03‏/03‏/2008

قضايا دولية معاصرة

قضايا دولية معاصرة
الدكتور خليل حسين
الطبعة الثانية 2007
دار المنهل اللبناني

مقدمة وتمهيد
يعج العالم اليوم كما ماضيه بالعديد من القضايا التي شغلت المفكرين والسياسيين،ورغم هذا الانشغال في التوصيف والتعريف والتكييف والتحليل لم يتمكن احد ان كان على صعيد الافراد او المؤسسات من الوصول الى حلول تبعد مآسي هذه القضايا عن البشرية ومجتمعاتها ومؤسساتها الاهلية والسيساية،ذلك يعود للعديد من الاسباب والاعتبارات التي تطول بطول عمر هذه الازمات والقضايا التي وجدت منذ وجود المجتمعات البشرية.
ولا ندَّعي في محاولتنا هذه اننا تمكَّنا من سد الثغرات المطروحة عالميا بقدر ما كان همَّنا الأساسي القاء الضوء على بعض القضايا الأكثر الحاحا في المعالجة والتوضيح والتفسير، باعتبار ان كل قضية من هذه القضايا يمكن ان تشكَِّل اطروحة بحد ذاتها تستلتزم الكثير من البحث والجهد والوقت للوصول الى اهداف محددة بعينها.
فالهدف الاساسي لهذا الكتاب هو استعراض اهم القضايا الدولية المعاصرة المؤثرة في الدول ومجتمعاتها،وهي معروضة بشكل علمي وموضوعي،اخذت شكل التبسيط في عرض الظاهرة – القضية مرورا بتحليل دقيق لأبرز اسبابها وعوامل انتشارها واستمرارها ،وصولا الى محاولة جادة لتلمّس سبل حلها او على الأقل كيفية احتواء آثارها؛هادفين من خلال ذلك تقديم مادة اكاديمية غير عصية على الفهم ،محاولين الاحاطة بكافة شروط البحث العلمي الاكاديمي.ورغم ذلك فان الاسلوب والمنهج المتبعين يتيح لغير المختصين فهم خلفيات هذه القضايا دون عناء وجهد كبيرين.
أما المواضيع التي اخترناها للمعالجة فهي: الصراعات الدولية،توازن القوة والأحلاف الدولية،الإرهاب،الأصولية،حوار الحضارات،حقوق الإنسان،الديموقراطية،العدالة الدولية،التسلح،السيادة ،الهجرة غير الشرعية،العولمة،التجارة الدولية،والبيئة.
فإذا كان بالامكان القول أن الصراعات الدولية وجدت منذ وجود البشرية ، فذلك يستتبع القول إن الصراعات متلازمة مع الحياة البشرية ومجتمعاتها، ذلك يعود إلى العديد من الأسباب والاعتبارات المتعلقة بشبكة المصالح المتقاطعة أو المتباينة فيما بينها، والعودة إلى التاريخ تثبت ذلك بشكل واضح، فماذا في التاريخ ؟ وما هي ملامح تطور الصراعات في المجتمعات؟ وما هي انعكاساتها على العلاقات الدولية والنظام العالمي عبر التاريخ؟هذا ما حاولنا الاجابة عليه في القصل الأول.ومهما يكن من امر فبنهاية القرن العشرين ما زال الكثيرون يحملون أمنيات بأن يكون القرن الجديد فاتحة لعالم جديد لا تصبغه دماء ضحايا الحروب والصراعات . ولكن يبدو أن الطريق ما زال طويلا أمام الإنسان لكي يتعلم أن العدو الحقيقي ينبع من داخله، ومن شكه في الآخرين وخوفه منهم وكراهيته لهم ورغبته في السيطرة عليهم!
وإذا كان الأمن القومي لأية أمة يرتبط بحماية القيم الجوهرية من التهديدات الداخلية والخارجية وتحقيق التنمية التي لا يمكن أن يقدر لها النجاح إلا في ظل الاستقرار، فإن الإرهاب يهدد هذا الأمن باعتباره عنفا منظما يوجه ضد السلطة في الدولة لإجبارها على إلغاء أو تعديل قيم المجتمع بما يتفق ورغبة القائمين بالإرهاب، كما يهدد عملية التنمية في أساسها. وهذا الدور للإرهاب هو ما يعطيه هذه الأهمية في الصراع السياسي في الوقت الراهن.
ويبدو أن ظاهرة الإرهاب سوف تميز السنوات القادمة من القرن الحادي والعشرين، إذا استمرت الظروف غير العادلة بالنسبة لكثير من الشعوب وتواصل التمييز والكيل بمكيالين في المسائل الدولية، وإذا ازدادت المشكلات الداخلية وحالات عدم الاستقرار السياسي، والتحديات العرقية التي أدت إلى إضعاف العديد من الدول، في الوقت الذي أصبحت فيه الحدود الدولية أكثر هشاشة، الأمر الذي جعل من السهل على الإرهاب ومؤيديه الانتقال من دولة إلى أخرى دون التعرف عليهم.وهذا يفرض على المجتمع الدولي الإسراع في وضع أسس عملية استراتيجية للمكافحة على المدى المنظور، خاصة وأن الجهود الحالية غير مرضية ولا يمكن التعويل عليها للقضاء على الظاهرة أو الحد منها إذ أن الإرهاب أصبح ظاهرة معقدة تحتاج إلى تفعيل الإرادة الدولية لمواجهتها بحزم، وإلا أصبح مستقبل البشرية كلها في خطر وهذا ما استعرضناه في الفصل الثاني.
أما الفصل الثالث فقد عالج القوة وتوازنها في النظام الدولي، فمن المسلمات ارتباط النظام الدولي بشكل أو بآخر في موازين القوى التي تنشأ عبر التحالفات بين الدول أو المنظمات أو غيرها، وأساس هذه الموازين هي القوة التي ينبغي التعرض لها للوقوف على أنواعها وطبيعتها وكيفية تأثيراتها ومداها.
فالقوة قد تكون بالفعل هي محرك العلاقات الدولية، على الأقل في اتجاهات تفاعلاتها الناظمة لحركة التاريخ ورسم الخرائط السياسية، إذ أن القوة ـ وليس الحق أو العدل ـ هي التي تشكل ملامح الواقع في معظم الأحيان ، وإنما في إدراك ما الذي تعنيه تلك القوة بدقة في عالم شديد التغير ، يشهد أحيانا انقلابات حقيقية كما حدث في أيلول 2001.
كما أن للقوة مفهوم معقد ، فالقوة تبدو سهلة للغاية في تعريفها ، لكنه ليس كذلك في أسسها أو أدواتها وموازينها أو استخداماتها ، ويصعب قياسها ، والأهم أنه لا توجد حقائق بسيطة بشأن عناصرها، أو علاقات مباشرة بين تلك العناصر، فهناك دائما استدراكات مختلفة أو متغيرات وسيطة تحيط بكل شيء ، ولا يمكن تجنب التعامل معها بتلك الصورة المركبة ، فلا توجد طريقة أخرى لتجنب فشل التحليل أو فشل القوة .
إن قوة الدولة أو ضعفها لا تزال أهم أسس التعامل بين الدول فعالية ، فأفضل استراتيجية أن تكون الدولة دائما قوية ، وقوية تحديدا في النقطة الحاسمة ، وتمثل القوة العسكرية من وجهة نظر المدرسة الواقعية، بكل ما يرتبط بها من أسس وأبعاد ، أهم عناصر القوة ، فالتغيرات التاريخية الكبرى لم تحدث إلا من خلال التهديد بها أو استخدامها فعليا ، ولا تزال أقاليم كالشرق الأوسط تبدو وكأنها ـ إضافة إلى مناطق البلقان في أوروبا والبحيرات في أفريقيا وجنوب آسيا أيضا ـ آخر غابات العالم ، التي لا تزال محكومة بقوانين القوة المعدَّلة ، وثمة تصورات كثيرة غير دقيقة لدى كثيرين ممن يمتلكون القوة ، ومن لا يمتلكون الكثير منها، على نحو قد يفرز سيناريوهات سيئة ، وفى ظل هذه الأوضاع ، لا يمكن الوثوق تماما إلا في القوة العسكرية، على الأقل ، لفترة ما قادمة.
ولم ينقص الدول والشعوب إلا ظاهرة أخرى تشغلها وتوقفها شاخصة حذرة مرتبكة،تحارب عدو وهمي من الصعب تحديده أو القبض عليه ،سُميَّ إرهابا والتصق بالتطرف وشُخِصَ بالأصولية.ومهما يكن من أمر التوصيف أو التحديد فثمة ظاهرة من الصعب تجاهلها أو القفز فوقها تمثلت بالأصولية والتي لها أسبابها وظروفها ونشأتها،إلا أن العديد من التيارات الفكرية تخلط الأمور وتصوّر عملا ما على انه أصولي نابع من فئة معينة ،إلا أن الواقع مختلف تماما،فالتطرف لا يعني بالضرورة أصولية،كما أن ليس للأصولية منشأ واحد ،كما لم تقتصر على فترة زمنية محددة ،ولا ارتبط عملها بفئة أو جماعة واحدة.فمن أين نشأت وما هي أصولها؟وما هي أنواعها وأسباب ظهورها؟وكيف يمكن مواجهتها وحل معضلاتها؟.وهذا ما حاولنا تفسيره وتوضيحه في الفصل الرابع.
لقد برزت بعد الحادي عشر من أيلول 2001 حركتين متضادتين بما يختص بالعلاقة بين الحضارات والثقافات والأديان؛ فمن جهة ثمة حركة نشطة للقاءات تعقد للنقاش حول حوار الحضارات بأبعاده وتفاصيله. وفي الجهة المقابلة ثمة آلة حربية أمريكية مستنفرة تحت غطاء فكري وأيديولوجي يتجه نحو صدام الحضارات.وغريب المفارقات في ذلك أن الغرب هو مصدر هاتين الحركتين؛ الأمر الذي ربما يوحي بمدى التنوع الذي يسمح بوجود النقيضين: "المبادرة بالحوار" و"المسارعة إلى الصدام"؛ وهو ما يمكن أن يكون صحيحًا نسبيًّا في الإطار الداخلي الغربي. بيد انه من الصعب أن لا يكون محل تساؤلات لدى الآخرين غير الغربيين. فكيف يتفق كل من "الحوار" و"الصدام" في نفس الوقت، وهل العلاقة بين الحضارات/ الثقافات والأديان لا بد أن تكون إما صراعية أو حضارية؟ وهل يكون الصراع أو الحوار بين الحضارات/ الثقافات والأديان أم بين المنتمين إليها؟اسئلة حاولنا الإجابة عليها في الفصل الخامس.
أما الفصل السادس فقد تعرض إلى موضوع حقوق الإنسان وقد توصلنا إلى العديد من الملاحظات التي يمكن أن تُساق في مجال تطبيقها في الدول المتقدمة والنامية لا سيما في ظل النظام الدولي القائم وأبرزها:
- إن ما يميِّز حالة ووضع حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة هو التدهور والانحطاط والمعاناة الكبيرة من اختراقها والتعدّي عليها ليس كما تعودّنا على ذلك في المجتمعات الدكتاتورية والتسلطية والاستبدادية فحسب وإنما أصبح الأمر يتعلق بالدول التي تتغنى بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وما إلى ذلك من شعارات ومصطلحات.فالقابعون في غوانتنامو وأبو غريب وفي غيرها من السجون والزنزانات عبر العالم بدون مساءلة ولا محاكمة ولا حتى الحق في الإدلاء بكلمة أو رأي أو الاستعانة بمحام، يتساءلون عن مصيرهم وعن حقوقهم كبشر في الكلام والتعبير والدفاع عن أنفسهم.
- لقد أدت الحرب على الإرهاب إلى انهيار الشرعية الدولية وأصبح العالم يشاهد على الهواء الاعتداءات على حقوق الإنسان في فلسطين بداعي محاربة الإرهاب و في العراق بداعي التحرير وإعادة البناء وفي المدن الأميرية والأوروبية ومختلف بقاع العالم بداعي احتواء القاعدة والقبض على إتباعها. والتطورات بعد 11 أيلول 2001 شكلت منعطفا خطيرا واثر سلبا على حقوق الإنسان في العالم وحتى تلك الدول القليلة التي كان ينعم الفرد فيها بهامش كبير من حرية الفكر والرأي والتعبير والصحافة وما إلى ذلك وضربت هذه القيم والمبادئ باسم الحرب على الإرهاب وراحت تتجسس حتى على المكالمات الهاتفية والبريد الالكتروني وغير ذلك من خصوصيات البشر. فأميركا حطمت كل ما بنته خلال القرون الثلاثة الماضية في شهور معدودة بعد أحداث 11 أيلول فتدخلت في شؤون المؤسسات الإعلامية وتدخلت في خصوصية الأفراد ليس فقط داخل حدودها وإنما في سائر دول العالم وكما يحلو لها.
- منذ البداية الأولى كانت الانطلاقة خاطئة إذ كانت هناك ازدواجية في المقاييس والمعايير حيث انه في العام 1948 تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كانت دول وأمم وشعوب ترزح تحت نير الاستعمار ولم يتطرق لها الميثاق لا من قريب ولا من بعيد ولم يولها أي اعتبار. فما هو الوضع في أيامنا هذه أيام الهيمنة الأميركية والحرب على الإرهاب؟. وما هو الوضع ونحن في نظام القطبية الأحادية وهل تمَّت عولمة ميثاق حقوق الإنسان؟ أم أن هناك فاعلون في النظام الدولي يستعملون المصطلح والمفهوم وفق معطياتهم ومصالحهم وهل بامكاننا الكلام عن عالمية حقوق الإنسان أم عولمة حقوق الإنسان؟.
- ما يمكن قوله أن حقوق الإنسان أصبحت أداة ضغط في يد القوى لفرض برامجه على الضعفاء،وأصبحت سلطة تمارس وتوظف في لغة السياسة والدبلوماسية وأصبحت تستعمل كوسيلة ضغط على عدد كبير من الدول التي تخرج عن سيطرة صانعي قرارات النظام الدولي. ففي الحوار بين الشمال والجنوب أو في العلاقات الثنائية أو حتى متعددة الأطراف تثار قضية حقوق الإنسان كما يحلو للطرف الأقوى.
- إن إشكالية حقوق الإنسان معقدة وأصبحت في عصر العولمة والحرب على الإرهاب وسيلة ضغط في يد الدول القوية ومبررا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وللتحكم في مسار العلاقات الدولية وفق مصالحها وأهدافها، ومن أهم المتناقضات التي يعيشها العالم بشأن حقوق الإنسان إن دولة مثل الولايات المتحدة الأميرية المدافع الأول عن حقوق الإنسان لا تعير اهتماما لهذا المبدأ في داخلها إذا تعلق الأمر بالأقليات مثل السود والهنود والأقليات الأخرى ومنهم العرب ونلاحظ كم من مواطن عربي اتهم وسجن وطرد من أميركا بدون محاكمة وبدون أدلة قاطعة وبدون سند شرعي. وما ينسحب على أميركا ينسحب على معظم الدول الأوروبية والدول المتقدمة. فرنسا مثلا في تعاملها مع المسلمين ومع مواطني شمال أفريقيا تبتعد كليا عن حقوق الإنسان وقصة الحجاب الإسلامي تبقى وصمة عار على دولة تدَّعي في شعاراتها "الحرية ـ الأخوة ـ المساواة".
- ويلاحظ كذلك أن الدول الفاعلة في النظام العالمي تساند وتدعم أنظمة مستبدة دكتاتورية في العالم الثالث وهذا يتناقض جذريا مع مبدأ حقوق الإنسان باعتبار أن هذه الدول وبحكم نظامها السياسي السلطوي لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحترم حقوق الإنسان إذا غابت الحريات الفردية وحرية الفكر والرأي والتعبير والفصل بين السلطات، والغريب في الأمر أن الدول الغربية تساند هذه الدول النامية لفترة زمنية معينة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية وبعد فترة معينة تنقلب عليها.
- يلاحظ أن الولايات المتحدة التي نصَّبت نفسها رقيبا على حقوق الإنسان في العالم تكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بإسرائيل وبأطفال فلسطين وبالغارات على جنوب لبنان واحتلال الجولان، أما بالنسبة لإسرائيل فتوصف بالدولة الديمقراطية المتمتعة بحقوق الإنسان وبالحريات المختلفة وتستفيد سنويا من 12 مليار دولار ومن الأسلحة الاميركية المتطورة لقتل الأبرياء وتحطيم البنية التحتية لفلسطين. والحرب على أفغانستان والعراق حيث أصبحت قناة "سي.أن.أن" هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة في العالم المسموح لها بتزويد البشرية جمعاء بما تراه خبرا أم لا؟ وفي مقابل ذلك تمنع العديد من المحطات من البث كالمنار وكذلك الكشف عن تهديد كان أصدره الرئيس الأمريكي جورج بوش بقصف قناة الجزيرة إبان غزو العراق، أين هو حق الاتصال وحق المعرفة وحق الإعلام؟.
- إن بعض المنظمات غير الحكومية التي تعنى بشؤون حقوق الإنسان قد تمَّ اختراقها واستغلالها واستعمالها وانحازت لدول ولمصالح ولإيديولوجيات معينة على حساب خدمة مبدأ إنساني عالمي لا يعرف في الأساس لا بالحدود ولا بالجنسيات ولا بالديانات ولا بالأعراق وإنما يعترف بالمباديء العليا للإنسانية وللبشرية.
- هل البشرية بحاجة إلى عولمة حقوق الإنسان أم إنها بحاجة إلى عالمية حقوق الإنسان؟ وإذا تكلمنا عن العالمية فهذا يعني احترام خصوصية الشعوب والأمم والحضارات. وكيف يكون مستقبل حقوق الإنسان في ظل العولمة، عولمة لا تؤمن بخصوصية الشعوب ولا بالشعوب الضعيفة والمغلوب على أمرها، عولمة تقوم على سلطة المال وسلطة السياسة ونفوذ القوة، فالشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على المال والأعمال والصناعات بما فيها صناعة الأفكار والقيم والرأي عبر الصناعات الثقافية المختلفة.ثمة أسئلة تطول بطول لوائح الانتهاكات التي ترتكب بحق الشعوب والأمم والتي تحتاج إلى إجابات محددة لكي تفضح المبررات التي وقفت وراء العديد من الحروب في هذا القرن تحت ستار حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب وغيرها!.
وكغيرها من القضايا تعتبر الديمقراطية من المفاهيم الملتبسة فليس ثمة نظام حكم في العالم لا يدَّعي قادته وصلا بالديمقراطية بغض النظر عن مدى التزامه بها. فألمانيا الشرقية كانت تلحق لفظة ديمقراطية بإسمها الرسمي ولا تزال الجزائر كذلك، وابتدع محفوظ نحناح مفهوم الـShuracracy كالبديل الإسلامي عن الديمقراطية العلمانية، وتحدث شيوعيو الاتحاد السوفيتي عن "الديمقراطية المركزية" وروجت نظم الحزب الواحد في إفريقيا لفكرة "ديمقراطية اتفاق الرأي" unitary Democracy . فقليلة هي الدول التي لا تنص في دساتيرها أو وثائقها الرسمية على أنها تتبنى الديمقراطية بما في ذلك نظام صدام حسين في العراق، ونظام فوجيموري في البيرو، ونظام عيدي أمين في أوغندا وغيرها. ومن هنا حدثت هوة كبيرة بين "الأمر" الذي يسمى الديمقراطية والمصطلح الذي أصبح أسيرا للاستخدام غير الموضوعي إعلاميا وسياسيا.
ثمة استحالة لتجاهل واقعنا العربي والإسلامي،وثمة استحالة أيضا لدفن الرؤوس في الرمال،نحن بحاجة للكثير ومنها للإصلاح وصولا إلى الديموقراطية الحقة المطلوبة. فأنظمتنا تعاني الكثير الكثير كما مجتمعاتنا ومنتدياتنا الأهلية حزبية كانت أم نقابية أم غيرها،حتى بات الشك يطال كل شيء يلامسنا آو نعيش به،وثمة من يقول أن الإصلاح أمر لن يصل بنا للمطلوب بل نحن بحاجة إلى تغييرات بنيوية أساسية في مجتمعاتنا وأنظمتنا، ثمة مبررات كثيرة تُساق لهذا المنهج أو ذاك وبصرف النظر عن حجم المطلوب في التغيّر أو التغيير، هناك قواسم مشتركة كثيرة اقلها أننا بحاجة فعلا إلى الإصلاح.
إن السعي‏ ‏لتحديث‏ ‏وتطوير‏ ‏النظم‏ ‏السياسية‏ ‏كان‏ ‏علي‏ ‏رأس‏ ‏أولويات‏ ‏النخب‏ ‏في‏ ‏ العالم‏ ‏العربي‏ ‏منذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏قرن‏ ‏ونصف‏! ‏وعرفت‏ ‏غالبية الدول العربية ‏الأحزاب‏ ‏السياسية‏ ‏منذ‏ ‏ما‏ ‏يقرب‏ ‏من‏ ‏مائة‏ ‏عام‏، ‏وتلازمت‏ ‏الدعوة‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏الاستقلال‏ ‏الكامل‏ ‏منذ‏ ‏العقد‏ ‏الثاني‏ ‏من‏ ‏القرن‏ ‏العشرين‏ ‏مع‏ ‏الدعوة‏ ‏للحكم الديموقراطي‏. ‏وغريب المفارقات عندما‏ ‏تعثرت‏ ‏التجربة‏ ‏الديمقراطية‏ ‏شبه‏ ‏الليبرالية‏ ‏في‏ ‏بلادنا‏، ‏بعد‏ ‏الحرب‏ ‏الثانية‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏عنصر‏ ‏دعم‏ ‏لها‏ ‏وإنما‏ ‏كانت‏ ‏عنصر‏ ‏تعويق‏, ‏بسبب‏ ‏مصالحها‏ ‏وأولوياتها‏.‏
‏أن‏ ‏الدرس‏ ‏الأهم‏ ‏الذي‏ ‏ ‏نستخلصه‏ ‏عقب‏ ‏كل‏ ‏هزيمة‏ ‏أو‏ ‏انتكاسة‏ - ‏بعد‏ 1948 ‏وبعد‏ 1967 وغيرها ‏هو‏ ‏أن‏ ‏غياب‏ ‏الديمقراطية‏ ‏كان‏ ‏ ‏سببا‏ ‏للضعف‏ ‏الأساسي‏ ‏لأنظمتنا ‏ومجتمعاتنا.
وبعد احداث 11 أيلول 2001 ‏تعلن‏ ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏مشروعاتها‏ ‏للتغيير‏ ‏الديمقراطي‏ ‏التي‏ ‏تعددت‏ ‏صورها‏ ‏طوال‏ ‏عامي‏ 2002 ‏و‏ 2003 ‏لتصل‏ ‏إلي‏ ‏طبعتها‏ ‏الأخيرة‏ ‏في‏ ‏مبادرة الشرق‏ ‏الأوسط‏ ‏الكبير‏ ! ‏ولا‏ ‏يمكن‏ ‏لأي‏ ‏إنسان‏ ‏عاقل‏ ‏مسئول‏ ‏في‏ ‏بلادنا‏ ‏أن‏ ‏يرفض‏ ‏الإصلاح‏ ‏الديمقراطي‏, ‏أو‏ ‏إصلاح‏ ‏نظم‏ ‏التعليم‏ ‏أو‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏الإصلاحات‏ ‏الضرورية‏ ..، ‏ولكن‏ ‏الأمر‏ ‏البديهي‏ ‏في‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏المستحيل‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ّ ‏أي‏ ‏إصلاح‏ ‏حقيقي‏ ‏بالفرض‏ ‏أو‏ ‏الإملاء‏ ‏من‏ ‏الخارج‏! ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏هناك‏ ‏حث‏ ‏وتشجيع‏ ‏علي‏ ‏ذلك‏ ‏الإصلاح‏, ‏وقد‏ ‏تكون‏ ‏هناك‏ ‏مساعدة‏ ‏في‏ ‏تنفيذه‏ ، ‏ولكن‏ ‏المبادرة‏ ‏بالإصلاح‏ ، ‏والقيام‏ ‏بالدور‏ ‏الرئيس‏ ‏فيه ‏هو‏ ‏أولا‏ ‏وأخيرا‏ ‏مهمة‏ ‏القوى ‏الداخلية‏ ‏الأدرى‏ ‏بشؤون‏ ‏بلادها‏ ‏والأكثر‏ ‏وعيا‏ ‏بظروفها‏ ‏وأولوياتها‏.‏وعندما‏ ‏نتحدث‏ ‏عن‏ ‏الإصلاح‏ ‏من‏ ‏الداخل فإننا‏ ‏نقصد‏ ‏تحديدا‏ ‏ثلاثة‏ ‏مستويات‏ :‏
‏- ‏المستوي‏ ‏الأول‏ : ‏المستوى ‏الوطني‏ ‏أو‏ ‏القطري ‏بمعني‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏الإصلاح‏ ‏من‏ ‏داخل‏ ‏البلد ‏المعني‏ ‏ذاته‏ ‏علي‏ ‏يد‏ ‏أبنائه‏ ‏الواعين‏ ‏بقضية‏ ‏الإصلاح‏, ‏الحريصين‏ ‏عليه‏. ‏والإشكالية‏ ‏التي‏ ‏قد‏ ‏تثور‏ ‏علي‏ ‏هذا‏ ‏المستوي‏ ‏هي‏ : ‏هل‏ ‏يتصور‏ ‏أن‏ ‏تقوم‏ ‏النظم‏ ‏السياسية‏ ‏المفترض‏ ‏أنها‏ ‏هي‏ ‏المستهدفة‏ ‏من‏ ‏التغيير‏ .. ‏بإجراء‏ ‏الإصلاح‏ ‏المنشود؟‏ ‏والإجابة‏ ‏هي‏ ‏أن‏ ‏الانقسام‏ ‏بين‏ ‏من‏ ‏يسعون‏ ‏للإصلاح‏ ‏ومن‏ ‏يقاومونه‏ ‏في‏ ‏المجتمعات‏ ‏الوطنية ‏ليس‏ ‏انقساما‏ ‏أفقيا‏ ‏بين‏ ‏حاكمين‏ ‏ومحكومين‏ ‏وإنما‏ ‏‏انقسام‏ ‏رأسي‏ ‏يشمل‏ ‏الحاكمين‏ ‏والمحكومين‏ ‏معا؛ ‏بمعني‏ ‏أن‏ ‏قوى‏ ‏الإصلاح‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏موجودة‏ ‏في‏ ‏داخل‏ ‏المؤسسات‏ ‏الحاكمة‏ ‏مثلما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏توجد‏ ‏خارجها‏ ‏في‏ ‏الأحزاب‏ ‏السياسية‏ ‏ومنظمات‏ ‏المجتمع‏ ‏المدني‏ .. ‏الخ‏. ‏والأمر‏ ‏نفسه‏ ‏ينطبق‏ ‏علي‏ ‏القوى‏ ‏المقاومة‏ ‏للإصلاح‏ ‏التي‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ تتواجد ‏ ‏داخل‏ ‏وخارج‏ ‏المؤسسات‏ ‏الحاكمة‏. ‏فهناك‏ ‏في‏ ‏المجتمع‏, ‏خارج‏ ‏إطار‏ ‏المؤسسات‏ ‏الحاكمة‏ ‏قوى‏ ‏لا‏ ‏تؤمن‏ ‏بالديمقراطية‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏تعطيها‏ ‏الأولوية‏ ! ‏ومجيء‏ ‏الإصلاح‏ ‏علي‏ ‏يد‏ ‏قوى ‏من‏ ‏داخل‏ ‏المؤسسات‏ ‏والأحزاب‏ ‏الحاكمة‏ ‏ظاهرة‏ ‏عامة.
- المستوي‏ ‏الثاني‏ ‏وهو‏ ‏المستوى ‏الإقليمي‏ ‏أي‏ ‏أن‏ ‏تتوافر‏ ‏في‏ ‏إقليم‏ ‏معين‏ ‏قوى‏ ‏وحوافز‏ ‏للإصلاح‏ ‏تدعم‏ ‏بعضها‏ ‏بعضا‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏تتأثر‏ ‏بالضغوط‏ ‏من‏ ‏خارج‏ ‏الإقليم‏. ‏وفي‏ ‏هذا‏ ‏السياق‏ ‏فإن‏ ‏وجود‏ ‏دولة‏ ‏تلعب‏ ‏دور‏ ‏النموذج‏' ‏للإصلاح‏ ‏والتقدم‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏قاطرة‏ ‏تشد‏ ‏بقية‏ ‏بلدان‏ ‏الإقليم‏ ‏الموجودة‏ ‏فيه ‏كما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تثير‏ ‏الرغبة‏ ‏في‏ ‏المنافسة‏ ‏والتفوق‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏البلاد‏ ‏الأخرى‏. ‏وعلي‏ ‏سبيل‏ ‏المثال‏, ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏فصل‏ ‏التقدم‏ ‏الحادث‏ ‏في‏ ‏شرق‏ ‏وجنوب‏ ‏شرق‏ ‏آسيا‏ ‏عن‏ ‏الدور‏ ‏الذي‏ ‏لعبته‏ ‏أقطار‏ ‏معينة‏ ‏كنماذج‏ ‏ملهمة‏ ‏للمحاكاة‏ ‏والتنافس ‏مثل‏ ‏اليابان ‏ثم‏ ‏كوريا‏ ‏الجنوبية‏. ‏ومن‏ ‏هذا‏ ‏المنظور‏ - ‏فإن‏ ‏وجود‏ ‏نموذج‏ ‏ناجح‏ ‏للتطوير‏ ‏الديمقراطي‏ ‏في‏ ‏الشرق‏ ‏الأوسط ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يشد‏ ‏معه‏ ‏الأقطار‏ ‏الأخرى.‏
- المستوي‏ ‏الثالث ‏هو‏ ‏المستوى‏ ‏الثقافي‏ ‏والحضاري ‏أي‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الإصلاح‏ ‏معبرا‏ ‏عن‏ ‏الخصوصية‏ ‏الحضارية‏ ‏للمجتمعات‏ ‏المعنية ‏ومتوافقا‏ ‏مع‏ ‏التوجه‏ ‏الرئيس‏ ‏لثقافتها‏. ‏ويعني‏ ‏هذا‏ ‏بالنسبة‏ ‏لعالمنا ‏العربي‏ ‏والشرق‏ ‏أوسطي‏ - ‏ضرورة‏ ‏حل‏ ‏التناقض‏ ‏المصطنع‏ ‏بين‏ الإسلام ‏و الديمقراطية.وهذا ما استعرضناه في القصل السابع. ‏ ‏
أما الفصل الثامن فقد خصصناه إلى العدالة الدولية وما آلت إليه في أيامنا هذه،فقد شهدت المجتمعات البشرية قديما وحديثا شتى صنوف الجرائم راح ضحيتها الملايين عبر العصور قبل أن توصَّف تلك الجرائم وتحددّ أطرا قانونية لمحاكمة المسؤولين عنها.ولعل ابرز ما ظهر من صور فظيعة ما سميَّ بالجرائم ضد الإنسانية والتي كانت من بين احد نتائجها المقابر الجماعية ذلك لإخفاء وطمس تلك الجرائم.
تعتبر المقابر الجماعية نتاج ابادة جماعية أو لجرائم حرب داخلية أي بين أطراف داخل البلد الواحد أو نتاج حرب تشارك بها أكثر من دولة أو أكثر من طرف، وفي كلا الحالين فهي تعبير صارخ عن جرائم ترتكب بحق الإنسانية،وقد شهدت العديد من الدول هذه الجرائم قديما وحديثا،وقد شكلت المقابر الجماعية نوعا من أنواع التغطية وطمس للجرائم المرتكبة بحق كثيرين تحت مسميات ومبررات وحجج مختلفة وامتدّت عبر العصور وشملت أنظمة متنوعة عقائديا وسياسيا وغيرها من التصنيفات،إلا أن المشترك بينها جميعا أن الضحايا غالبا ما كانوا من المدنيين أو أسرى حرب أو معتقلين سياسيين ومهما وُصِفَت هذه الجرائم فتظل في اطار الجرائم ضد الإنسانية باعتبارها تطال أشخاصا وأفرادا وحتى جماعات من المفترض أنها تتمتع بحماية القانون الدولي الإنساني ، فما هو التكييف القانوني لهذه الجرائم وكيف تمّ التعاطي معها ؟ وعلى من تقع المسؤولية وهل هناك طرف يتحمل نتائج هذه الأفعال والتعويضات؟
وبصرف النظر عن الصورة الوردية التي تظهرها بعض السلوكيات الدولية المتعلقة بمحاولة إيجاد بيئة قانونية للعدالة الدولية، ثمة واقع مغاير ومخالف لما هو سائد، منطلقه ازدواجية التعامل الدولي وانتقائيته،ما يرسم صورة قاتمة لمستقبل ومصير العدالة الدولية،وفي هذا المجال يمكن رصد العديد من الملاحظات أبرزها:
- لقد صورت المحاولات الدولية لإيجاد البيئة القانونية لتنفيذ العدالة الدولية على أنها جادة ومقبولة من أطراف المجتمع الدولي،إلا أن الأمر يبدو مجافيا للواقع،فثمة أسئلة كثيرة تثار في هذا المحال ومنها هل أن من مصلحة الدول الكبرى المتنفذة على الصعيد الدولي إنشاء آليات قانونية للمحاسبة في الوقت التي هي نفسها ترتكب الجرائم والمحرمات؟وهل يمكن الجمع بين وظيفة القاضي والجلاد في آن معا؟وفي نهاية الامر ومهما كانت خلفية البيئة القانونية للعدالة الدولية هل يمكن فصلها عمليا عن التوازنات الدولية ومصالح الفاعلين فيها؟.
- لم يكن هناك تعاطيا جدّيا مع إنشاء المحكمة الجنائية الدولية وبخاصة من الولايات المتحدة،إذ سرعان ما تراجعت عن التوقيع خوفا من محاكمة جنودها ومسؤوليها أمام هذه المحكمة كما فعلت إسرائيل الأمر عينه وللأسباب ذاتها.
- ورغم أهمية الفكرة ووجوب التسريع في إنجازها فقد تأخرت خطوات التنفيذ طويلا ولا يزال هناك مزيدا من الوقت لكي تأخذ المحكمة موقعها القانوني المفترض،وان تكون ملجأ قانونيا نهائيا لجرائم الحرب وغيرها.
اما الفصل التاسع فقد عالجنا فيه اثر المتغيرات التي رافقت النظام الدولي الجديد على مفهوم السيادة الوطنية ونطاق تطبيقه في المجالين الداخلي والخارجي على حد سواء. وقد أثارت تلك المتغيرات تحديات طالت كل أنماط الدول، وطرحت نفسها بأشكال مختلفة على تلك الأنماط. وكان لتلك التحديات مصادرها الداخلية والخارجية، التي أثارت بدورها الحاجة إلى رصدها وتحليل مدى تأثيرها على مفهوم السيادة.وبشكل عام، يمكن القول أن هناك علاقة طـردية بين المتغيرات التي رافقت النظام الدولي وتقلص السيادة الوطنية، وأن هناك علاقة طردية بين تأثر سيادة الدولة بمتغيرات النظام الدولي والتغيّر في مضمون الوظائف التي تقوم بها الدولة. كما يمكن القول أيضا أن هناك علاقة عكسية بين تقدم الدولة ومدى تأثرها بمتغيرات هذ النظام.
فخلال أكثر من ثلاثة قرون تطور النظام الدولي من أجل هدف محدد هو ضمان سيادة الدولة،الذي قام على أساس أن تكتسب الدولة أهليتها من خلال السيادة بجانبيها الداخلي والخارجي. وجاءت أحداث التسعينيات من القرن الماضي لتغيِّر النظام الدولي، بعد اتساع مدى التدخل وأسبابه خلال هذاالعقد الذي شهد في النصف الأول منه أحداث ومواقف وأزمات حادة في العراق والصومال وتاهيتي ويوغوسلافيا السابقة ورواندا وليبيريا، وأما الأحداث الأخرى التي حدثت في النصف الثاني فقد ارتبطت بعدد من القرارات ضد أفغانستان 1996- 1999 والسودان 1996، ثم كوسوفو وتيمور الشرقية في1999 والبوسنة والهرسك. وتعتبر قرارات الأمم المتحدة في تلك الفترة نقطة تحوّل أساسية بالنسبة لمفهوم السيادة وكيفية إدارة الأمن والسلام الدوليين. وعكس الاستخدام الجديد لصلاحيات مجلس الأمن الموجودة في الباب السابع للميثاق بدء مرحلة جديدة من الجهود لحماية البدل والمجتمع الدولي.
ونخلص إلى عدة حقائق قائمة على البحث التاريخي في تطور مفهوم السيادة، أهمها أن مبدأ السيادة دائم مستمر لا يتغير، إلا أن صورتها وحقيقتها والمسؤوليات التي تنهض بها تتغير مع الزمن أو يُعاد توزيعها. ولا تعني التطورات الحادثة الآن نهاية مفهوم السيادة، ولكن تعني أن السيادة قد تغير مفهومها وتمَّ إعادة تظهيرها ، فقبل الثورة الفرنسية كانت السيادة ملكا للأباطرة والملوك ثم انتزعها الثوار ومنحوها للشعب، وصاحب ذلك موجة عارمة من استغلال الشعوب اعتدادها بنفسها. أما التطورات العالمية الحالية فقد أدت إلى تدويل السيادة وتوسيع نطاقها بحيث لم تعد خاصة بالشعب والدولة وحدها ولكن يشارك فيها المجتمع الدولي ممثلا في القوى المتحكمة به. أما ما يشار إليه في الفقه القانوني عادة بمبدأ المساواة في السيادة أو مبدأ المساواة بين الدول المستقلة ذوات السيادة، فإنما هو مبدأ نظري ويكاد يكون العمل في الغالب والواقع على غير ذلك. ومؤدى ذلك أن السيادة ترتبط ارتباطا وثيقا من حيث طبيعتها ومدى اتساع أو ضيق نطاق تطبيقها بقدرات الدولة وإمكاناتها الذاتية، أي أن القوة -باختصار- شرط من شروط ممارسة السيادة والحفاظ عليها، وهو ما يثير في النهاية قضية العدالة الدولية على كافة الصعد، الأمر الذي يثير جدلا آخر يستحق نقاش منفصل.
اما الفصل العاشر فقد عالجنا فيه قضية التسلح والمحاولات التي جرت للحد من انتشار الأسلحة غير التقليدية وما آلت إليها من نتائج،وتبين لنا أن كل المحاولات قد باءت بالفشل إذ لم يكن هناك جدية في التعاطي مع هذا الموضوع بالقدر الكافي ؛بل أن انتشار الأسلحة التقليدية وغير التقليدية قد ازداد بوتيرة متسارعة،ذلك يعود للحذر في العلاقات الدولية بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة وهيمنة الولايات المتحدة على مجريات النظام الدولي الحالي.اذ ثمة ازدواجية واضحة في التعامل الدولي مع تلك القضية وهذا ما ظهر فعليا في مجال معالجة البرنامجين النوويين الإيراني والكوري في مقابل التغاضي عن البرنامجين الهندي والإسرائيلي..
أما الفصل الحادي عشر فقد عرضنا في قضية الهجرة السرية أو غير القانونية أو غير الشرعية أو غير النظامية التي تعد ظاهرة عالمية موجودة في الدول المتقدمة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أو في الدول النامية في آسيا كدول الخليج ودول المشرق العربي، وفي أميركا اللاتينية حيث أصبحت بعض الدول كالأرجنتين وفنزويلا والمكسيك تشكل قبلة لمهاجرين قادمين من دول مجاورة، وفي أفريقيا حيث الحدود الموروثة عن الاستعمار لا تشكل بتاتا بالنسبة للقبائل المجاورة حواجز عازلة وخاصة في بعض الدول مثل ساحل العاج وأفريقيا الجنوبية ونيجيريا.
لقد تمَّ التعامل مع هذه القضية بنوع من الاستخفاف في عدم المعالجة للأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة،فاقتصرت المعالجات على تشديد القوانين الناظمة للهجرة الشرعية،والتغاضي عن الشبكات الدولية المتاجرة بالبشر،وعدم التعرض لخلفيات الموضوع والتي تبرز في إطار الهرب من الظلم الاجتماعي والاقتصادي في دول منشأ الهجرة غير الشرعية.
شكل سقوط الاتحاد السوفيتي في بداية العقد الأخير من القرن العشرين تحولا هاما ، إن لجهة المفاهيم والعقائد ، أو الظواهر التي رافقها أو مهد ذلك الانهيار لها، ومن تلك الظواهر " العولمة" حيث تناولها العديد من المفكرين والباحثين بالدرس والتحليل، وشملت أوجه مختلفة لتلك الظاهرة، سياسية كانت أم اقتصادية، اجتماعية أم ثقافية ، إعلامية أم إعلانية، إلى ما هنالك من أوجه جذبت الكثير من مخيلة الكتاب والباحثين.إضافة إلى ذلك فقد كثرت الندوات والمؤتمرات التي تناولت هذه الظاهرة وحملت عناوين جذابة ومثيرة للنقاش والجدل العلمي، تحت مسميات عدة كالعولمة، والنظام العالمي الجديد والكوكبة والكونية ..إلى ما هنالك من أسماء وعناوين . وقد صدرت العديد من المؤلفات والأبحاث باللغات كافة ، بحيث أن المتتبع والباحث يحار في كيفية التدقيق فيها ، وبخاصة أن كل كاتب عالج موضوعاتها من زاوية معينة،كالجانب الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإعلامي . وعلى الرغم من ارتباط العولمة لدى الكثيرين بالرفاه الاقتصادي وما يندرج في إطاره، فان العولمة يمكن أن تشمل جوانب كثيرة تستحق الدرس والتحليل والمتابعة الجادة نظرا لما يمكن إن تتركه من آثار سلبية أو ايجابية في غير مجال واتجاه.
وما من ظاهرة عالمية اختلفت حولها الآراء، وتضاربت المفاهيم، وتباينت الرؤى مثل ظاهرة العولمة؛ فقد تعددت آراء المفكرين حول تعريفها وتفسيرها، وتقدير أبعادها وتقييم انعكاساتها على المستوى الدولي والإقليمي والوطني، بل ذهب البعض منهم إلى اعتبارها فرضية لم يتم إثباتها بعد وبأنها ظاهرة غير مكتملة الملامح والقسمات، ذلك رغم أن الأغلبية توافق على اعتبارها حركة تاريخية وظاهرة قديمة ومستمرة . وعلى الرغم من اتفاقهم على التواجد القوي لتطبيقاتها في الدول الصناعية المتقدمة إلا أن بعض آثارها قد طاولت دولا أقل نموًا في مختلف أوجه الحياة.هذا ما حاولنا إلقاء الضوء عليه في الفصل الثاني عشر.
أما الفصل الثالث عشر فقد ناقشنا فيه مختلف الآراء حول منظمة التجارة العالمية وما وجِه إليها من ملاحظات سلبية أو ايجابية،إلا إن النظر بموضوعية وتجرد إلى الواقع الذي أحاط بنشأة المنظمة والظروف التي رافقتها ، وكذلك إلى شبكة المصالح الدولية المتقاطعة أو المتعارضة فيما بينها ، تقودنا إلى أمرين أساسيين متعلقين بعمل المنظمة وما وصلت إليه، وهما، أولا :إن هناك الكثير من المخاوف التي تطلقها الدول النامية هي محقة ويقابلها هواجس ليست مبررة أو لا تستند إلى وقائع جادة ، بل هناك مغالاة في إبراز مساوىء وإظهار ميزات. والأمر الثاني هو اندفاع المنظمة بشكل غير معقول باتجاه تنفيذ ما يهدف المتنفذون فيها على حساب غالبية المنضمين إليها، وبالتالي هناك حقائق ظاهرة للعيان يجب ألاجابة على أسئلتها ومحاولة الحد من مساوئها . وعليه يمكن إبراز العديد من الأمور منها :
- من المغالاة تصوير تحرير التجارة العالمية بأنها الدواء السحري للمشاكل الاقتصادية والمالية للدول النامية والمتقدمة التي تتعرض لازمات معينة، وأنها ستؤدي بشكل سريع إلى تغيرات هيكلية وبنيوية في النظام الاقتصادي والمالي للدول.

- من الوهم القول إن الصادرات جيدة والواردات سيئة ، واخذ الأمور على إطلاقها، فما النفع من الصادرات إن لم تحقق أهدافها كالتصريف بأسعار مناسبة وجلب العملات الأجنبية ... ،وما الضير في استيراد التكنولوجيا واستخدامها في تطوير مجال معين.
- من المغالاة القول أن تحرير التجارة الخارجية تؤدى إلى خلق وظائف أكثر ، بل أن الوقائع أثبتت أن تحرير التجارة يمكن أن تؤدي في النهاية إلى نوعية معينة من الوظائف ذات مردود عال نسبيا .
- إن ظاهرة اتساع الفجوة بين عالم الأغنياء وعالم الفقراء باتت أكثر وضوحا في الدولة نفسها كالولايات المتحدة الاميركية وبعض دول الاتحاد الأوروبي أو بين الدول نفسها كدول الشمال ودول الجنوب ، الأمر الذي يوجب على المنظمة الالتفات بشكل جدي إلى هذه الظاهرة ووضع الحلول لها والحد من انتشارها واتساعها ، أي بمعنى آخر إن دور المنظمة يجب أن يتخذ حيزا اكبر في الجانب الاجتماعي وايلائه الأهمية الضرورية فعلا لا قولا.
- والحقيقة الظاهرة للعيان، آن الدول النامية وقَّعت على اتفاقات جولة الارغواي في ظروف غير ملائمة بالنسبة إليها، وهي لم تحصل من الوعود التي أعطيت سوى القليل القليل ، الأمر الذي زادها توجّسا وخوفا ونفورا من مقرراتها، وعليه إن التعامل الصادق من قبل الدول المتنفذة أمر مطلوب لإيجاد جو من الاسترخاء في العلاقة الأمر الذي يعطي اندفاعة قوية لعمل المنظمة والدول المنضوية تحت لوائها .
- والموضوعية أيضا تقضي الاعتراف بوجود خلل في آلية عمل المنظمة لصالح الأقطاب المتنفذة فيها، مما يستدعي العمل الجاد لإزالة هذا الخلل على قاعدة احترام المصالح التجارية للدول النامية ، واحترام أعدادها المتنامية في المنظمة.
- أما الأمر الذي يبدو أن لا مفر منه هو "حتمية" الانضمام إلى هذه المنظمة ، نظرا للاتفاقات الشاملة والواسعة والمتعددة الطرف التي تنشئها ، الأمر الذي يجعل من أي دولة غير منضمة إليها معزولة عن شبكة التجارة العالمية التي فرضت نفسه على جميع الدول ، الأمر الذي يستتبع من جانب الدول غير المنضمة الى الاستعداد الكافي وايجاد البيئة المناسبة لها عبر التشريعات الداخلية وغيرها، كما على المنظمة ايضا والقوى المتنفذة فيها الاستعداد لسماع الآخرين والعمل على مبدأ التعددية واحترام قيم وظروف الآخر .
أما الفصل الرابع عشر والأخير فقد خصصناه لقضية البيئة التي برزت كمفهوم في الفكر الوضعي خلال عقد الخمسينيات والتي تركز على الحاجة إلى فهم الطبيعة وأفرادها بالدراسة والرعاية، والحاجة لفهم الحياة الإنسانية ومسارها من خلال الحياة الطبيعية. وتغطي أفكار هذه المدرسة مساحة واسعة من المعتقدات العلمية والسياسية والدينية والاقتصادية إلى جانب تقديم مجموعة من الأوليات السياسية والاقتصادية والبرامج لحماية البيئة والدفاع عنها. كما دافعت عنها حركات الخضر Greens وضغطت لتطبيقها في مجالي القانون الداخلي والقانون الدولي، خاصة بعد دخول معظم هذه الحركات في الغرب للمجالس النيابية بنسب تمثيل متفاوتة.

ثمة قضايا كثيرة لا تقل أهمية عن التي حاولنا معالجتها في هذا الكتاب،لكن المهم أننا سلّطنا الضوء على قضايا تشكل أهمية وحساسية بالغتين لسائر الدول والمجتمعات في عصرنا الراهن،آملين من هذه المحاولة أن نسهم قدر الامكان في كشف خبايا هذه القضايا ومحاولة حلها او وضع تصورات لاحتواء نتائجها وآثارها.
د.خليل حسين
بيروت:11/6/2006