19‏/02‏/2011

سقوط عصر في مصر

سقوط عصر في مصر د.خليل حسين أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية نشرت في صحيفة الخليج الإماراتية بتاريخ 19-2-2011 ثلاثة عقود إضافة إلى واحد قبلها،شكّلت ما يشبه إعادة تكوين سياسي اجتماعي لنظام اعتبر تاريخيا، مقياسا لموقع وقوة العرب أجمعين في النظام الإقليمي الشرق أوسطي.فكانت أولى نتائج هذا التشكيل خروج مصر بمعاهدة كامب ديفيد التي يتّمت العرب وأبقت صراعهم مع إسرائيل صراخا بلا معنى لعقود متتالية لولا بعض الانتصارات المتفرقة التي أنجزتها قوى شعبية هنا أو هناك من دول الطوق. وربما هذا السقوط المريع وغير المتوقع، أتى في الزمان والمكان المناسبين لمجمل الواقع العربي الذي يحتاج إلى مزيد من قوى الدفع والتحفيز لمواجهة المخاطر الداخلية والخارجية التي يتخبط بها. وبصرف النظر عن الأسئلة الهائلة التي ستوجّه إلى مستقبل هذا الانهيار داخليا،تبقى تداعياتها الخارجية هي الأهم والمقرر في مستقبل دور وموقع مصر العربي والإقليمي. من بين هذه الأسئلة المثيرة،ما هو مستقبل معاهدة السلام مع إسرائيل؟ وكيف ستتمكن مصر من أخذ موقعها المفترض في النظامين العربي والإقليمي؟ وما هي حدود النجاحات أم الفشل أو بمعنى آخر هل تمتلك مصر القدرة والرغبة في احتلال حيّز ما في دائرة التأثير الإقليمي؟ إنها مجموعة من الأسئلة المرتبطة بمجمل الملفات التي حاولت القاهرة اللعب ضمن دائرتها لعقود أربع خلت. في الملف الاستراتيجي الأول في سياسة مصر المركزية، حسم المجلس العسكري أمره فيه،بإعلانه التزام مصر الكامل بالاتفاقيات الإقليمية والدولية المرتبطة فيها،وبيت القصيد هنا اتفاقية السلام. هذا الموقف لا يعتبر مفاجئا ولا متوقعا،بل أكيدا للعديد من الاعتبارات المتعلقة أصلا بعدم قدرة القاهرة في هذه الظروف بالتحديد إلا اتخاذ مثل هذه القرارات والمواقف،سيما وأن أولويات من يستلم السلطة حاليا إعادة تشكيل النظام وإطلاق مؤسساته من جديد بصرف النظر عن حدود التباين أو التشابه مع سياقات النظام السابق. لكن المسألة مرتبطة بالزمن اللاحق للإجابة على هذا السؤال. وفي أحسن الأحوال ان واقع السياسة الخارجية المصرية وظروفها الذاتية هي غير قادرة على الانعطاف المفاجئ والتغيير الجذري،وثمة من يقول ان غالبية الشعب المصري وقواه الحية وهي من الشباب أصلا التي قامت بالثورة ،هي خارج إطار الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره من عصر آخر لا صلة له به،وأن تبديل الأولويات والعقائد والمفاهيم يستلزم أوقاتا إضافية ربما تقاس بعصور لا عصر واحد. وعليه إن اتفاقية السلام ستبقى قائمة وبالحد الأدنى من وجهة النظر الغربية وبالتحديد الإسرائيلية باعتبار ان استمرار النظام في مصر واستقراره هو مرتبط بالالتزام بمعاهدة السلام،وهذا ما يستشف من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وتعاطيها مع وقائع الثورة وتداعياتها الأخيرة ،ان لم نقل نتائج إدارة الأزمة التي كان لواشنطن وتل أبيب يد مخفية فيها. في الملف الآخر المتعلق بموقع ودور مصر في النظامين العربي والإقليمي، يبدو ان الأمر لا يقل ضبابية وصعوبة عن السابق،فمصر التي خرجت من عرينها العربي التي كانت الفاعل الأول في تحريك ملفاته، تحوّلت في العصر السابق إلى مجرد لاعب لإدارة أزمات فرعية لم تتمكن عمليا من تحقيق نتائج تذكر فيها مقارنة مع إمكاناتها المفترضة. وخسرت بالتالي حيزا كبيرا كانت تشغله، تمكن غيرها من ملئه بسهولة كما تمكَّن من ان يأخذ دورها ويحقق نجاحات فيه بصرف النظر عن الحجم والفاعلية. فمع سياسات القاهرة في نهايات زمن أنور السادات،تمكنت طهران من أخذ دور مصر المفترض الراعي لحركات التحرر والمواجهة في المنطقة، كما تمكّنت من وضع نفسها لاعبا خليجيا أساسيا في عهد حسني مبارك. وظلت مصر شاهد عيان غير مؤثر في أحداث كبرى أسقطت تداعياتها نظما وسياسات إستراتيجية في المنطقة بدءا من سلسلة الاعتداءات الإسرائيلية على غزة ولبنان وانتهاءً باحتلال العراق وأفغانستان، عدا عن الأزمات العربية الفرعية بل ربما الأساسية ومنها انفصال جنوب السودان الخاصرة الرخوة للمجال الحيوي المصري اذا جاز التعبير. وفي هذا الإطار يبدو ان عودة مصر إلى هذا الموقع بالتحديد، له مصاعبه الخاصة المرتبطة أولا بمزاحمة طهران على دور وموقع تعتبر نفسها معني أساسي به،بكونه يشكل احد اذرع السياسات الخارجية الهامة بالنسبة لها وبالتالي ليسن من السهل ان تتخلى إيران عن أي حيّز تمكنت من أخذه ولو بظروف استثنائية مرّت فيها دول القرار العربي بأزمات كبيرة.وبالتالي ان جهدا كبيرا ينبغي على القاهرة العمل عليه لإعادة ترتيب أولوياتها وقواها اذا كانت راغبة بلعب دور إقليمي بارز كما يفترض. في المقلب الآخر من الموضوع نفسه، ثمة موقع آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو الدور التركي الذي حلَّ في قسم كبير منه محل الموقع والدور المصري المفترض كذلك. فتركيا ابتعدت خلال الفترة السابقة عن إسرائيل،وكوّنت معطيات جديدة لسياساتها الشرق أوسطية،ما مكّنها بأن تكون محورا وحتى وسيطا في الصراع العربي الإسرائيلي الدور الذي لم تلعبه مصر أساسا،بل كانت طرفا فيه ضد بعض العرب. وبالتالي ان مزاحمة مصر لتركيا مستقبلا يبدو من الأمور التي تتطلب أيضا جهودا لافتة ان تمكّنت من تأمينه في ظل الظروف الذاتية والموضوعية التي تحيط بها،وبخاصة القراءة الإسرائيلية لهذه الثورة التي سيكون للكلام فيها صلة. طبعا ثمة مصاعب ومعوقات لا يستهان بها لعودة مصر إلى دورها وموقعها الذي يبحث كل عربي عنه ويتمناه. لسنا هنا بمتشائمين ولا بمستهترين أو بمستهزئين بقوى مصر. بل نعرف أننا نحن العرب بلا مصر نعيش فراغا لا يستطيع احد ملئه، لا وصي ولا منتدب من أينما أتى وبأي لغة خاطبنا، نحن العرب ندرك ان عصرا قد سقط، وعلينا العمل على إعادة أم العرب وأم الدنيا إلينا،لكي لا نشعر بعد اليوم باليتم السياسي الذي بلغنا من العمر فيه الكبر.