03‏/03‏/2008

خلفيات الاعتداءات الإسرائيلية على الأماكن المقدسة في القدس

خلفيات الاعتداءات الإسرائيلية على الأماكن المقدسة في القدس
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
لم يكن الاعتداء الحالي على المسجد الأقصى وليد ظروف آنية أو عابره بل له جذور تاريخية وفكرية وله خلفيات وإبعاد كثيرة ومتنوعة. فقد تعرضت الأراضي العربية المحتلة إلى إجراءات التعدي "الإسرائيلي" على التراث الديني والثقافي والحضاري بهدف محو شخصية فلسطين وشعبها وتهويدها. وكان الحظ الأوفر في ذلك من نصيب القدس. لما تمثله بأماكنها المقدسة وآثارها وشخصيتها الحضارية من تحد للمشروع الصهيوني، وتأكيد على الحق الفلسطيني.
الحفريات تحت المسجد الأقصى
عمدت سلطات الاحتلال "الإسرائيلي" بعد احتلال القدس القديمة إلى عملية سطو منظم على ما استطاعت سرقته من المأثورات الدينية والأثرية والثقافية، بما في ذلك، نقل مخطوطات لاشيش الأثرية النادرة ومخطوطات البحر الميت أهم كنوز المتحف الفلسطيني إلى المتحف "الإسرائيلي".
إن أخطر ما ينبغي التوقف عنده مخطط الحفريات تحت أسوار المسجد الأقصى. ما أخذ يهدد بنيانه بالانهيار، فضلا عن أنه انتهاك صارخ لحرمة المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، وأرض الإسراء والمعراج. الأمر الذي يعتبر من أخطر ما قامت وتقوم به "إسرائيل" من تحد للعالم الإسلامي.ولقد حدد القادة "الإسرائيليون" بإرشاد رجال الدين وعلماء الآثار أهداف الحفريات في القدس ضمن الخطوط التالية :
- الكشف الأثري على الحائطين الجنوبي والغربي للحرم الشريف وعلى امتداد طوله 485 مترا توطئة لكشف ما يسمونه بحائط المبكى.
- هدم وإزالة جميع المباني الإسلامية الملاصقة من معاهد ومساجد وأسواق ومساكن قائمة فوق منطقة الحفريات وملاصقة أو مجاورة لهذا الحائط وعلى طول امتداده.
- الاستيلاء بعدها على الحرم الشريف وإنشاء الهيكل الكبير. وقد كانت الحفريات الأثرية منذ أكثر من قرن قد فشلت في العثور على إثباتات علمية مقنعة عن آثار الهيكل أو آثار مدينة داود أو عهد سليمان.
وفي 15/7/1968 بدأت فرق عديدة من علماء الآثار في "إسرائيل" المرحلة الأولي من الحفريات في أكثر من أربعين موقعا تحت أشراف دائرة الآثار "الإسرائيلية"، وأبرز تلك الحفريات التي أجراها بنيامين مازار باسم جمعية الاستكشاف في إسرائيل عند الحائط الجنوبي لما يسمى جبل الهيكل، وهي منطقة تمتد 70 مترا من أسفل الحائط الجنوبي للحرم الشريف خلف قسم من جنوبي المسجد الأقصى ولبنية جامع النساء والمتحف الإسلامي والمأذنة الفخرية، ووصل عمق هذه الحفريات إلى 14 مترا.
والملاحظ في هذه الحفريات، بالرغم من استخدامها الأساليب التقنية والمنهج الأثري أنها موجهة لخدمة أغراض التعصب الصهيوني والاحتلال "الإسرائيلي" وليس لمعرفة الحقيقة الموضوعية، لأن ما يريده القائمون على الحفريات إثبات حق اليهود في العودة إلى الأراضي المقدسة والتجاهل المتعمد للحضارات الأخرى ذلك باستخدام نتائج التنقيب الأثري لدعم الادعاءات والأقاويل الدينية والتاريخية. ويضاف إلى ذلك ما يرافق هذه الحفريات من عمليات نهب بغرض الاتجار بالمكتشفات الأثرية التي هي ملك ثقافي إسلامي- عربي يحظر نقله من المنطقة المحتلة وفقا للقانون الدولي.
وقد تمّت المرحلة الثانية من الحفريات سنة 1969 على امتداد 80 مترا من سور الحرم الشريف حيث أنهت المرحلة الأولي شمال حتى تصل أحد أبواب الحرم (باب المغاربة) مارة تحت مجموعة من الأبنية الإسلامية الدينية التابعة للزاوية الفخرية. أما المرحلة الثالثة فقد بدء بها سنة 1980 واستؤنفت سنة 1975 ولا تزال مستمرة. وامتدت من مكان يقع أسفل عمارة المحكمة الشرعية القديمة، مارة بأسفل خمسة أبواب من أبواب الحرم الشريف، وعلى امتداد 80 مترا وفوق مجموعة من الأبنية الدينية والأثرية السكنية (مساجد قايتباي وسوق القطانين وعدد من المدارس الأثرية) وتراوحت أعمال الحفريات 10-14 مترا. أما المرحلتان الرابعة والخامسة فقد بدأ بها سنة 1973 واستمرتا حتى 1974 في موقع خلف الحائط الجنوبي الممتد من أسفل الجانب الجنوبي الشرقي للمسجد الأقصى وسور الحرم الشريف على مسافة 80 مترا نحو الشرف، واخترقت الحفريات الحائط الجنوبي للحرم ودخلت منه إلى الأروقة السفلية للمسجد الأقصى وللحرم في أربعة مواقع. (أسفل محراب المسجد الأقصى، أسفل جامع عمرن تحت الأبواب الملاصقة للأروقة أسفل المسجد تحت الأروقة الجنوبية الشرقية). وقد بدء بالمرحلة السادسة أوائل 1979 في منتصف الحائط الشرقي لسور المدينة ولسور الحرم الشريف (باب السيدة مريم والباب الذهبي) أما المرحلة السابعة فتهدف إلى تعميق ساحة البراق (وتسمى ساحة المبكى) وهي ملاصقة للحائط الغربي للمسجد الأقصى.ويقضي المشروع الذي بدأ تنفيذه سنة 1977 ضم أقسام أخرى من الأراضي العربية المجاورة للساحة وهدم ما عليها وحفريات بعمق 9 أمتار (وكان قد تم هدم 200 عقار في هذه المساحة بين 1970-1977).
ويلاحظ أن هذه الحفريات قد قامت في البلدة القديمة وفي منطقة الحرم الشريف بوجه خاص وهي منطقة تعتبر ذروة في التقاليد الإسلامية والمسيحية واليهودية بالنسبة لآي موقع آخر في العالم، جرت معظمها تحت ستار البحث عن ممرات سهلة الوصول إلى حائط المبكي لتأكيد المزاعم بوجود "هيكل سليمان" في تلك المنطقة، وتشغل منطقة الحرم الشريف (التي تشمل المسجد الأقصى وقبة الصخرة) سدس مساحة القدس المسورة، وتعتبر بما فيها من مساجد وقباب وما يحيط بها من مآذن وأسوار، حرما إسلاميا مقدسا (جاء ذلك أيضا في قرار لجنة شؤون الانتداب عام 1940). والحفريات مازالت مستمرة متحدية جميع قرارات منظمة اليونسكو والأمم المتحدة التي أدانتها لما تشكله من خطر على آثار القدس وتغيير معالمها التاريخية ولما رافقها من إجراءات نزع الملكية وتدعى الحكومة الإسرائيلية أنها احتراما منها للحريات الجامعية ليست مؤهلة للأمر بإيقاف الحفريات الأثرية الجارية مع أنه لم يكن في الامكان أجراء الحفريات الأثرية إلا بعد موافقة وترخيص الحكومة. والحفريات تستهدف الاستكشاف العلمي ظاهرا، ولكنها تتخذ فعلا وسيلة لتصديع ما فوقها من أبنية سكنية وتجارية ودينية وحضارية والتسبب في انهيارها، ثم هدمها وإجلاء سكانها وهو الجزء الأساسي من أطماع "إسرائيل" وقد ثبت أن الحفريات تشكل تهديدا خطيرا لعدد من المباني التاريخية العظيمة الأهمية لما تحدثه من انهيارات وتشققات (مثل رباط الكرد والمدرسة الجوهرية، باب القطانين، مئذنة قايتباي إلى أساسات المسجد الأقصى وأروقته السفلية وغير ذلك من البيوت ذات الأهمية التاريخية التي تدخل في عداد الأوقاف الإسلامية).
انتهاك أماكن مقدسة وأثرية أخرى
تعرضت المقدسات والأماكن الأثرية الإسلامية والمسيحية في القدس لاعتداءات بدأت منذ احتلال الجزء الأول من القدس عام 1947 (مقبرة مأمن الله في القدس الجديدة وبعض المقابر المسيحية وقبة الصخرة وكنيسة القيامة وكنيسة نوتردام) وبعد حرب 1967 ووقوع جميع الأماكن الإسلامية والمسيحية تحت الاحتلال الإسرائيلي، تعرضت عدد من المقدسات إلى مزيد من الاعتداءات والانتهاكات رغم ما تدّعيه السلطات من حرية العبادة التامة، وحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة والأمثلة عديدة.وبالإضافة إلى ما تحدثه عمليات الحفريات من تهديد للآثار الإسلامية والمسيحية فقد تمَّ بعد الاحتلال :
- استملاك ومصادرة وهدم ونسف العمارات الوقفية الملاصقة للمسجد الأقصى في الغرب والجنوب.
- احتلال باب المغاربة، أحد أبواب الحرم الشريف وإقامة مركز عسكري فيه.
- الاستيلاء على الزاوية الفخرية ومقبرتي باب الرحمة واليوسفية وجميعها قرب الحرم وتعتبر جزءا هاما من تاريخ القدس الإسلامي.
- إقامة مظاهرات دينية في ساحة الحرم وأمام مدخل مسجدي الأقصى والصخرة من قبل رجال الجيش "الإسرائيلي" والمنظمات "الإسرائيلية" المتطرفة والهيئات الدينية وتوجيه الإهانات وإزعاج المصلين وانتهاك قدسية المكان بالسلوك والمظهر غير اللائقين.
- إجراء الحفريات العميقة عند المسجد الأقصى.
- تصريحات رجال الدين والزعماء السياسيين حول بناء الهيكل في الحرم القدسي.
- حريق المسجد الأقصى 21/8/1969 هو أوضح مثال على عدوان "إسرائيل" على المقدسات الدينية وعلى الممتلكات الثقافية في الأراضي المحتلة وموجه ضد مشاعر أي إنسان يحترم مقدساته وتراثه.
- عرقلة تنفيذ أحكام وقرارات المحاكم الإسلامية.
- تجاهل شكاوى دوائر الأوقاف والهيئة الإسلامية.
- عرقلة بناء المساجد.
- تعرض كنيسة القيامة (اكبر وأقدم كنيسة مسيحية في القدس وفي العالم) إلى انتهاكات متعددة وخاصة سرقة بعض مقتنياتها الأثرية الدينية.
- تعرض دير الأقباط للاعتداء على ممتلكاته ورهبانه من قبل الشرطة الإسرائيلية عام 1970.
- إحراق بعض المؤسسات والمراكز المسيحية في القدس.
- عبث السلطات بأماكن مسيحية متعددة (دير القديس جاورجيوس الأرثوذكسي في جبل صهيون، كنيسة نوتردام أي فرانس، دير الراهبات، دير الإباء البنكيين. قصر القاصد ألرسولي، المدرسة الاكليركية.
- العبث في المقابر المسيحية الأثرية في جبل صهيون وسرقة بعض الأيقونات الذهبية منها.
- ضم بعض الأملاك الدينية المسيحية (أراضي أحياء المصلبة والقطمون، كرم الرهبان بين محطة سكة الحديد وفندق الملك داود، مدرسة شنلر الألمانية، أراضي وأبنية الكنيسة الروسية البيضاء) الضغوط لشراء كنيسة نوتردام.
- تعرض كثير من رجال الدين المسيحي لحملات ضغط وإرهاب واعتداء (رهبان دير الأقباط، المطران فاسيليوس من البطريكية، المطران كبوشي).
- تقييد الحرية الدينية.
تغيير معالم القدس
القدس هي جزء ثمين من تراث الإنسانية، تحمل معالمها قرونا من التاريخ، إلا أنها تتحول تحت الاحتلال الإسرائيلي وبسبب الاستمرار في مشاريع الاستيطان والتخطيط الإسرائيلي إلى مدينة عصرية تشبه مدن المتربول الأمريكية والأوروبية ما يسلب القدس روحانيتها وعروبتها، ويتجاهل طبيعة المنطقة التاريخية والدينية ويهمل الناحية الجمالية التي حرصت جميع العهود على المحافظة عليها.
وكان للاعتبارات السياسية- العسكرية مكانة لافتة، بعد مكانة التهويد، في تخطيط عملية الاستيطان لأحكام السيادة الإسرائيلية على المدينة، يضاف إلى ذلك اعتبارات مادية بحته لإرضاء المستثمرين والسياح بإقامة مشاريع ضخمة في الفنادق والمباني الضخمة، ومنع رخص البناء لوحدات سكنية من طراز يشوه معالم المدينة التاريخية وما يبدو أكثر تخريبا هو هدم وإزالة المواقع والأحياء التاريخية والقديمة في القدس بحجة تنظيم المدينة، وكذلك الحفريات وما يتبعها من هدم لمباني هي جزء من التراث زاد ذلك في نسبة تغيير معالم المدينة وإضعاف الجانب العربي فيها.
وأثار هذا التغيير من الانتقادات العالمية والدعوة للحفاظ على طابع المدينة الديني والحضاري وهدم جميع ما أقيم من عمارات متعددة الطبقات على الهضاب المحيطة بالقدس والتي تشكل "أسوار القدس الجديدة"، وأوضح مثل على ما لحق بالمدينة من تشويه ما حدث في جبل المكبر الذي يطل على القدس من جانبها الشرقي.
واستكمالا لطمس معالم المدينة التاريخية عمدت السلطات إلى تغيير أسماء الشوارع والساحات العربي واستبدالها بأخرى عبرية مع أن لكل من الأسماء المستبدلة دلالة للتراث العربي في المدينة (من أمثلة هذه التغييرات طريق سليمان والمعني به سليمان القانوني اطلق عليه اسم شارع المظليين، تل الشرقة أطلق عليه اسم جبعات همفتار، باب المغاربة أطلق عليه اسم رحوب بيتى محى، حارة الشرف أطلق اسم مشقاق لداخ). يضاف إلى هذه التغييرات استخدام العبرية في إشارات الطرق والبريد وفي الإعلانات الرسمية والوثائق الإدارية والراديو والتلفزيون.
ثمة انتهاكات لا تعد ولا تحصى قامت بها إسرائيل تحت مرأى ومسمع من يعنيهم الأمر في المحافل الدينية والشرعية الدولية،وثمة عشرات القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة التي تمنع مثل تلك التعديات،لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ ولهذا ما زالت إسرائيل مصرّة على ما بدأته منذ عشرات السنين دون حسيب أو رقيب!.