07‏/03‏/2013

عندما تستقوي السياسة بالدين

عندما تستقوي السياسة بالدين
د.خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية
بيروت: 4/3/2013
نشرت في صحبفة الخليج الاماراتية بتاريخ 7/3/2013

 
      يشكل الدين في مجتمعاتنا العربية ركنا اساسيا في حياتنا الاجتماعية والثقافية وصولا الى سلوكياتنا الشخصية في تفاصيلها المملة احيانا، ما يطرح العديد من التساؤلات التي تبدو الاجابة عليها ملحة ،ومن بينها وظيفة السياسة هل هي فن ادارة المجتمع والدولة وعلاقتها بمصالح المواطنين؟ وما هو موقع الدين ودوره في الحياة الاجتماعية كفعل ايمان وانعتاق وبالتالي عبادة وخلاص من هواجس الآخرة؟ وعطفا على ذلك ما هي علاقة الدين بالسياسة وهل ثمة حد فاصل بين ما هو مواطن وسياسي؟ تبدو الاجابة هنا أكثر صعوبة اذا عطفنا المسألة على ما نمر فيه حاليا في الكثير من مجتمعاتنا العربية بعد الحراك الشعبي وما انتج من سلطات مستجدة في غير نظام عربي.
       ومن البديهي القول انه من الصعب بمكان فصل الدين عن السياسة في مجتمعاتنا العربية – الاسلامية لاعتبارات فقهية وشرعية لا داعي لتفصيلها،لكن القضية تبدو اكثر واقعية عندما تعالج من زوايا مختلفة ومنها، هل يمكن المواءمة بين العمل السياسي في مجتمع تسوده معتقدات دينية وامكانية قيام دولة مدنية حيادية تستوعب مجتمعا مدنيا مستقلا هو الآخر؟ من حيث المبدأ امر ممكن عندما تكون سلطة الدولة حيادية بين شرائح مجتمعها،وعبرها تفسح المجال للتنافس الديموقرطي بين الاحزاب للوصول الى السلطة وتداولها بالطرق الديموقراطية المتعارف عليها.
    لكن المشكلة تثار عندما تستقوي جماعة سياسية بالدين، فتسيس التدين الاجتماعي وتحرف الإيمان الإنساني عن مساره الطبيعي، فتكون بذلك قد تجاوزت وحرّفت معنى السياسة وأصولها، ومعنى المجتمع المدني وقواعده، فتستقوي بالدين على الجماعات الأخرى التي تؤمن بالسياسة المدنية وطرقها وباسلوبها السلمي لجهة التنافس، وبالتالي تُغيّر قواعد اللعبة السياسية المتفق عليها في نظام دمقراطي وبالنتيجة تعطيل الحياة السياسية.

        ان العودة للتاريخ تظهر ان ظاهرة الاستقواء بالدين تمثلت في مختلف حقب السلطنات الاسلامية، وأكملت بصورها المختلفة هذا الاستقواء في مختلف الحقبات السياسية التي رافقت ظهور دولنا الحالية،مع  بعض الاختلافات الطفيفة بين حالة وحالة، الا ان ما يجمعها حاليا حالة الاستقواء التي وصلت الى مستويات الاستبداد السياسي التي عانت منها هذه الفئات الاسلامية نفسها قبلا،فبدت حالات الاستقواء اشد عنفا وقسوة في محيط اجتماعي لا يتحمل ثقل الضغوط الممارسة عليه.
     حاليا يمكن ملاحظة هذا الاستيلاء في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. فعندما يلجأ العمل السياسي الاسلامي الى الدين كأداة ووسيلة، في التعبئة بمختلف اوجهها ، الاعلامية والثقافية والتعليمية والاقتصادية وبرامج الخدمات، تصبح الحالة الحزبية الاسلامية الجديدة التي وصلت الى السلطة، شكلاً من أشكال الاستيلاء والاستبداد وهي تعابير متطابقة للتي ظهرت في كتابات مؤرخي الاسلام وفقهائهم، كتوصيف "إمارات الاستيلاء وسلطنات التغلب"
        ولنكن هنا منصفين في هذا المجال ، فظاهرة الاستقواء السياسي بالدين شملت ايضا الاحزاب القومية التي سادت بعض انظمتنا العربية في فترة من الفترات، فغالبا ما كانت تلجأ في شعاراتها السياسية الى مزج الدين بالسياسة في محاولة للتحفيز الجماهيري واحيانا كثيرة للتلطي وراء هذا الفشل او ذاك.وبالتالي باتت هذه الظاهرة معممة على من استلم السلطة ماضيا وحاضرا.
       ان ما سبق يجعل من هذه الاشكالية اشكالية خطيرة تتجاوز الجانب النظري بكونه إشكالاً معرفياً وثقافيا وحتى حضاريا، ليصبح في التطبيق العملي والممارسة الفعلية وفي سياقاته التاريخية، عاملاً محبطا للسياسة، وعنصرا لاغيا للمجتمع المدني والسياسي وللمواطنية ايضا، ومحوّلاً الناس الى كتل بشرية متنافرة وطوائف مستنفرة بعضها على بعضها الآخر. وأمثلة العراق ولبنان بارزة بوضوح ، ومجتمعات مصر وليبيا وسوريا وتونس  والجزائر والمغرب تقدم مثالا واضحا مفاده أن الدولة كمؤسسة هي المستهدفة.
       ثمة كلام كثير يُقال حول جدلية العلاقة بين الدين والسياسة والدولة والسلطة ومن يستلمها، ومن يحكم بها من معه ومن ضده، لكن الثابت في هذا المجال ان احزابنا الموالية والمعارضة التي حكمت سابقا وحاليا،لم تقدِّم حتى الآن جديدا تَرّوي شغف المواطن العربي الى الوسيلة التي تريحه في حكم نفسه بعيدا عن استقواء السياسة بالدين، مثلما هو حاصل اليوم في معظم مجتمعاتنا العربية.