16‏/01‏/2019


تحديات الجيش الأوروبي الموحد

د.خليل حسين

أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في الجامعة اللبنانية

 

       على هامش احتفالية القرن لانتهاء الحرب العالمية الأولى شكَّل تصريح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون حول الدعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد، مناسبة لاستفزاز الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي دعا الأوروبيين لدفع ما عليهم لحلف الناتو قبل التفكير بخطوات أمنية دفاعية مستقلة. ولمعضلة الأمن تاريخ حافل في السلوك الباطني الفرنسي، إذ كانت مناسبة دائمة لمحاولة التميّز عن حلف الناتو والرؤية الأميركية للأمن الأوروبي، فكانت الخطوة الفرنسية الفارقة حين خروجها من المظلة النووية الأطلسية في ستينيات القرن الماضي وتشكيلها منظومة أمنية مستقلة، إلى أن عادت وانخرطت مجددا في هذه المنظومة في العام 2007.

     وبصرف النظر عن خلفيات التميّز الفرنسي والى حد كبير أيضا الألماني في سياق مقاربة الموضوع الأمني الأوروبي، تبقى العديد من التحديات التي تواجه المجتمع الأوروبي بشكل عام والدول الرائدة فيه بشكل خاص ، للوصول لأوربة الأمن بمعزل عن التحالفات الأخرى كالناتو مثلا.وهي تحديات متصلة بالأساس ببيئات من الصعب على القادة الأوروبيين التقرير فيها منفردين أو بمعزل عن ضغوط أو مؤثرات خارجية وازنة. وبالتالي ثمة العديد من التحديات الذاتية والموضوعية الأوروبية التي تسهم في إعاقة التوصل لمثل تلك المشاريع.

      فالولايات المتحدة التي احتضنت أوروبا بداية عبر مشروع مارشال وحلف الأطلسي،لا تزال تعتبر أن الأمن الأوروبي معضلة أميركية لا أوروبية، ولا مناص للانفكاك أو الانفصال، سيما وأن الربط يأتي في سياقات إستراتيجية متصلة بالعلاقات مع روسيا وريثة عقود من العداء والحروب الساخنة والباردة إبان الحقبة السوفياتية وما تلاها. وبالتالي إن واشنطن التي تعتبر الجغرافيا السياسية الأوروبية مجالا حيويا لها، تعتبر أيضا أن المظلة الأمنية للناتو هي أداة فعّالة للضغط على موسكو في اتجاهات متعددة ، بدءا في شرق أوروبا وصولا إلى وسط آسيا مرورا بالشرق الأوسط.

      كما يشكّل استبدال الناتو بجيش أوروبي مخاوف متزايدة لدى العديد من الدول الأوروبية المحاذية لروسيا، على اعتبار أن معالم هذا الجيش وقدراته المفترضة ، لا تزال غير واضحة المعالم ولا معروفة الأهداف، بينما قدرات حلف الناتو محددة وواضحة ولها تجارب عديدة في ميادين تدخلت فيها سابقا.

      ثمة جدل قانوني واسع حول آليات الإنشاء، ظهر مؤخرا في سياقات فرنسية ألمانية متباينة، على قاعدة أن مثل هذا الاتفاق ينبغي أن يتم بموافقة الدول، بحسب الاتفاقيات المؤسسة للاتحاد، وليس عبر قرار منفرد يأخذه رئيس المفوضية. في مقابل ذلك برز موقفان بارزان خلال زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى برلين؛ الأول كان للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل إذ اعتبرت "أنه من الممكن تغيير المعاهدات إذا كان لذلك معنى"، والموقف الثاني من الرئيس الفرنسي الذي أشار إلى عدم وجود "محرمات" إزاء فكرة إنشاء الجيش الموحد.

       ثمة مظاهر متصاعدة في الاتحاد نفسه وتشكل خطرا حقيقيا عليه، ما تسهم بتقويض فكرة الجيش الموحد أصلا، ذلك عبر تنامي الشعبوية في المجتمعات الأوروبية ودولها، ، كمنافسة زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية ماري لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية ، ووصول حزب البديل إلى البوندستاغ الألماني لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى ظهور نزعات انفصالية في دول الاتحاد ذاته، مثال حالتي اسكتلندا وكاتالونيا، علاوة على معضلة البركست البريطاني من الاتحاد الأوروبي أصلا. مضافاً إلى العديد من الأزمات الاقتصادية التي ضربت دول الاتحاد، مثال أزمة الديون اليونانية وتصاعد نسبة البطالة وانخفاض الدخل الفردي وقضايا الهجرة. ما  يطرح العديد من الأسئلة حول مصير هذا الجيش المقترح في حال تفكك الاتحاد الأوروبي نفسه مستقبلاً.

      إضافة إلى كل تلك المعطيات التي من الصعب القفز عن مؤثراتها السلبية الوازنة، ثمة مخاوف واضحة حول قيادة البيئة الأمنية الأوروبية ومن بينها الجيش الموحد، إذ ثمة خشية كبيرة من السيطرة الألمانية ذات الإمكانات الاقتصادية والبشرية الهائلة، فهل يسير المقترح الفرنسي في إنشاء الجيش الأوروبي في الاتجاه الصحيح ؟ أم انه مجرد صورة سريالية أطلقت عند استذكار أدوات السلام المفترض بعد قرن من الزمن على انتهاء الحرب العالمية الثانية؟