03‏/03‏/2008

كنيسة المهد والأبعاد في القانون الدولي

كنيسة المهد والأبعاد في القانون الدولي
د. خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
بيروت : 9- 5- 2002
تعتبر عمليات التهجير والترحيل والابعاد احد الركائز الاساسية للعقيدة الصهيونية التي ترجمتها عمليا دولة اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، بهدف جلب اكبر عدد ممكن من اليهود وتوطينهم في الاراضي الفلسطينية المحتلة ، كل ذلك جرى وسط خرق فاضح للاعراف والقوانين الدولية ، ووسط سكوت مريب في أحيان كثيرة للمحافل الدولية ذات الصلة بالموضوع ، وكان آخرها قضية كنيسة المهد المحاصرة منذ شهر ونصف، حيث المفاوضات جارية بطرق مختلفة ،اذ ما يعلن شيء وما يدور في المفاوضات السرية شيء آخر ، وبصرف النظر عن المقاربة السياسية للموضوع ، فان تسليط الضوء على الجانب القانوني للقضية يعطي فكرة واضحة عن الخرق الفاضح للقانون الدولي الذي مارسته وتمارسه اسرائيل حتى أصبحت استثناء دائما لمقررات الشرعية الدولية ومعاهداتها وأعرافها.
ان التدقيق في ما جرى في الكنيسة وحولها منذ محاصرتها يقودنا الى تسجيل الملاحظات التالية وأبرزها:
- لقد شنت الآلة العسكرية الإسرائيلية أبشع المجازر في مختلف المدن والقرى التي احتلتها مما دفع العديد من الفلسطينيين اللجوء الى الكنيسة طلبا للحماية، باعتبارها أرضا مقدسة ولم يسبق لاسرائيل ان تجرأت واعتدت على حرمتها، نظرا للوضع الخاص الذي تتمتع به الكنيسة وملحقاتها من قدسية وحرمة تكرست عبر الزمن رغم الاحتلال الاسرايلي المباشر منذ العام 1967.
- ان تصنيف الفلسطينيين اللاجئن الى الكنيسة من قبل اسرائيل بأنهم ارهابيين ، امر مناف لواقع الحال من حيث المبدأ ، فلو سلمنا جدلا بالمنطق الاسرائيلي وفقا للتوصيف الذي تدعيه، فان غالبية اللاجئين هم من المدنيين وقلة قليلة جدا منهم هم عسكريون تابعون لشرطة السلطة الفلسطينية ولم يشاركوا في الاعمال العسكرية المقاومة للاحتلال ، او ناشطون في تنظيمات مقاومة للاحتلال ، وبالتالي فان هذه الفئة الاخيرة تحديدا تنطبق عليها صفة اسرى الحرب وفقا لمعاهدات جنيف لعام 1949 .
- ان محاصرة الكنيسة بالشكل الذي تمّت فيه، تعتبر عملية حصار لرجال الدين المتواجدين فيها، وأخذهم كرهائن بشرية ومعاملتهم معاملة تتنافى مع حقوق المدنيين وقت الحرب او ابان الاحتلال ، وهذا ايضا ما يخالف المعاهدات السالفة الذكر.
اولا : اشكال الخرق الاسرائيلي للقانون الدولي

تنص المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949 ، على انه لا يجوز لسلطة الاحتلال ممارسة الابعاد الجماعي او الفردي ، او الترحيل القسري الى اراضي دولة اخرى ، مهما كانت الاسباب والظروف ، وهنا يعتبر انتهاكا صريحا وواضحا لنص المادة حيث ان المفاوضات توصلت الى اتفاق على الابعاد الى ايطاليا رغم معارضتها لعدم اشراكها او معرفتها بتفاصيل الاتفاق مسبقا ، وهذا يشكل ايضا خرقا للاعراف الدبلوماسية المعمول بها دوليا.
ان ما تحاول اسرائيل الادعاء به بأن بعض الفلسطينيين اللاجئين الى الكنيسة هم ليسوا مدنيين بل عسكريين ومطلوبين لاسرائيل لقيامهم بأعمال تخل بالمادة (5) من هذه الاتفاقية التي تسقط الحماية عن الذين يقومون بأعمال التجسس او التخريب او أي عمل يثير الشك ضد امن دولة الاحتلال ، لهو امر يتنافى مع قواعد واصول تفسير المعاهدات والاتفاقيات الدولية لجهة التوسّع في التفسير والقياس لحالات على حالات اخرى لاستنتاج قرائن تؤيد وجهة نظر معينة وتدحض اخرى، وفي هذا المجال توسّعت اسرائيل بشكل دائم في تفسير هذه المادة ، وهناك سوابق لها ، ما جرى في العام 1992 حين ابعادها مئات الفلسطينيين الى مرج الزهور في الاراضي اللبنانية ؛ وقد رفض مجلس الامن الدولي انذاك هذا التفسير ، واصدر القرار 799 تاريخ 18-12-1992 ، الذي ادان في الفقرة الاولى منه " الاجراء الذي اتخذته اسرائيل السلطة القائمة بالاحتلال ، بابعاد مئات المدنيين الفلسطينيين ، ويعرب عن معارضته الثابتة لأي ابعاد من هذا القبيل تقوم به اسرائيل" . كما اعاد مجلس الامن في قراره المذكور في فقرته الثانية على" تأكيد انطباق اتفاقية جنيف الرابعة المعقودة بتاريخ 12 –8-1949 على جميع الاراضي الفلسطينية التي تحتلها اسرائيل ، بما فيها القدس ، ويؤكد ان ابعاد المدنيين يشكل خرقا لالتزاماتها بموجب الاتفاقية" .
اضافة الى ذلك ، ان الفقرة ( ب ) من المادة (5) من ميثاق المحكمة العسكرية الدولية في "نورمبرغ" التي انشئت من قبل الحلفاء لمحاكمة القيادة النازية، نصت صراحة ان الابعاد لاي سبب كان يعتبر بمثابة جريمة حرب ، كما اعتبرت الفقرة (ج) من نفس المادة هي جريمة ضد الانسانية.
وعلاوة على ذلك ، ان اتفاقية جنيف الرابعة ، هي جزء من الاتفاقيات الاربعة التي وضعت لتشريع اوضاع اسرى الحرب وجرحى الحرب والمدنيين ، والملاحظ في هذا الاطار ، ما ورد بشكل واضح وصريح في متن الاتفاقيات الاربعة ، المادة (50 ) من الاتفاقية الاولى، والمادة ( 51) من الاتفاقية الثانية، والمادة (130) من الاتفاقية الثالثة، والمادة (147) من الاتفاقية الرابعة، التي اعتبرت جميعها ، ان الاعمال التالية تشكل انتهاكا خطيرا للاتفاقيات السالفة الذكر بصرف النظر عن أي سبب كان بما فيها الدوافع الامنية ، وهذا ما تتذرع به اسرائيل وأبرز هذه الاعمال هي :
- الابعاد ( الذي تطالب به اسرائيل للاجئين الى كنيسة المهد)
- التعذيب والمعاملة غير الانسانية ( آلاف المعتقلين مؤخرا)
- تجويع السكان( وهذا ما يحصل في الكنيسة منذ شهر ونصف )
- التسبب عمدا بالأذى والألم الكبيرين لجسد الفرد وصحته ( وهذ ما يحصل لبعض الجرحى داخل الكنيسة) .
-التدمير او الاستيلاء على الملكية ( ما جرى من هدم وقصف وحرق لبعض اجزاء الكنيسة) .
- العقوبات الجماعية ( ما تمارسه اسرائيل دون تمييز بين الشيوخ والاطفال والنساء ورجال الدين في الكنيسة) .
- القتل العمد (وهذا ما فعلته مع اكثر من ستة في الكنيسة) .
- اخذ الرهائن( وهذا ما فعلته في بداية حصار الكنيسة عند استعمالها للمدنيين الفلسطينيين لدروع بشرية في عمليات الاقتراب من الكنيسة رغم عدم وجود مقاومة فعلية لها من داخل الكنيسة) .
ان انتهاك اسرائيل الدائم للقوانين الدولية وشرعة حقوق الانسان ، امر دائم ومتواصل ، وأمر ينطبق كذلك على أي نص قانوني يمكن العثور عليه ، وآخر ما يمكن تسجيله في هذا المجال هو ما يمكن ادانتها به عبر خرقها لبنود ميثاق محكمة الجزاء الدولية التي تهرّبت منها ، ولحقت بها مؤخرا الولايات المتحدة الاميركية عندما تنصلت من كافة التزاماتها تجاه هذه المحكمة التي ظلت حلما على مر العقود، وأبرز ما يمكن تسجيله في ميثاق المحكمة هو وضع جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجريمة الابادة الجماعية ضمن نظاق صلاحية المحكمة للنظر والحكم فيها ، وقد حددت البنود السادس والسابع والثامن من الميثاق تفصيلا هذه الجرائم ، ومنها : الابعاد، والترحيل الجماعي والفردي، ونقل الاطفال من جماعة الى جماعة، وكافة الاعمال التي نصت عليها اتفاقيات جنيف الاربعة وتحديدا البنود المتعلقة بكنيسة المهد السالفة الذكر.
ثانيا : قراءة في آثار الاتفاق وحصار الكنيسة

ان العديد من الخلاصات التي يمكن قراءتها والتي تشكل بحد ذاتها سوابق ليست لمصلحة الفلسطينيين والتي يمكن لاسرائيل البناء عليها فيما بعد وفقا للكيفية التي تراها مناسبة في حل العديد من القضايا الاساسية بالنسبة لها، والتي تشكل مأزقا حقيقيا في أي مشروع حل تبحث عنه ، وأبرز هذه الامور هي :
- ان الابعاد الذي تسعى اليه اسرائيل لبعض المتواجدين في الكنيسة ، سيشكل ضربة قوية للمناضلين والمقاومين، كما سيشكل سابقة خطيرة ستستغلها اسرائيل فيما بعد لأية حالة مشابهة ، وهي ستحاول نسخها على العديد من القيادات الفلسطينية وكوادرها .
- ان رضوخ السلطة الفلسطينية لهذا الابعاد سيسحب من يدها سابقة هامة ، هو القرار 799 تاريخ 18-12-1992 ، المتعلق بابعاد الفلسطينيين خارج الاراضي الفلسطينية المحتلة .
- كما ان تنفيذ هذا الابعاد سيشكل ضربة قوية للقرار 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين ، فبعدما كان القرار المذكور مأزقا اسرائيليا باعتباره احد اللاءات الاستراتيجية العشرة ، جاء اتفاق الابعاد ليشكل البعد الآخر لدعم هذه اللاءات ، المزيد من التشريد والترحيل مقابل المزيد من المستوطنات والتوطين.
- ان تنفيذ الاتفاق هو اعتراف من السلطة الفلسطينية بشرعية الاحتلال وما تأتى عنه مؤخرا، يقابله المزيد من النقض لكل الاتفاقات التي وقعتها اسرائيل مع السلطة بدء من اوسلو مرورا بكامب ديفيد وصولا الى وثيقة تينت وتقرير ميتشل التي تخطاها الزمن من الناحية العملية لكلا الطرفين.
- ان سلسلة التنازلات التي قدمتها القيادة الفلسطينية في هذا الملف وغيره ، لن تشبع شهية شارون في الابعاد، والتي ستطال في وقت ليس ببعيد رئيس السلطة كما باتت اولويته بعد لقائه والرئيس الاميركي جورج بوش مؤخرا.
اخيرا ربما "عدالة " شارون ظهرت اخيرا في محاولته تدنيس المقدسات الاسلامية والمسيحية على السواء ، فمن المسجد الاقصى الى كنيسة المهد مسافة قصيرة جدا في التاريخ والجغرافيا ، تختصر سوابق كثيرة سجلها حصار شارون للكنيسة ،اولها دفن اول شهيد فلسطيني مسلم في حرم الكنيسة ؛ والثانية غياب الجمعة الحزينة والفصح المجيد عن الكنيسة لاول مرة منذ الفي عام.