19‏/07‏/2016

الانقلاب والدور الوظيفي التركي


الانقلاب والدور الوظيفي التركي
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية


        لم يكن الانقلاب التركي سابقة عسكرية في الحياة السياسية التركية، بل سبقه أربع انقلابات في الأعوام 1960 و1971 و1980 و1997، وعلى الرغم من أن جميع هذه الانقلابات لها ظروفها الداخلية الخاصة، إلا أن ما سيميز الانقلاب الأخير عما سبقه، مجموعة التداعيات الكثيرة التي سيتركها، والتي تبدأ بجوانب اقتصادية - اجتماعية والتي لن تنتهي بجوانب سياسية - كيانية.
        فالاتاتوركية التي حكمت تركيا لعقود خلت بواسطة الجيش ، الذي أمَّن العباءة العلمانية للنظام، بات اليوم جيوشا تتقاسمه تيارات معارضة وموالية ،ومن بينها بقايا اتاتوركية لم تعد فاعلة ، بفعل أقلمة أظافرها والقضاء على وسائل ضغوطها في مجلس الأمن القومي التركي، والتدقيق قليلا في السطوة الاتاتوريكية السابقة ،تظهر خلفية الحاجة لهذا الدور الإقليمي ،الذي انشيء لتركيا بعد  الحربين العالميتين الأولى والثانية، أما اليوم ، فكثيرا من المسائل قد تغيرت، وبالتالي بات السؤال مشروعا، عن الدور التركي الإقليمي وحجمه وكيفيته ، وبأي صورة يمكن أن ينتهي؟ 
        لقد حكم حزب العدالة والتنمية منذ العام 2002 بشعار صفر مشاكل وانتهى به الأمر إلى كم هائل من المشاكل، بفعل السياسات الداخلية والخارجية التي انتهجها،وبصرف النظر عن كم ونوع الأوضاع الداخلية التي لعبت الدور الأساس في الانقلاب الأخير، فمن الصعب تصور استبعاد الجوانب الخارجية لجهة السياسات التركية ، أو طبيعة الدور المحتمل في النظام الإقليمي القادم للمنطقة.
       فتركيا التي انخرطت بفعالية في أحداث المنطقة، لم تتمكن من استثمار النتائج المرجوة بالنسبة إليها، واصطدمت بمجموعة من المعوقات التي تقودها قوى دولية لها حساباتها الخاصة ، مثل الولايات المتحدة وروسيا، وإقليمية كإيران وإسرائيل، وفي جميع هذه الحالات ، كانت النتائج والتداعيات الداخلية تتراكم لتشكل بمجموعها أزمات من الصعب امتصاصها وهضمها، من دون أن تراكم أسباب الانقلاب. وما عزّز الانقسام الداخلي ،إعادة تمركز السلطة بيد حزب العدالة والتنمية، على غرار ما كان الوضع سابقا إبان حكم الجيش بلبوس العلمانية والديموقراطية، ورغم تشابه الظرفين الداخليين، إلا أن ظروف الخارج باتت مختلفة ، وبخاصة في المجال الحيوي للسياسة الخارجية التركية كالعراق وسوريا وغيرها ، ما يعيد فلسفة الدور الذي تأمل به وحجم الإمكانات المطلوبة أو المتاحة لذلك ، من دون دعم دولي لترجمته واقعيا وعمليا.   
     أن المشكلة التركية الأبرز، تظهر في عدم محافظتها على العناصر المكوِّنة للاعب الاستراتيجي الإقليمي بنظر القوى الدولية ، كالولايات المتحدة وروسيا، وما زاد الطين بلة في هذا السياق، الخروج التركي عن قواعد اللعبة المفترضة في الظروف التي مرت بها المنطقة، فاصطدمت مع روسيا على خلفية الأزمة السورية، ولم تتمكن أيضا من مجاراة مطالب واشنطن الكثيرة في ظل خروج أنقرة عن المألوف أميركيا وأطلسيا.
         وما يعزز صلة الانقلاب بشكل أو بآخر بالجانب الوظيفي التركي ومدى بقائه ولو بصور مختلفة مستقبلا، أو القضاء على هذا الدور من أساسه ،وبالتالي المساس بالكيان التركي ذاته، هي القضية الكردية التي باتت معالم دولتها قائمة واقعيا وفعليا ،بعد موجة الفدرلة التي تعصف بكيانات المنطقة بدءا بالعراق وسوريا وليس انتهاءً بتركيا، الأمر الذي يثير سؤالا مشروعا في مثل هذه الحالات، فهل أن الانقلاب أتى لتعزيز الانقسام التركي الداخلي وبالتالي الذهاب نحو الفدرالة والتقسيم؟ ويكون المستفيد الأكبر من كل ذلك الأكراد ، الذين سيتحركون بالتأكيد فيما بعد في إيران، وهو بيت القصيد للولايات المتحدة الأميركية والتي ستكون هدية مجانية لواشنطن لزعزعة  استقرار النظام في طهران ،إن لم تتمكن من القضاء عليه.
       وما يعزز هذه القراءة ، الخوف التركي في هذا المجال والذي ظهر مؤخرا ، والذي أجبر أنقرة على إعادة تعريف سياساتها والتقرب من روسيا وإسرائيل مؤخرا، بعدما ضاقت ذرعا بمطالب واشنطن التي لم تقرأها أنقرة بواقعية ومرونة، وبخاصة المسائل المتعلقة بتحجيم وضرب المنظمات الإرهابية.    
        وبصرف النظر عن من قام بالانقلاب ودعمه في الخطوط الخلفية الداخلية والإقليمية والدولية، ثمة مستفيدين كثر داخليين وخارجيين، فتركيا لن تكون كما قبل الانقلاب، فأولا ثمة أزمة اقتصادية متفاقمة ستزداد وتيرة إذا ما سحبت أوروبا استثماراتها البالغة 164 مليار دولار في حال أعاد حزب العدالة والتنمية العمل بتنفيذ  أحكام  الإعدام الملغى منذ العام 2004 بضغط أوروبي ؛ وثانيا ثمة قبضة حديدية ستزداد بطشا في حكم الداخل، ما سيولد احتقانات أخرى تزيد من فرص انقلابات أخرى، أو مزيدا من الصدامات الداخلية، التي ستعزز سيناريوهات الفدرلة والتقسيم،  وثالثا، إن الدور الوظيفي لتركيا قد انتهى عمليا، وان الدور المفترض والمحتمل أيضا ،  إسهام الوضع التركي ، في تسريع عمليات الفدرلة والتقسيم وهو أمر باتت ظروفه مهيأة بكل تفاصيله حتى المملة منها.