المتحدة وثيقتين دوليتين ارتكزتا على الحقوق التي نادى بها الإعلان العالمي، وهما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن البروتوكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والذي يتعلق بحق الأفراد في التظلم إلى الهيئة التي تراقب تنفيذ العهد، وهي لجنة حقوق الإنسان إذا انتهكت حقوقهم من جانب حكوماتهم، والتي تشمل فقط الدول المصدقة على العهد وموافقتها أيضاً على البروتوكول. وفي عام 1990، اعتمدت الجمعية العامة بروتوكولاً اختيارياً ثانياً للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ويتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام.
        تعد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان الأساس الأخلاقي والقانوني لكافة أنشطة الأمم المتحدة ذات الصلة بحقوق الإنسان وبأنها حجر الأساس للنظام الدولي المتعلق بحماية وبتشجيع حقوق الإنسان. كما تعد بمثابة "ماجناكارتا" تدلل على ما وصل إليه العقل البشري في مجال حماية الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وهو طموح قادر على الاستجابة إلى تحديات عصرنا الأساسية. ولم يبق إلا أن تصل مبادئها إلى المعنيين مباشرة، وأن يتم احترام هذه المبادئ من قبل حكامنا، أو من قبل من يعد نفسه للحكم ، عندها فقط تسقط الأطروحات الضيقة والأيديولوجيات الباعثة على التعصب والكراهية بين الإنسان وأخيه الإنسان 
        كما تعد هذه الوثائق الثلاثة الأساس الذي اشتقت منه مختلف الأعمال والوثائق القانونية الدولية الأخرى الصادرة عن الأمم المتحدة( كما تتضمن أيضاً مبادئ وقواعد عامة تتعلق أغلب حقوق الإنسان وأنها المصدر الرئيسي لأفكار حقوق الإنسان في العالم الحديث(
        لذلك فإن دراسة مكونات هذه الشرعة والوقوف على مضمونها وآثارها مسألة أساسية ولا بد منها في مجال حقوق الإنسان.
 
المطلب الأول
ماهية الاعلان ومضمونه
 
أولا : تعريف الإعلان
        منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 باشرت الجمعية العامة بالأعمال التحضيرية لإصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، والتي أسفرت عنها إصدار الإعلان بقرارها رقم (217) في الدورة الثالثة للجمعية التي عقدت في قصر شايو بباريس بتاريخ 10/12/1948 بمبادرة من اللجنة الخماسية التي كان أبرز أعضائها من الدول الغربية ورئيستها هي أرملة الرئيس الأمريكي "روزفلت" إليانور وعضوية الفرنسي "كاسان" الذي حرر مسودة المشروع، أما الأعضاء الثلاثة الباقين غير الغربيين وهم "تشانج" الصيني و"هانسامهتا" الهندية و"شارل مالك" اللبناني الذين كانوا من أصحاب النزعة الغربية الليبرالية أيضا
        وقد تبنت الجمعية العامة هذا الإعلان عندما كان عدد أعضائها آنذاك لا يتجاوز (58) عضواً ومعظمهم من الدول الغربية، وقد صدر بأغلبية 48 صوتاً، من بينهم أربعة دول عربية هي (مصر والعراق وسوريا ولبنان) وامتناع ثماني دول عن التصويت وغياب دولتان
        شكلت الدول الشيوعية أغلبية الدول الممتنعة عن التصويت. وقد ارتكزت في مواقفها على: إن الإعلان لم يقم بمعالجة واجبات الفرد نحو المجتمع، وإنه رجح كفة الحريات الرأسمالية ، اضافة إلى عدم تطرق الإعلان إلى الوسائل التي ينبغي على الدول اتخاذها بغية إعمال هذه الحقوق. وقد انتقدت الدول الشيوعية موقف الدول الغربية لرفضها إدانة ظاهرة الفاشية بصراحة في الإعلان، بحجة استحالة وضع تعريف جامع مانع لهذه الظاهرة التي كانت وراء اندلاع الحرب العالمية الثانية. وتعكس هذه التبريرات خشية هذه الدول من تدخل الأمم المتحدة في شؤونها الداخلية بحجة حقوق الإنسان.
        أما بخصوص امتناع السعودية فمرده تضمين الإعلان عدداً من الحقوق والحريات في بعض نصوصه التي لا تتفق مع مبادئ وخصائص المجتمع الإسلامي. فقد جاء في المادة (16) من الإعلان بأن للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج الحق في الزواج وتأسيس أسرة دون قيد بسبب الجنسية أو الدين، ولهما بموجب هذه المادة ذاتها حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيام الزواج وانحلاله.
        كما جاء في المادة (18) من الإعلان إقرار حرية إبدال الدين أو المعتقد. فموقف السعودية هذا يندرج ضمن جدلية الخصوصية / العالمية، وهذه مسألة لا يبدو أن الصكوك الدولية لحقوق الإنسان تتنكر لها، فمن المستحيل تخيل وجاهة حجج النسبية الثقافية أو الخصوصية للتحلل من حق الإنسان في الحياة أو من حرمة الجسم والسلامة البدنية والعقلية أو من تحريم الرق والاعتقال أو النفي التعسفيين. فهذه الحقوق تتصل اتصالاً وثيقاً بالركائز الأساسية للكرامة الإنسانية، بصرف النظر عن منظومة القيم التي يرتبط بها الفرد.
        أما بخصوص امتناع جنوب إفريقيا عن التصويت، فمرده إلى السياسة التي كان ينتهجها وهي سياسة التمييز العنصري آنذاك، والتي تناقض أبسط حقوق الإنسان فضلاً على أنها عارضت وجود نصوص تعالج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الإعلان"
        كانت هذه المبادرة بداية اهتمام المجتمع الدولي لرعاية حقوق الإنسان عندما خطت الأمم المتحدة في هذا المجال خطوتها الأولى بوضع قواعد متكاملة تتعلق بحقوق الإنسان.
        إن نقطة الإنطلاق الأساسية لصياغة الإعلان، كانت من باب القناعة التامة بأن ما جاء في الميثاق لم يكن كافياً. لذلك كان لا بد من أن تبادر المنظمة إلى إظهار مدى اهتمامها بموضوع حقوق الإنسان عن طريق صياغة وثيقة خاصة تطال هذا الموضوع، وليس اعتباره مجرد هدف من بين عدة أهداف تسمى المنظمة لتحقيقها. إضافة إلى أن الاعتقاد السائد في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي أوساط هذه المنظمة العالمية آنذاك، ان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، لكي يتوفر لها الاحترام بشكل وافٍ ومرضٍ، يجب أن تصاغ أولاً بشكل واضح ومبسط حتى تكون في متناول الجميع حكاماً ومحكومين، أفراداً وهيئات... وقد أشير إلى ذلك في ديباجة الإعلان العالمي
        كما أن الدافع الأساسي لإصدار هذا الإعلان هو ازدياد اهتمام الشعوب واستمرار نضالها من أجل حقوقها وحرياتها من جانب، واهتمام المجتمع الدولي بحقوق الإنسان وتوفير الضمانات لها، للمساهمة في تماسك المجتمع الدولي وفي إقرار السلم والاستقرار العالمي من جانب آخر وكذلك لعدم معالجة ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وحرياته بصورة متكاملة ومتناسبة مع ما لحقوق الإنسان من شأن في ترسيخ السلام والتضامن والاستقرار بين الشعوب والأمم. وانطلاقاً من إدراك واستيعاب هذه الحقيقة من قبل المجتمع الدولي فقد اتجه إلى إصدار هذه الشرعة الدولية لتحقيق التضامن الدولي في الدفاع عن حقوق الإنسان وبالتالي لتحقيق الأمن والاستقرار
        يشار الى أن هذا الإعلان، صدر في الواقع بشكل مغاير لكل البيانات التقليدية المتعلقة بحقوق الإنسان والتي درجت الدساتير والقوانين الأساسية على التطرق إليها ولاسيما في القرون الماضية لأنه يعالج كافة حقوق الإنسان الأساسية بصورة متكاملة. إذ لم يقتصر على الحقوق المدنية والسياسية فقط، وإنما تناول أيضاً الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
        لقد أخرج الإعلان حقوق الإنسان من شتات الدساتير والتشريعات الوطنية إلى نطاق المجتمع الدولي ومن خلاله أصبح الإنسان في ذاته موضع اهتمام الأسرة الدولية وليس الدول بالنسبة للحقوق التي يتمتع بها.
 
 
ثانيا: مضمون الإعلان العالمي لحقوق الانسان
        يتألف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من مقدمة وثلاثين مادة، كُرس فيها حقوق المساواة والحرية والسلامة البدنية. ففي المقدمة ذُكرت الأسباب التي دفعت الدول الأعضاء لإصدار مثل هذا الإعلان ، وذلك بالإشارة إلى أن الاعتراف بالكرامة المتأصلة بين جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية والثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلامة في العالم "وإن تناسي هذه الحقوق وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية أذت الضمير الإنساني"، إذ لا بد من أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء، آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم. كما إن الجمعية العامة تنادي كل فرد وهيئة في المجتمع إلى تعزيز احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات قومية وعالمية لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بين الدول الأعضاء ذاتها والشعوب الخاضعة لسلطانها
        وبالنظر إلى الحقوق والحريات المذكورة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد قام البعض بتقسيمه إلى قسمين: الحقوق المدنية والسياسية التقليدية التي بدأت بالازدهار في القرن الثامن عشرة ، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أصبحت محل إقرار الدساتير الحديثة .وقام آخرون بتقسيمها حسب وجهات نظر مختلفة. أما التقسيم الملائم والأكثر دقة وتفصيلاً ووضوحاً هو ما قام به الدكتور محمد المجذوب الذي قسمه إلى أربع فئات كما يلي
1.    فئة الحقوق الشخصية التي تتضمن حياة الإنسان وحريته وكرامته ومساواته أمام القانون وتحريم الرق والتعذيب والاضطهاد التي نصت عليها المواد (3 إلى 13).
2.    فئة الحقوق الاجتماعية التي تشمل الحقوق العائدة للأفراد في علاقاتهم مع الدولة كحق الجنسية وحق الزواج وحق الملكية وحق اللجوء الذي نصت عليها المواد (14 إلى 17). 
3.    فئة الحريات العامة والسياسية المتمثلة بحرية المعتقد والتعبير والاجتماع والانتخاب وتكوين الجمعيات والحق بتقليد الوظائف العامة والاشتراك في إدارة الشؤون العامة التي نصت عليها المواد (18 إلى 21).
4.    فئة الحقوق الاقتصادية والثقافية كالحق في الضمان الاجتماعي والحق في العمل والحماية من البطالة والحق بالراحة والحريات النقابية والثقافية وحقه في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على صحته ورفاهيته وحقه في التعليم والحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان تحققاً تاماً. كما تبرز الواجبات والتبعات التي تقع على عاتق الفرد حيال المجتمع. والتي نصت عليها المواد (22-30).
        فهذه الحقوق تتصل اتصالاً وثيقاً بالركائز الأساسية للكرامة الإنسانية بصرف النظر عن منظومة القيم التي يرتبط بها الفرد، كما صيغت بصورة عامة بشكل تسمح للدول مهما كانت ثقافتها أن تقرّها وتتقبلها.
        وقد أصدرت الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه "مستوى مشتركاً ينبغي تحقيقه لجميع الشعوب وجميع الأمم". وأهابت بجميع الدول الأعضاء وجميع الشعوب أن تدعم وأن تكفل الاعتراف بالحقوق والحريات المنصوص عليها في الإعلان ووضعها موضع التنفيذ بشكل فاعل
        وهذا الإعلان في معظم الحقوق والحريات الواردة فيه إن لم يكن جميعها سواءً الحقوق المدنية والسياسية أو الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قد سبق النص عليها في العديد من الدساتير الديمقراطية أو التوصيات ومشروعات الاتفاقيات العديدة الصادرة عن منظمة العمل الدولية(ذلك يعني أن لا جديد فيه، لكن الجديد فيه هو أن تدوين حقوق الإنسان وحرياته قد تم في وثيقة واحدة بصورة واضحة ومبسطة وعلى مستوى العالم كله ؛ وأن الموافقة عليها فد تم من جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة دون أي اعتراض، رغم أن عدد الدول في الأمم المتحدة قد تضاعف منذ عام 1948 حتى يومنا هذا، إذ وصل إلى (192) دولة حتى العام 2013. إلا أن أياً من الدول التي انضمت إلى المنظمة العالمية لم تبدِ اعتراضاً على الإعلان، بل بالعكس أسهمت الدول الجديدة في مراحل مختلفة، في الجهود المبذولة لتوطيد هذا الإعلان وتعزيزه بوثائق أخرى أكثر تحديداً وأبعد أثراً
        وأهمية هذه الوثيقة لا تأتي من المبادئ التي تضمنتها فحسب، بل تنبع أهميتها كذلك من أن الذي أصدرها وهي الحكومات، وبالتالي فإن تلك الوثيقة وضعت المسؤولية المطلقة عن انتهاكات حقوق الإنسان على عاتق الحكومات، وهكذا سقطت المفاهيم العامة لحقوق الإنسان المرتكزة على مفاهيم خيرية وإنسانية عامة، وحوّلتها إلى مفاهيم قانونية تتحدد بموجبها المسؤولية الإنسانية للدولة تجاه مواطنيه
        ومن قراءتنا المتأنية لبنود هذا الإعلان والإحاطة بالظروف والوقائع العملية المحيطة بتطبيقه يتبين لنا أن هناك بعضا من السمات والخصائص التي تميز بها الإعلان لجهة الهدف والمفاهيم.
 
المطلب الثاني
ميزات الاعلان وقيمته القانونية
 
         ثمة بعض التباين في الرأي بين فقهاء القانون حول بعض ميزاته وقيمته القانونية لجهة الالزام من عدمه.
اولا : ميزات الإعلان
     ثمة العديد من الميزات التي يتمتع بها الاعلان ومن بينها:
1.    الابتعاد عن القضايا المثيرة للجدل: إذ جاء الإعلان العالمي قاصراً على الموضوعات والمسائل التي كانت محل توافق بين الدول، والابتعاد عن معالجة الموضوعات والمسائل المثيرة للجدل والخلاف. فمن المسائل التي اعترت عملية وضع الإعلان هي صياغة نص يعالج الحق في الإضراب والذي انتهى الأمر بواضعي الإعلان إلى عدم النص عليه، وذلك إرضاءً للدول الشيوعية
2.    الطابع الإنساني الشامل والواسع للإعلان: وهذا الطابع هو الذي جعل منه وثيقة عالمية تعبر عن تطلعات إنسانية تسمو على التمايزات والفروقات الأخرى. فإن عالمية هذا الإعلان فرضت في بعض المواضيع التوفيق بين المذهب الليبرالي والمذهب الماركسي، مما دفع واضعي الإعلان إلى إدراج نصوص تدمج بين المفهومين، وهذا ما يبدو واضحاً في مقدمة الإعلان عندما تتحدث عن "انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد فعلياً وليس نظرياً، بحرية القول والعقيدة، ويتحرر من الخوف والفاقة". ومثل هذه الصياغة تتفق بطبيعة الحال مع المذهب الاشتراكي. وتتميز بالشمولية لسعة القضايا التي تطرقت إليها.
3.    جاء مفهوم حقوق الإنسان في الإعلان مرتكزاً على أساس إن هذه الحقوق نابعة من الكرامة الأصلية والملازمة للإنسان. وهذا ما تم تأكيده في ديباجة الميثاق الأممي من إنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب، وتأكيد إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامته.
4.    تحول الإعلان إلى مرجعية عالمية تتعلق بحقوق الإنسان على الرغم من أنه صدر بقرار من الجمعية العامة واعتبار الكثيرين إن قراراتها تعتبر مجرد توصيات، إلا أن صدوره بموافقة الأغلبية الساحقة من الأصوات. والإشادة به في كل مناسبة، وإعلان الالتزام به في كثير من التشريعات والدساتير الوطنية يضفي عليه صفة الإلزام.
5.     قيام نظام مؤسسي لحماية حقوق الإنسان في إطار الأمم المتحدة، والإقرار العالمي بأن الإعلان هو الذي دشّن في إطار الأمم المتحدة هذا النظام والذي أصبح بموجبه من أعمدة هذا النظام الذي يضم أهم عناصر ما يسمى بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان (العهدان الدوليان المذكوران والبروتوكولان الاختياريان للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وعشرات الاتفاقيات المتعلقة بمختلف حقوق الإنسان وبالآليات والمؤسسات الخاصة بمراقبة انتهاكها.
6.    هذا ما امتاز به الإعلان من الناحية الموضوعية. أما من الناحية الشكلية فقد أخذ الإعلان بالمنهج الفرنسي وذلك لإقراره المبادئ العامة والأسس دون الخوض في تفاصيل وحيثيات الحق ومضمونه في معظم النصوص المدرجة فيه. وهذا ما نلاحظه بوضوح في ديباجة الإعلان على سبيل المثال، فعباراته غير محددة وتحتمل أكثر من تفسير وتأويل. وعلى العكس من ذلك فإنه في بعض الحالات أخذ بالنهج الأنكلوسكسوني، إذ لم يكتف بذكر الحق فقط بل حدَّد مضمونه بشيء من التفصيل. ومن بين هذه النصوص التي انتهجت هذا الأسلوب هو نص المادة (2) والمتعلقة بالمساواة وعدم التمييز. والمادة (18) المتعلقة بحرية التفكير والضمير والدين. والمادة (25) المخصصة للحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على صحته ورفاهيته، وإنه ركز على الحقوق والحريات الفردية ولم يخصص سوى مكاناً متواضعاً للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ أن من بين مواده الثلاثين ثمة (6) مواد للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهي المواد (22 الى27).
 
ثانيا : القيمة القانونية للإعلان
        يُعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من أكثر الاعلانات الصادرة عن الأمم المتحدة شهرة وأهمية، فهو من أكثرها إثارة للجدل والنقاش لما يتمتع به من قيمة قانونية، ورغم تباين الآراء حوله، إلا ان المتفق عليه صدوره بشكل توصية عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يصدر في صورة معاهدة دولية محددة بالتزامات واضحة تقيد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أو شعوب العالم التي اتفقت عليه. لذلك نرى عدداً من الاتجاهات حول قيمته القانونية من بينها:
       الفريق الأول من الفقهاء: يجرده من أية قيمة قانونية باعتباره مجموعة من المبادئ العامة التي صدرت على شكل توصية من أكبر عدد من الدول، وبالتالي لا يتمتع بقوة قانونية ملزمة، فهو عبارة عن وثيقة ذات سمة كونية صادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة توصي شعوب العالم باحترامها.
        وهو ما نادى به الاتحاد السوفيتي من إن الإعلان العالمي يعد مخالفاً لمبدأ سيادة الدول وخرقاً للحكم الوارد في الفقرة السابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة والتي تخرج من اختصاص الأمم المتحدة المسائل التي تدخل في صميم السلطان الداخلي لكل دولة
        لذا فإن الإعلان لا يتصف بأية صفة إلزامية ولا يأخذ صفة المعاهدة المحددة بالتزامات قانونية واضحة. مقارنة مع ميثاق الأمم المتحدة والذي هو من قبيل المعاهدات الشارعة التي تفرض على الأطراف المتعاقدة الالتزام بنصوصها، وتُحتم تفوقها على قواعد القانون الوطني لأية دولة متعاقدة، بما في ذلك القواعد الدستورية.
        هذه الصفة غير الإلزامية للإعلان جعلت من الصعب جداً إجبار الدول على التقيد بنصوصه، مثلما حرمت المنظمة الدولية أي الأمم المتحدة من حق الإشراف على تطبيق بنوده تطبيقاً كاملاً.
        والقول بالصفة غير الإلزامية للإعلان  لا يعني إنكاراً لأهميته، فهو يمثل مركزاً مرموقاً في تاريخ تطور الحريات العامة عبر الأجيال. وهو أول وثيقة عالمية تتضافر حولها وفيها إرادات معظم دول العالم بغية تحقيق كرامة الإنسان أينما كان.
        وذهب الفريق الآخر: إلى أن الإعلان يتضمن تفسيراً رسمياً أو تحديثاً لمضمون حقوق الإنسان والحريات التي أشارت إليها نصوص ميثاق الأمم المتحدة وبالأخص ما جاء في المادة (56) منه. وهذا ما يجعلنا نعترف بأن للإعلان القيمة القانونية ذاتها التي للميثاق . فبموجب هذه المادة، "يتعهد أعضاء الأمم المتحدة بأن يقوموا منفردين أو مجتمعين بما يجب عليهم من عمل بالتعاون مع الهيئة لإدراك المقاصد المنصوص عليها في المادة (55)"، والتي من أهمها احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية للجميع. ولقد عزز الاعلان من عمل الأمم المتحدة عبر الصفة القانونية للمبادئ التي احتوى عليها ، كما ساعد على بلورتها وتحديدها ودخولها في هيكل القواعد الدولية الملزمة. كما تظهر العديد من المناقشات التي تدور في الجمعية العامة أن مصطلحات حقوق الإنسان تستخدم كما لو كانت قانوناً قائماً بالفعل
        والرأي الأرجح هو ما ذهب إليه الفريق الثالث: الذي أخذ به الفقه الحديث والذي يعتبر ان نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أصبح ينظر إليه كجزء لا يتجزأ من القانون الدولي العرفي، واعتياد الدول على اعتماد ما ورد فيه من قواعد، جعله كجزء من القانون الدولي العرفي، وبالتالي فهي قواعد ملزمة. كما نجد ان محكمة النقض الفرنسية قد استندت في عام 1972 إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على اعتبار أن المبادئ التي تضمنها قد تحولت مع الزمن إلى قواعد عرفية.
        أما بالنسبة للقضاء الدولي، فإن موقف محكمة العدل الدولية بهذا الخصوص لم يكن واضحاً كما يجب، وإن كانت قد استندت إليه في بعض الأحكام والآراء الاستشارية.
        ومن الجدير بالذكر أن القاضي اللبناني (فؤاد عمون)، وهو أحد قضاة محكمة العدل الدولية في حينه، أشار في رأيه المستقل في (قضية ناميبيا) أن أحكام الإعلان قد تلزم الدول بوصفها أعرافاً دولية، لأنها عبارة عن تقنين للقانون الدولي العرفي، أو لأنها أصبحت كذلك من خلال سلوكية دولية عمومية معتبرة قانوناً.   
        وبما أن هذا الإعلان يعبر عن الرأي العام العالمي في بعض المسائل القانونية، وخاصة أن دولة واحدة لم تعارضه، فلا شك أنه يختلف عن التوصية في أنه يؤكد مبادئ قانونية قائمة أو ينشئ مبادئ قانونية جديدة. لذا فإن الفقه يتفق على أن مثل هذه القواعد ملزمة على الأقل على اعتبار أنها قانون لين "Soft Law" .
        وهكذا فإن القوة القانونية للإعلان قد تزايدت إلى الحد الذي يمكن القول بأنه يجعل عدم تنفيذه تهديداً للسلم، ومبرراً للتدخل من مجلس الأمن لتنفيذ تدابير الأمن الجماعي، سواء التدابير العسكرية أم غير العسكرية.
        وعند الوقوف على ما جرى عليه العمل بشأن الإعلان العالمي يتبين لنا بكل وضوح أن مضمونه قد تأكد من الناحية العملية، على المستويين الوطني والدولي.
        فعلى المستوى الدولي فإن ما جاء في مضمون الإعلان العالمي، كان السند في إدانة العديد من تصرفات الدول المنافية لحقوق الإنسان، باعتبار أن هذه التصرفات تعتبر انتهاكاً للقانون الدولي .كما أن كثيراً من المعاهدات الدولية قد فصلت القواعد الواردة في الإعلان العالمي ورددتها في ديباجتها وجعلت منها أساساً للتنظيم التشريعي الذي أرسته
        أما على المستوى الوطني فقد أشارت الغالبية العظمى من الدول في دساتيرها الوطنية وتشريعاتها على درجاتها المختلفة للمبادئ والقواعد التي جاء بها الإعلان العالمي
        أما بخصوص القضاء فكثيراً ما يجري الاستشهاد بالإعلان في الكثير من القضايا التي تطرح أمام المحاكم الوطنية والدولية، لاسيما في قضايا التعذيب وانتهاك الحريات من جانب الحكومات في الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية أو العنصرية(
        وبغض النظر عن الظروف التي رافقت إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وانعدام الصفة الإلزامية فيه، إلا أنه يعد خطوة هامة في تاريخ البشرية، لجمعه الدول كافة بمختلف اتجاهاتها الإيديولوجية والفكرية في أن تتبنى مبادئ محددة شكلت اللبنة الأولى لوثائق قانونية دولية أخرى تلتزم بها الدول وتطبقها على شعوبها بشكل منصف وعادل(
وقد أصبح هذا الإعلان مصدراً لإلهام الدول في مجال حقوق الإنسان، وبات مرجعية أساسية لتفسير وفهم نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الإنسان، ويشكل مرجعاً يستطيع الرأي العام أن يحكم انطلاقاً منه على تصرف ما، وعلى مدى احترامه لحقوق الإنسان الأساسية.
وكان الاعلان بمثابة الخطوة الأولى في طريق التنظيم الدولي الفعال لحماية حقوق الإنسان على الصعيدين الدولي والداخلي. أما الخطوة الثانية فقد تحققت فعلاً عندما كرّست الأمم المتحدة جهودها بعد هذا الإعلان لتحويل المبادئ التي جاء بها إلى أحكام معاهدات دولية تفرض التزامات على الدول المصدقة عليه. وتمثل ذلك بإقرار الجمعية العامة عام 1966 للعهدين الدوليين والعديد من الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
        كما يمكن القول بان الإعلان يضيف أبعادا دولية إلى الوثائق الوطنية لحقوق الإنسان، إذ لا يمكن لهذه الأخيرة تأمينها بمفردها.
        نستخلص من كل ذلك ، أن المنظمة الدولية ومن خلال إصدارها لهذا الإعلان، استطاعت أن تنتزع تعهدا من الدول الأعضاء للتعاون معها من أجل "ضمان إطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها" كما ورد في الديباجة. وهذا التعهد يمنح الإعلان سلطة أدبية وأخلاقية للتنديد بالدول التي لا تحترم حقوق الإنسان، وله أبعاد مؤثرة يقتدى بها في الدساتير الداخلية، ويمكن تطبيقه بصورة نسبية في العالم. وأن هذا الإعلان قد أدى إلى نشأة قانون دولي جديد خارج الحدود القومية للدول ، له قوته الملزمة بالنسبة للجميع.