02‏/03‏/2008

هجرة الأدمغة العربية والأفريقية وسبل مواجهتها


هجرة الأدمغة العربية والأفريقية وسبل مواجهتها

د.خليل حسين
بيروت 25-12-2002

ان اخطر ما تعانيه الدول العربية والافريقية ماضيا وحاضرا ، موضوع هجرة الكفاءات ذات التخصص العالي، لا سيما العلماء منهم ، باعتبار ان من يهاجر من هذه الفئة من الصعب عودته الى بلده الاصلي ، للعديد من الاعتبارات المتصلة به او الخارجة عن ارادته .
اولا : في بعض الارقام
ان الامر الاخطرهو عدم توفر الاحصاءات الدقيقة عن نوعية المهاجرين او حجمها ، او فئاتها او اتجاهاتها ، وعدم وجود المؤسسات المهتمة بها وبشؤونها او ما يحيط بها من مسائل تحد من ظاهرتها او تخفف من آثارها قدر الامكان .
لقد عانت الدول الافريقية اكثر من غيرها في هذا المجال ، اذ خسرت حوالي الستين الف عالم بين الاعوام 1985 و1990 ، وتخسر في حدود العشرين الفا كل عام من نفس الفئة، ويبلغ عدد العلماء الافارقة في العالم حوالي السبعة في المئة من بين مجموع العلماء بحسب احصائيات الامم المتحدة .أ
اما بالنسبة الى هجرة الأطباء والمهندسين والعلماء العرب إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة وصلت حتى 1976 إلى حوالى 24.000 طبيب، 17.000 مهندس، و75.000 مشتغل بالعلوم الطبيعية يمثلون 50، و 23 ، و 15 بالمائة، على الترتيب، من جملة هذه الفئات المهنية فى الوطن العربى. وعند نهاية القرن العشرين، يقدر ان تصل هذه الهجرة الى حدود المليون ، وهو تقدير يومئ إلى تصاعد هجرة الكفاءات فى الربع الأخير من القرن العشرين.
والأهم أن هجرة الكفاءات ينتظر أن تتصاعد أكثر باشتداد العولمة، فعلى الرغم من أن أحد التناقضات الرئيسية للنظام العالمى الجديد، النابعة من فرض البلدان المصنعة لمصالحها على البلدان المتخلفة، هى الإصرار على حرية التجارة فى السلع والخدمات على حين تستمر حدود البلدان المصنعة مغلقة أمام انتقال البشر إليها. ولكن، أيضاً انطلاقاً من مصالح البلدان المصنعة المهيمنة على ذلك النظام العالمى الجديد ومن الدور بالغ الأهمية للمعرفة والتقانة فى تحديد التقدم فى عالم كثافة المعرفة، يقوم سوق عمل عالمى واحد يختص بالكفاءات العالية التى ترى البلدان المصنعة فائدة فى اقتناصهم من البلدان المتخلفة، مع استمرار إغلاق الحدود فى وجه غيرهم من مواطنيهم.
والأخطر أن الهجرة ينتظر أن تصيب العناصر الأكثر استعداداً من الأجيال الأصغر من كفاءات البلدان المتخلفة، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى الفئات الاجتماعية الأقدر بما يتيح لهم قرباً اجتماعياً وثقافياً من بلدان الهجرة المرتقبة من خلال وسائل الاتصال الحديثة، ويمكن لهم أن ينتظموا فى مساقات تعليمية تقربهم مهنياً وثقافياً من البلدان الغربية المصنعة. ويعنى ذلك التطور المرتقب سلب مجتمع الكفاءات فى البلدان المتخلفة أكثر شرائحه حيوية، مما يترتب عليه تفاقم قصور إنتاج المعرفة واكتسابها، على وتيرة متصاعدة، فى المستقبل.
ومعروف أن بلدان الوطن العربى تتفاوت كثيراً فى مدى مساهمتها فـى تيار الهجرة هذا. فعلى سبيل المثال، من المهاجرين العرب من العلماء والمهندسين إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة من 1966-1977 قدمت مصر قرابة 60 بالمائة، وزادت مساهمة كل من العراق ولبنان عن عشرة بالمائة بينما كان نصيب كل من سوريا والأردن وفلسطين حوالى خمسة بالمائة من المجموع.
وتعتبر مصر هى، بين الدول العربية، الخاسر الأكبر من هجرة الكفاءات من حيث الكمية، وهذا أمر متوقع فى ضوء تقدم مصر على البلدان العربية فى عدد الكفاءات من ناحية، وقِدم إيفاد أبنائها للبلدان المصنّعة طلباً للعلم، وهو من أحد أسباب هجرة الكفاءات، من ناحية أخرى.
أما إذا أخذنا فى الاعتبار حجم القاعدة السكانية لبلد الأصل، فإن الوقع الكمى النسبى لهجرة الكفاءات يتباين بين هذه البلدان، على الترتيب من الأعلى للأدنى، على الوجه التالى: لبنان، فلسطين، الأردن، مصر، العراق، سوريا.
ثانيا : اسباب المشكلة
اسباب المشكلة متعددة ومتنوعة وتختلف بين دولة واخرى ، لكنها تشترك فيما بينها بعدم قدرتها على استثمار تلك الطاقات والمهارات ذات الشأن الهام ، والامر هنا ليس متعلقا بفئة معينة بل تطال فئات علمية ومهنية تشكل الدعامة الاساسية لتطور البلد ونموه ، والتي بدونها لا يستقيم وضع الدولة وهنا نقصد الكادرات الوسطى .
ان البحث في اسباب الظاهرة يقودنا عمليا الى تصورات ومقترحات للحد منها على الاقل ان لم يكن بالامكان وضع حد نهائي لها .اما ابرز الاسباب المشتركة بين معظم تلك الدول فأبرزها :
- عدم قدرة غالبية الدول العربية والافربقبة على اجتذاب طاقات بعض الفئات العلمية العالية ، لا سيما المتخصصة في مجال التكنولوجيا الحساسة ، والمجالات التي تستعمل فيها هذه التكنولوجيا، مثل علوم الفيزياء الذرية والرياضيات والكيمياء ، والامثلة على هجرتها متنوعة في غير اتجاه ومكان .
- ان غنى بعض الدول وقدرتها على استيعاب هذه الفئات لجهة تأمين مستلزمات عملها، لم يحل المشكلة ، بل ظهرت آفاقا جديدة لهذه الظاهرة تجلت في عدم القدرة على تنفيذ رغباتها في هذا المجال ، للعديد من الاعتبارات الخارجية كوضع العراقيل امام امتلاكها التكنولوجيا المتقدمة ووسائل استخداماتها والخوف من استعمالاتها غير المنظورة , والتي يمكن ان تؤثر على الاوضاع الاقليمية او الدولية كما بات واضحا ، خصوصا في الثلث الاخير من القرن الماضي ، حتى بدا معلوما ان كل شيىء يمكن امتلاكه باستثناء التكنولوجيا الحساسة القادرة على كسر المعادلات الاقليمية .
- ان وجود منشآت هامة وحساسة ذات منشأ اجنبي في بعض الدول بحول دون استغلال تلك المنشآت بالشكل الكافي وذلك وفقا لعقود انشائها وتشغيلها ، حيث تستخدم كفاءات اجنبية على حساب الكفاءات الوطنية ، مما يشجع هذه الاخيرة على الهجرة القسرية الى الخارج ، بهدف ايجاد فرص العمل المناسبة والمعبرة عن طموحاتها وتطلعاتها.
- ان ايلاء القيادات الادارية الاهمية على حساب الكفاءات العلمية امر من شأنه تهميش تلك الكفاءات والحد من طموحاتها ، الامر الذي يحبطها ، ويجعلها تتجه الى الخارج للتخلص من يأسها واحباطها .
- ان للعوامل السياسية والاجتماعية دور هام في هجرة الكفاءات من موطنها ، عبر اتكال بعضها على الصلات السياسية لتأمين فرص العمل او المكانة الاجتماعية ، وهي فئة قليلة بطبيعة الحال مقارنة مع الاعداد الموجودة ، الامر الذي يحدو بالباقي وهي الغالبية الى اللجوء للخارج بحثا عن الذات وفرص العمل الواعدة بالنسبة لهم .
- ان عدم توفير الميزانيات للبحث العلمي في الموازنات العامة للدول العربية يساعد على الحد من تطوير تلك الكفاءات ووسائل تطويرها كالمعاهد ومراكز البحوث وغيرها .
- ان مداخيل هذه الكفاءات من الفئات تعتبر متواضعة جدا مقارنة مع مؤهلاتها ومع غيرها من الفئات الاخرى .
- اضافة الى ذلك ان عدم وجود الحوافز الجاذية لهذه الكفاءات ، سيجعلها تستقر في الدول التي درست فيها ، وبالتالي خسارتها قبل مجيئها الى موطنها الاصلي ، وهي ظاهرة متفشية في معظم الدول المتقدمة التي تقدم التسهيلات ووسائل الحياة المريحة في سبيل جذب وابقاء الطلاب وهم على مقاعد الدراسة للاستفادة منهم وعدم رجوعهم الى بلدانهم الاصلية .
- ان عدم الاهتمام بهذه الفئة من قبل السلطات الوطنية المختصة ، يساعد على بقائها في الخارج ، فضلا عن التهديد الذي يتعرض له البعض في حال قرر العودة الى بلده الاصلي ، وهناك امثلة كثبرة على ذلك ووصلت الى حد الاغتيال لبعض العلماء .

ثالثا مقترحات للحد من ظاهرة هجرة الكفاءات
ان الحد من ظاهرة هجرة الادمغة امر ممكن في مرحلة اولى قبل القضاء عليها اذا امكن ، والامر يتطلب النظر من زاويتين ، الاول قطري والثاني اقليمي :

1 – على الصعيد القطري :
رغم خصوصية بعض الاقطار في معالجة هذه الظاهرة ، فهناك اوجه متشابهة يمكن ان توجه من خلال دور المجالس التشريعية وابرزها :
- تشكيل لجنة دائمة مختصة بالبحث العلمي في كل برلمان عربي وافريقي ، على غرار اللجان الاخرى الموجودة .
- دفع الحكومات في اتجاه وضع برامج وسياسات لاستيعاب وحل المشكلة بدءا من عمليات الاحصاء للمهاجرين وانتهاءا بالسبل الكفيلة باعادتهم والاستفادة من خبراتهم العلمية والعملية .
- تخصيص الاموال اللازمة لمهام البحث العلمي وتشجيعه عبر انشاء مراكز الدراسات والابحاث الاستراتيجية ذات الصلة بالاختصاصات المهاجرة والاختصاصات التي يؤمل ان تنجز لاحقا.
- انشاء مجالس خاصة للعلماء بهدف الاهتمام بشؤونهم وقضاياهم .
- ايلاء الاهمية والمكانة المناسبتين للتشريعات المتصلة بالعلماء بهدف اشراكهم في صنع القرارات المتعلقة باختصاصاتهم .
- اعادة هيكلة النظم التربوية والعلمية بما يتوافق مع التطورات العلمية الدولية في مختلف المجالات التكنولوجية ، بما يفسح المجال لهذه الكفاآت وضع خبراتها في خدمة اقطارها .
- المساهمة في خلق فرص عمل ذات شأن، في اطار حوافز جاذبة لهذه الكفاءات مما يمكنها من العيش اللائق والكريم في بيئتها الاصلية .
- ايجاد البيئة القانونية الكفيلة بعدم هجرة الكفاآت الحساسة وربط الدارسين في الخارج بمنح تعليمية بهدف تهيئة عودتهم بعد انتهاء دراستهم .
- العمل على توأمة الجامعات والمعاهد الوطنية مع مثيلاتها في الدول الصديقة ذات الكفاءات العلمية المتقدمة ، الامر الذي يساعد على ابقاء العلماء في بلدانهم وعدم الهجرة للمزيد من كسب الخبرات وغيرها من الامور .

2 - الجهدالعربي والافريقي المشترك
ان تعاظم هجرة الكفاءات على كافة المستويات العلمية والعملية في معظم الدول الافريقية، وما تسببه من نزف مستمر للطاقات ، تؤكد على ضرورة التوصل الى السبل الكفيلة للحد منها ، بجهد وتعاون عربي وافريقي ، باعتبار ان المشكلة اصبحت تهدد المجتمعات برمتها بصرف النظر عن اي دولة تمت الهجرة منها ، اضف الى ذلك ان تلك الكفاءات اينما وجدت وبصرف النظر عن هويتها القطرية ، هو عربية او افريقية الانتماء بنظر الاجنبي ، وينظر اليها من تلك الزاوية ويعامل على اساسها . لذا ان العمل العربي - الافريقي المشترك للاحاطة بهذا الملف امر مطلوب لما تمر به هذه الدول من مصاعب في هذه الآونة ؛ ومن هذه الزاوية يمكن لهذه الدول ان تلعب دورا رياديا عبر انشاء هيئة برلمانية عربية - افريقية مختصة ذات صلاحيات تقريرية وتنفيذية تهدف الى معالجة هجرة الكفاءات من موطنها عبر آليات محددة الاهداف والغايات يكون من بين مهامها :
- انشاء قاعدة بيانات للعلماء والباحثين المقيمين في اوطانهم او في البلدان التي هاجروا اليها ، بهدف تسهيل الوصول اليهم والاستفادة من خبراتهم .
- انشاء آلية خاصة للتواصل بين هذه الهيئة والدول العربية والافريقية التي تعاني من هذه المشكلة بهدف التواصل لتأمين فرص العمل لهذه الكفاءات في الدول العربية والافريقية اذا لم يكن هناك مجالا في بلدانها .
- تامين الدعم المادي والمعنوي لهذه الهيئة لمتابعة العلماء ورعاية شلاونهم ومتطلباتهم .
ان تفشي ظاهرة هجرة العلماء والكفاءات باتت من الامور التي يصعب السيطرة عليها من جهة واحدة ، ومن هنا تكمن اهمية التعاون المشترك بين الدول المعنية ومن بينها الدول العربية والافريقية باعتبارها الدول الاكثر تضررا منها ، والاكثر حاجة لايجاد الحلول لها.