04‏/02‏/2011

التنمية السليمة

التنمية السليمة
د.خليل حسين
من كتاب السياسات العامة
من مفارقات عصرنا ان مخططي السياسات العامة في الدول النامية ربطوا برامجهم وسياساتهم بالتنمية ووعدوا شعوبهم بالأحلام الوردية، إلى حد أن الخيال قد سرح بالكثيرين منهم الى حد القول ان النعمة ستشمل الجميع وسيمتلك كل فرد ما يتمناه ويحلم به، الا ان الامر لم يتحقق الا للقلة القليلة في المجتمع وكانت النتيجة واضحة على حساب الفقراء.
وفي هذا المجال أشار تقرير التنمية البشرية لعام 1996، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الى خمسة أنواع لما أسماه "النمو الرديء" الذي تشهده البشرية .
- النمو عديم الشفقة.. أي النمو الذي يؤدي إلى زيادة غنى الأغنياء، وزيادة فقر الفقراء.
- النمو بلا مستقبل.. أي النمو الذي يستنزف الثروات الطبيعية، ويحرم الأجيال القادمة من نصيبها من الميراث.
- النمو الأخرس.. حيث الثروة القومية تزداد، كما القمع وغياب المشاركة السياسية ايضا.
- النمو بلا أساس حيث تخبو الهويات الثقافية للشعوب، وتهمش الثقافات الوطنية
- النمو بلا فرص عمل.. حيث الدخل القومي يزداد، والبطالة تزداد أيضاً.
وسنحاول تسليط الضوء على جوهر التنمية السليمة، وأبرز الأوهام المرتبطة بالتنمية، وأهم الجرائم المرتكبة باسمها، والاخطاء التي ارتكبها صناع القرار، وأزمة النمور الآسيوية والدروس المستفادة منها ،،كما سنقدم مقترحات للتنمية السليمة .
أولاً- التنمية السليمة واسسها
أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اواخر العام 1996،قراراً تضمن "إعلان الحق في التنمية"، واعتبر في مادته الأولى أن "الحق في التنمية حق من حقوق الإنسان غير قابل للتصرف، وبموجبه يحق لكل إنسان ولجميع الشعوب المشاركة والإسهام في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، والتمتع بهذه التنمية التي يمكن فيها إعمال جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية إعمالاً تاماً" . واعتبرالإعلان أن "التنمية عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم، على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة، في التنمية، وفي التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها" .
أن جوهر التنمية، هو "التغيير نحو الأفضل"،التغيير الذي يحسن الأنساق أو الأنظمة الاجتماعية القائمة في المجتمع كالنظام الاقتصادي والنظام التعليمي وغيرهما، باتجاه إشباع مزيد من الحاجات الحقيقية للبشر، لا الحاجات الوهمية، وبأقل كلفة اقتصادية واجتماعية وبيئية ممكنة. وبرأينا يشمل تغيير أي نظام، تغيير كل أو بعض العناصر التالية: التنظيم والبنيان الإداريين، والوظائف والأهداف، الظروف الموضوعية والإمكانات، والاتجاهات الفكرية والوجدانية أو القيم الاجتماعية التي هي المعايير التي تضبط السلوك الفردي والجماعي .
ويتفق كثيرون من الباحثين على ان للتغيير أسلوبين: الإصلاح والثورة.. فالإصلاح، هو "تحسين النظام السياسي والاجتماعي القائم، دون المساس بجذوره أو أصوله، أي أنه تعديل غير جذري في شكل الحكم أو العلاقات الاجتماعية " .أما الثورة فهي "التغيير الشامل والكامل الذي يحدث عندما تصبح القوى القائمة على اختلاف انواعها وأشكالها غير قادرة على مواجهة متطلبات المجتمع القائم" ولكل من الأسلوبين مخاطره. فالاصلاح يتصف ببطء خطواته، ومرور وقت طويل قبل أن تظهر نتائجه. والثورة تتصف بالمغامرة . فهي عندنا تدفع المجتمع ليتقدم قفزاً وحرقاً للمراحل، فإنما تدفعه إلى اتخاذ خطوات قد لا تكون سليمة، وقد لا يستطيع العودة بعدها إلى المرحلة السابقة إلا بعد فوات الاوان.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو : هل التنمية هي التقدم، أم هي النهضة؟... يقول الدكتور محيي الدين صابر، المدير العام السابق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم: "إن سعي الإنسان قديم، لاستئناس الطبيعة، رفعاً لشرها، واستدناء لخيرها، يوظف في ذلك خصائصه النوعية من قدرة عقلية، ومن خيال منتج، يكتشف بهما قوانين الطبيعة، وينمي معارفه، ومن ذاكرته الحضارية، يستجمع بها خبرات الماضي، يمتد منها إلى جديد يواجه به حاجاته الحيوية والاجتماعية والمعنوية. وهذا السعي هو التطور، وهو التقدم، وهو النهضة، وهو التنمية" . وفي نفس الاتجاه، يقول الخبير الاجتماعي المعروف الدكتور نادر فرجاني: "إنه يمكن اعتبار التنمية مفهوماً تقاربياً للتقدم" . ويضيف : "التنمية عندنا مرادف للنهضة. والفارق الأساسي بينهما هو أن التنمية كما نتصورها هي جهد قصدي، بينما النهضة هي طور مجتمعي ينشأ في مجتمع ما نتيجة لتفاعل ظروف موضوعية تلقائياً. أما التنمية فهي عملية إنهاض إذا شئنا" .
أن التعابير الثلاثة.. التنمية والتقدم والنهضة.. تشترك في أنها تعني تغييرا لأوضاع المجتمع نحو الأفضل، وبرأينا هي اقرب كمترادفات لغوية ، ونلاحظ أن تعبير "التنمية" يستخدم عادة في الكتابات الاقتصادية، وأن تعبير "التقدم" يستخدم عادة في الكتابات الاجتماعية، وأن تعبير "النهضة" يستخدم عادة في كتابات المفكرين والسياسيين.
والتنمية امر مغاير للنمو.. فالتنمية هي تعبيرعن التغيير الإرادي ، بينما النمو تعبير عن التغير العضوي الطبيعي. كما إن التنمية شيء أكثر تعقيداً وشمولاً وعقلانية وعدالة من النمو... فالنمو يكاد يقتصر على الجانب الاقتصادي الذي يقاس عادة بمعدل النمو السنوي للناتج المحلي أو الدخل القومي، وهو قد يتم لصالح فئة قليلة من أفراد المجتمع، أو يتم دون اعتبار لما يحدثه من تدمير للبيئة. أما التنمية (ونقصد التنمية السليمة، أو التنمية الصحيحة ، أو التنمية الطيبة) فلا تعني مجرد زيادة الدخل القومي، بل تعني أيضاً العدالة في توزيع الدخل، وإشباع حاجات الأغلبية الفقيرة في المجتمع، مع الحفاظ على التوازن البيئي والاستقلالية الوطنية الحقيقية.
ثانياً- التنمية دواء للتخلف
إذن، تعتبر التنمية كعملية او كعمليات تغيير لأحوال المجتمع،اصطلح على وصفها بأنها "متخلفة"، إلى أحوال أخرى أفضل منها اصطلح على وصفها بأنها "متقدمة". فعندما يذكر مصطلح "التقدم"، يتبادر إلى الذهن واحد أو أكثر من أبعاد التقدم.. البعد المكاني (أي التقدم من الخلف إلى الأمام)، والبعد الزمني (أي التقدم من الماضي إلى الحاضر)، والبعد الكمي (أي التقدم من القليل إلى الكثير)، والبعد الهيكلي (أي التقدم من البسيط إلى المركب)، والبعد التراتبي (أي التقدم من الأسفل إلى الأعلى)، والبعد الأخلاقي (أي التقدم من الوحشية إلى الرحمة).كما يرتبط التقدم، على نحو ما، بالنظام.. فتزداد درجة التقدم كلما اكتشف المجتمع مزيداً من أوجه النظام (أو مزيداً من القوانين).
ويلاحظ الدكتور برهان غليون أن للتقدم عدة معان.. فالتقدم، بالمعنى الفلسفي رأى النور ليعبر عن نوع من الإيمان بتطور الإنسانية وتقدمها في مدارج الحضارة بشكل منتظم ونحو الأفضل. وقد كان ذلك عنصراً جديداً في التفكير الإنساني بالمقارنة مع فكر القرون الوسطى. وانبثق هذا الاعتقاد بتقدم الإنسانية نحو الأفضل من الشعور بأن الإنسان صارت له قدرة أكبر على السيطرة على الطبيعة بنتيجة تقدم العلم والتكنولوجيا". أما التقدم بالمعنى الأيديولوجي فيقوم على صلاحية العقل وأهميته وقيمته بالمقارنة مع الفكر اللاهوتي، وعلى حرية الفرد، ومرونة الحراك الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية. وأما التقدم بالمعنى الاقتصادي فيقوم في النظريات الرأسمالية على "تحرير التجارة وتحرير الاقتصاد من ضغط الدولة. ويقوم في النظريات الاشتراكية على تدخل الدولة بشكل عام، ووجود سياسة مخططة للتنمية". ويقرر الدكتور غليون أيضاً أن "السيطرة على الطبيعة، أي التقدم التكنولوجي، هي أحد مصادر فكرة التقدم لكن التقدم في الغرب، وبمعنى السيطرة على الطبيعة، كان في الحقيقة نتيجة لسيطرة المجتمع على مقدراته ومصيره، وكان ثمرة التنظيمات السياسية والاجتماعية التي نشأت وتبلورت عبر سيرورة طويلة في المجتمع الغربي، وأدت إلى حدوث التقدم التكنولوجي فيه، وإلى تراكم المكتسبات الحضارية والعلمية والعقلانية. ويخلص الدكتور غليون إلى أن "المعنى الأساسي لمفهوم التقدم، إذن، هو السيطرة الذاتية للمجتمع على مقدراته" . فيكون التخلف هو عجز المجتمع عن السيطرة على مقدراته.
ويرى بعض االمفكرين أن هناك ثلاثة اوجه للتخلف، تختلف بحسب المعيار المعتمد للقياس ، فالمعيار إما أن يكون "الماضي"، أو "الآخر"، أو "الممكن". وفي حالة الأمة العربية بخاصة، يطلق حافظ الجمالي على "أوجه التخلف الثلاثة" اسمين آخرين هما: "المآسي الثلاث" و "الفضائح الثلاث"وهي :
- الفضيحة الأولى هي مأساة الحاضر بالقياس إلى الماضي..
- الفضيحة الثانية، فهي مأساة حاضرنا بالنسبة لحاضر الأمم المتقدمة المعاصرة.
- الفضيحة الثالثة مأساة الواقع بالنسبة إلى الممكن.. فواقع العرب فقير، فقير جداً، ولكنهم يملكون أكبر ثروات الدنيا وواقعهم متخلف، مفرط في التخلف، وفي وسعهم أن يملكوا أكبر حضارة. وفيهم ضعف كبير، ولديهم كل أسباب الحضارة .
وبرأينا إن التقدم هو تحقيق مزيد من اكتشاف قوانين الظواهر الطبيعية، ومن تقنين (أو قوننة) الظواهر الاجتماعية، باتجاه إشباع مزيد من الحاجات البشرية الحقيقية، وبأقل كلفة ممكنة. ومن الواضح أن التقدم يتفق مع التنمية والنهضة في أن الوسيلة هي التغيير، وأن الغاية هي إشباع الحاجات. وبذلك تكون التنمية (ويكون التقدم والنهضة) علاجاً لقلة إشباع الحاجات، أي علاجاً للتخلف.
ثالثاً- من هم المستفيدون من التنمية
يعتبر تحديد الفئة أو الفئات المستفيدة أو المستهدفة في العمليات التنموية من أكبر المشكلات التي تواجه المخططين والمهتمين بشؤون السياسات العامة والتنمية. ويرى الكثيرون أن التنمية السليمة تستهدف الفقراء. وللفقر نوعان: فقر مطلق، وفقر نسبي.. فالفقر المطلق. ويعتبر البنك الدولي،أن خط الفقر المطلق هو 370 دولاراً أمريكياً، أي أن الفقير هو الذي لا يتجاوز دخله السنوي 370 دولاراً أمريكياً. ومن الواضح أن الأمر يتطلب تغيير هذا الرقم من فترة إلى أخرى ليلائم التغيرات في الأسعار، وقد كان هذا الرقم في أوائل السبعينيات مثلاً 50 دولاراً فقط. اما الفقر النسبي، فيعتبر البنك الدولي أن الفقراء نسبياً في بلد معين، هم كل الأفراد الذين يقل دخلهم السنوي عن ثلث المتوسط القومي لدخل الفرد في ذلك البلد. ومن الواضح أن خط الفقر النسبي يتغير من سنة إلى أخرى تبعاً للتغيرات في الدخل القومي للبلد المعني، ويختلف من بلد إلى آخر.
وفي نفس السياق ، يُلاحظ ان عمليات التنمية الريفية حيث يكون المسهدف هم الاكثر فقرا، يُلاحظ في نفس الوقت ان المستفيدين هم الاقل فقرا، مما يعني عدم فعالية المشاريع او غيرها من الاسباب ولذلك، صنف الخبير الاجتماعي روبرت تشامبرز تلك المشاريع والبرامج تحت أربعة أنماط تبعاً لنتيجة المشروع أو البرنامج. وهي على الوجه التالي:
- النمط الاول : وفيه مكسب للصفوة الريفية، وخسارة للريفيين الأكثر فقراً. ومن أمثلته: السماح للصفوة الريفية أو تمكينها من الاستئثار بموارد الملكية المشاعة كالأرض والمياه الجوفية وانكارها على الآخرين، واعتماد تمنولوجيا تؤدي نتيجتها النهائية إلى فقدان أسباب الرزق
- النمط الثاني: وفيه مكسب للفريقين.. الصفوة والريفيين. ومن أمثلته: الخدمات الجديدة التي تتاح للجميع كالصحة والمياه والتعلم، ومعظم الأشغال العامة التي تخلق بنية أساسية جديدة، واصلاح الري من القنوات التي يفيد منها كل المزارعين.
- النمط الثالث: وفيه لا يحدث تغيير في مكاسب الفريق الأول (الصفوة)، بل يحدث مكسب للفريق الثاني أو الريفيين. ومن أمثلته: الائتمان لإقامة المشاريع لأجل الفقراء، وتقديم حصص مدعّمة للفقراء، وتقديم تكنولوجيا ملائمة (كالبذور والأدوات) للفقراء.
- النمط الرابع: وفيه تحدث خسارة للصفوة، بينما يحدث مكسب للريفيين. ومن أمثلته: الاصلاح الزراعي بدون تعويض مناسب، وتطبيق تشريع الحد الأدنى للأجر.
ويرى تشامبرز أن "تجاهل سلطات الصفوة المحلية ومصالحها كان مسؤولاً عن الفشل في إفادة الفقراء، ربما أكثر من أي عامل آخر. والفرصة متاحة الآن للإفادة من تبصر العلوم السلبية بصورة إيجابية. وإن تحليل المصالح يخلق مجموعة جديدة من الأسئلة وذخيرة جديدة من الترتيبات تتضمن الموازنة والحلول الوسط كجزء من واقعية جديدة. ويظل توفير أسباب الرزق الآمنة واللائقة هو الهدف طويل الأجل للجميع.ولهذا، فإن حلول النمط الرابع قد يكون ضرورياً في نهاية المطاف. ولكن، في المدى الأقصر، يتحقق الهدف من خلال برامج النمطين الثاني والثالث للحصول على مواقع استراتيجية من خطوط دفاعية وهجومية هنا وهناك، وتدعيم قدرة الفقير وتمكينه من أن يعمل من أجل نفسه بدرجة أكبر" .
رابعاً- أوهام حول التنمية
تعتبر التنمية من المسائل المعقدة التي تواجهها العقبات في كل مجال، الأمر الذي أدى إلى نشوء بعض الأوهام في أذهان مخططي التنمية والمهتمين بالسياسات العامة. ومن أبرز تلك الأوهام: ان التنمية تعني مزيداً من الاستثمارات، واعتبار التكنولوجيا المتقدمة المستوردة هي الحل، وكثرة السكان نقمة لا نعمة.
1 - التنمية والاستثمارات
يجنح الكثيرون من مخططي السياسات العامة والمهتمين بشؤون التنمية أنها تتطلب دائما وبالضرورة، توظيف أو استثمار موارد مالية. والواقع أن هذا الاتجاه ينطبق فقط على التنمية الأفقية، أي التنمية القائمة على إنشاء وحدات إنتاجية جديدة مثل استصلاح الأراضي. ولكن.. هناك نمط آخر للتنمية لا يتطلب كثيراً من المال، وربما لا يتطلب مالاً على الإطلاق، وهو نمط التنمية الرأسية، أي التنمية القائمة على زيادة إنتاجية الوحدات الإنتاجية القائمة فعلاً، أي زيادة إنتاجية الهكتار مثلاً. ويمكن أن تتم هذه التنمية الرأسية بوسائل كثيرة مثل: تدريب العاملين والمزارعين، وتحسين الدورة الزراعية، وتحسين مواعيد وطرق تنفيذ العمليات الزراعية، وتموين الزراعة كما يمكن تقليل الحاجة إلى الموارد المالية الخارجية بخاصة، عبر تنفيذ المشاريع ذات الكثافة في العمالة، مثل زراعة الخضر والصناعات الريفية.
2- التكنولوجيا المتقدمة المستوردة
التكنولوجيا هي ما يفرزه العلم من خبرات نظرية وعملية في إنتاج السلع والخدمات، واستخدامها وصيانتها. وهي تهدف إلى توفير الجهد، وتوفير الوقت، وتوفير الإمكانية ،أي إمكانية إنجاز أعمال لم تكن في الماضي ممكنة، كما تهدف في النهاية إلى إنتاج سلع وخدمات أرخص، وأكثر فائدة ومتانة.
ويراهن البعض على أن التكنولوجيا المستوردة هي المخرج من التخلف ، الا أن التكنولوجيا المستخدمة كانت، ولا تزال، وبالاً على الشمال والجنوب في آن معاً. ففي الشمال، تحوّلت التكنولوجيا إلى وحش يسحق الناس بحسب هارولد ويلسون، وأصبح الناس سجناء انجازاتها بحسب أوريليوبيشي، وصارت عائقاً أمام المشاركة الشعبية بحسب باتريك هامليت، وعاملاً في استثارة الغرائز المضمرة بحسب انطون مقدسي، وسبباً في فقدان الحياة معناها وحدوث أمراض الحضارة كالاضطرابات العضوية والنفسية والاجتماعية بحسب رينيه دوبو.! أما في الجنوب، فقد أدت إلى تفاقم مخاطر المديونية الخارجية، وتكريس التبعية للشمال في كافة المجالات، وتبديد الموارد على تكنولوجيا غالبا ما كانت قليلة الكفاءة، وملوثة للبيئة، ومحابية للأقلية الفنية على حساب الأكثرية الفقيرة، ومدمرة للقيم الاجتماعية .
ان افضل الطرق لدول الجنوب أن تعتمد على الذات بصورة جماعية، لإنتاج التكنولوجيا التي ليست بالضرورة المستخدمة في دول الشمال، كما ليست التكنولوجيا التي تخلى عنها الشمال لسبب من الأسباب,المطلوب إذن.. تكنولوجيا تقوم على إعادة الاعتبار للمحلية منها، أي ان تكون وظيفية، بمعنى أنها ذات فائدة عملية مباشرة في تلبية الحاجات الاجتماعية الحقيقية ، تحقق أكبر كفاءة اقتصادية ممكنة في الظروف المحلية، وتركز على حاجات الأكثرية الفقيرة، ومع الحفاظ على نسق القيم الاجتماعية والتوازن البيئي وحقوق الأجيال القادمة.
3- كثرة السكان
صحيح ان كثرة السكان يمكن ان تشكل بعض العوائق في تنمية المجتمعات وتعثر بعض برامج السياسات العامة للدول، الا انها مسألة نسبية ولا يمكن تعميمها على الكثير من المجتمعات والدول ، وقد اثبتت تجارب العديد من الدول ان عدد السكان المرتفع وازدياد نسبة الولادات والاحلال يشكل عامل قوة رئيس من الصعب عدم الالتفات اليه.وهنا نبرز بعض الامور منها:
- يؤكد خبراء السكان "أن معدل نمو السكان متغير تابع للنمو، وليس متغيراً مستقلاً يؤثر بالسلب على عملية التنمية" ..
- يعتبر الخبراء الاستراتيجيين في قوة الدولة أنه "كلما زاد حجم السكان كان ذلك في صالح قوة الدولة بصورة عامة" ، وأن عدد السكان سيكون عاملاً في تحديد الدول الخمس الكبار في القرن الواحد والعشرين .

- لقد اثبت خبراء اللجنة العالمية للبيئة والتنمية في عام 1987، إن الأرض تستطيع، وفقاً لأنماط الاستهلاك والإنتاج الحالية، أن تعيل ضعف سكان الأرض.. فكيف إذا أخذنا بعين الاعتبار زيادات الإنتاج التي تنتج عن القفزات غير المتوقعة في التكنولوجيا، وإمكانية استخدام باقي الموارد الأرضية والمائية غير المستثمرة حالياً .
- أن الدعوة إلى تحديد النسل التي ترعاها الدول الرأسمالية والمنظمات الدولية "تشتم منها غالباً رائحة الاستعمار الجديد" كما تقرر الخبيرة الاجتماعية سوزان جورج ، وأن تلك الدعوة وما يتبعها من ممارسات لفرض تطبيقها ما هي إلا "حرب بيولوجية ضد العالم الثالث" كما قرر المؤتمر النسائي الدولي للسكان في بنغلاديش عام 1993 .
- كما اثبت العلماء بطلان نظرية مالتوس حول السكان، بسبب مغالاتها المفرطة في توقعاتها لنمو السكان، كي تدعم بصورة غير مشروعة مقولة بريطانيا على سبيل المثال: مقررة بشكل مسبق . ويبين الجدول التالي خطأ نظرية مالتوس مطبقة على بريطانيا على سبيل المثال.
العام عدد السكان حسب توقعات مالتس عدد السكان حسب الإحصاءات نسبة أرقام مالتس إلى أرقام الإحصاءات نسبة الزيادة في أرقام مالتس عن أرقام الإحصاءات
1801 5ر10 5ر10 100%
1811 9ر13 0ر12 116% 16%
1921 3ر18 2ر12 150% 50%
1831 2ر24 3ر16 148% 48%
1841 9ر31 5ر18 172% 72%
1851 0ر42 8ر20 202% 102%
1861 0ر55 1ر23 240% 140%
1871 0ر73 1ر26 280% 180%
1881 0ر97 7ر29 327% 227%
1891 0ر128 0ر33 386% 286%
1901 0ر168 0ر37 454% 354%



خامساً- جرائم باسم التنمية
وتحت مسميات عدة كالعولمة ودورها في التنمية البشرية او كما يقولون لها التنمية المستدامة، ظهرت العديد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية كنتيجة للسياسات الخاطئة التي اعتمدت وابرزها:
1- الهوة تتسع بين الاغنياء والفقراء
لم يكن التفاوت في الثروات جليا كما هو اليوم: مداخيل واحد في المئة من سكان العالم (أقل من 50 مليون شخص) تساوي مداخيل الـ 2،7 مليارات نسمة الاكثر فقرا. وبالرغم من بعض نتائج التدارك في آسيا الشرقية وخصوصا في الصين، فإن الاتجاه هو إلى اتساع الهوة. بحيث تزداد مداخيل الـ 20 في المئة الأكثر ثراء في العالم بينما تنخفض الأرقام الفعلية لمداخيل الـ 50 في المئة الأكثر فقرا. والمسؤولون في الشركات المتعددة الجنسية يتقاضون أجورا باهظة جدا تساوي مئات الالوف من الأجور الشهرية للعمال غير المتخصصين العاملين في فروع هذه الشركات في البلدان الفقيرة.
يضاف الى ذلك ظاهرة تمركز مكان الثروة. إذ تقع المراكز المالية في 21 مدينة فقط من البلدان المتقدمة، بينما تحوز بعض الدول الفيديرالية على مركزين (كندا وسويسرا). هذه البلدان التي تسيطر على أهم البورصات وعلى شبكات الاتصالات والنقل الجوي والبحري هي التي تتمتع أيضا بأفضل معدل لطول الحياة البشرية وأضعف نسبة في وفيات الاطفال. من جهتها الدول المقصية عن مراكز القرار تتراكم عليها المشكلات: العوز المدقع، النقص في مياه الشفة، العجز في البرامج التربوية والصحية الذي يجعل من مدن الصفيح بؤرا رئيسة للأوبئة، والنسبة العالية في وفيات الاطفال وفي الأمية.
أن هذا التعارض بين "البلدان الغنية والبلدان الفقيرة" هو تعارض نسبي. فانتشار وسائل الاتصال الكونية والنقل السريع يسمح لمجموعات صغيرة من أصحاب الامتيازات في البلدان الفقيرة بالوصول الى مستوى النخبة العالمية المتميزة، تشاركها أماكن نشاطها ونوعية استهلاكها. كذلك تشهد البلدان الغنية نفسها تنوعا كبيرا في تراتبيتها الاجتماعية. وإذا كانت الميزة الرئيسة لهذه البلدان هي وجود طبقة متوسطة واسعة وصلت بشكل "عادي" إلى مجموعة كبيرة من التجهيزات ـ مساكن رئيسية وثانوية، عمل متخصص،كومبيوترات وهاتف، سيارة وسهولة في استخدام وسائل النقل الدولية ـ فإنها تشهد على هامشها انتشارا لجزر من الفقر المطلق تتغذى من حركة الهجرة المستمرة الآتية من البلدان الأقل تقدما.

لا يوجد هناك مستوى محدد يمكن أن يعرف من خلاله مفهوم الثراء المفرط. فيصار إلى الاكتفاء بتصنيف مستويات للثراء. لكن إذا تعدينا النقاشات حول إخضاع حركة الرساميل والأرباح المالية للضريبة، فقد أعادت الفضائح المالية (انرون، ورلدكوم، فيفندي، يونيفرسال الخ...) طرح فكرة تحديد سقف لمدخول مسؤولي الشركات المتعددة الجنسية مع احتساب ما يمنح لهم من باقات أسهم (stock options) في البورصة.وفي المقابل، يثير قياس مستوى الفقر أيضا سجالات عديدة. فأغلب الدول تستخدم معيارا وطنيا مبنياً على الفارق المسجل مع متوسط الدخل او مع "سلة ربة المنزل" وهو نوع من الحد الأدنى الحيوي الذي يختلف بين بلد وآخر. كما أن معايير البنك الدولي المبنية على مستويات عالمية (دولار أو دولاران في اليوم تبعا للبلدان) ليست مرضية: فحتى بعد تصحيح قيمة الدولار نظرا لقدرته الشرائية، لا تأخذ هذه المعايير في الاعتبار ظاهرة الفقراء المدقعين للمهمشين في البلدان التي تصنف غنية، بينما تعيش في المقابل بعض المجتمعات الزراعية في البلدان المتخلفة بأقل من هذه المستويات النقدية ومع ذلك تتمتع بظروف حياة أقل هشاشة من غيرها.تكون هذه المعايير أكثر دلالة في حالة الأفراد الذين نزحوا بسبب النزاعات أو الأزمات الاقتصادية والبيئية للتجمع في المدن حيث تتفاقم الفروقات. وعلى أي قياس فعلي للفقر أن يتضمن، إضافة الى المقاييس النقدية، القدرة على التزود الفعلي بالماء والغذاء والمسكن والعناية الصحية والتعليم. وهذا ما يسعى إلى بلورته مؤشر التنمية البشرية في برنامج الامم المتحدة للتنمية. ولكن يجب أيضا قياس التنمية البشرية حسب المناطق وحسب المجموعات الاجتماعية وعدم الاكتفاء بالمعدلات الوطنية التي لا تعطي صورة حقيقية عن المعطيات.
كما لا يوجد هناك مستوى محدد يمكن أن يعرف من خلاله مفهوم الثراء المفرط. فيصار إلى الاكتفاء بتصنيف مستويات للثراء. لكن إذا تعدينا النقاشات حول إخضاع حركة الرساميل والأرباح المالية للضريبة، فقد أعادت الفضائح المالية (انرون، ورلدكوم، فيفندي، يونيفرسال الخ...) طرح فكرة تحديد سقف لمدخول مسؤولي الشركات المتعددة الجنسية مع احتساب ما يمنح لهم من باقات أسهم (stock options) في البورصة.
في المقابل، يثير قياس مستوى الفقر أيضا سجالات عديدة. فأغلب الدول تستخدم معيارا وطنيا مبنياً على الفارق المسجل مع متوسط الدخل او مع "سلة ربة المنزل" وهو نوع من الحد الأدنى الحيوي الذي يختلف بين بلد وآخر. كما أن معايير البنك الدولي المبنية على مستويات عالمية (دولار أو دولاران في اليوم تبعا للبلدان) ليست مرضية: فحتى بعد تصحيح قيمة الدولار نظرا لقدرته الشرائية، لا تأخذ هذه المعايير في الاعتبار ظاهرة الفقراء المدقعين للمهمشين في البلدان التي تصنف غنية، بينما تعيش في المقابل بعض المجتمعات الزراعية في البلدان المتخلفة بأقل من هذه المستويات النقدية ومع ذلك تتمتع بظروف حياة أقل هشاشة من غيرها.
كما ان هذه المعايير أكثر دلالة في حالة الأفراد الذين نزحوا بسبب النزاعات أو الأزمات الاقتصادية والبيئية للتجمع في المدن حيث تتفاقم الفروقات. وعلى أي قياس فعلي للفقر أن يتضمن، إضافة الى المقاييس النقدية، القدرة على التزود الفعلي بالماء والغذاء والمسكن والعناية الصحية والتعليم. وهذا ما يسعى إلى بلورته مؤشر التنمية البشرية في برنامج الامم المتحدة للتنمية. ولكن يجب أيضا قياس التنمية البشرية حسب المناطق وحسب المجموعات الاجتماعية وعدم الاكتفاء بالمعدلات الوطنية التي لا تعطي صورة حقيقية عن المعطيات.
وتشير الأرقام ايضا إلى أن العقود الأخيرة قد شهدت زيادة في غنى الأغنياء، وزيادة في فقر الفقراء أيضاً، وعلى كافة المستويات، وبحيث يصح القول إن ما تم في الجنوب تحت اسم التنمية، وفي الشمال تحت اسم التقدم، قد كان على حساب الفقراء. فعلى المستوى العالمي مثلاً ، وخلال الفترة الممتدة من عام 1960 إلى عام 1991، ازدادت حصة الخمس الأغنى من البشرية من 70% من الدخل العالمي إلى 85%، بينما انخفضت في الفترة نفسها حصة الخمس الأفقر من البشرية من 3ر2% إلى 4ر1%. ومن ثم، فإن نسبة حصة الخمس الأغنى إلى حصة الخمس الأفقر قد ازدادت أو تضاعفت من 30/1 إلى 61/1.
2 - ضد الشعوب الأخرى
أن الرفاهية التي نعم بها الغرب ، قد تمت نتيجة للنهب الذي مورس ضد الشعوب الأخرى في أمريكا اللاتينية وقارتي آسيا وأفريقيا. لقد دمرالغرب حضارات الأزتك والمايا وغيرها من الحضارات القديمة في أمريكا اللاتينية، وأبادوا أكثر من سبعين مليون إنسان من شعوبها الأصلية، ونهبوا كميات هائلة من الذهب كانت في معابد المكسيك وغيرها، وخطفوا أكثر من 15 مليون أفريقي واستعبدوهم في المزارع والمصانع، ونهبوا، ومازالوا ينهبون، المواد الأولية من آسيا وأفريقيا عبر عدة آليات أبرزها التبادل اللا متكافئ..
- ففي عام 1959، كانت الدول النامية تدفع طناً من النحاس، وتحصل على 39 أنبوباً خاصاً بأشعة روتنجن.
- وفي عام 1982، صارت الدول النامية تدفع طناً من النحاس أيضاً، ولكنها لا تحصل إلا على 3 أنابيب فقط.
- وفي عام 1994، أصبحت الدول النامية تدفع طناً من النحاس أيضاً، ولكنها لا تحصل إلا على أقل من أنبوب واحد.
ويحصل الغرب الآن على برميل النفط بسعر حقيقي لا يزيد عن 6 دولارات بدولار 1973 بل إن الغرب يحصل في أواخر التسعينات على برميل النفط وفقاً لما قاله أحد المسؤولين العرب في جلسة خاصة بسعر يقل في الواقع عن مثيله قبل ثورة النفط في أوائل السبعينات.
3- مع التبعية وضد الاستقلالية
يلاحظ أن العمليات التنموية في الدول النامية قد ترافقت، أو أدت إلى، التبعية وفقدان الاستقلالية.. فقد أدى الاعتماد المتزايد على الموارد الخارجية أو القروض والإعلانات لتمويل مشاريع التنمية إلى رهن استقلال كثير من الدول النامية لدى الدول الرأسمالية الدائنة، وبدا ذلك واضحاً في حرب الخليج الثانية 1991.وكذلك الحال فيما يتعلق بالتكنولوجيا. فقد أدى الهوس باستيرادها ، إلى ربط اقتصاديات كثير من الدول النامية بمصالح ونزوات الدول المتقدمة.
وفيما يتعلق بالسلع، يلاحظ الخبير الاقتصادي المعروف الدكتور جلال أمين أن "الذي يحدث في غمار ما يسمى بالتنمية، ليس مجرد زيادة في سلع غير معروفة، عديمة الهوية والطعم والرائحة، بل هي زيادة في سلع بعينها، لها صفات محددة، وهي بالتحديد سلع أثمرتها ثقافة أو حضارة بعينها هي الحضارة الوافدة على العالم الثالث. وقد اقترن هذا الوفود بمختلف صور الضغط من ناحية، والإذعان من ناحية أخرى . ويضيف الدكتور جلال أمين: "إذا وصفنا ما يحدث وصفه الصحيح، لكان علينا أن نقول إن الذي يحدث ليس مجرد تنمية، بل وليس تنمية، بل هو دائماً تغريب.. أي إحلال مجموعة من السلع المحددة والآتية من تلك الثقافة أو الحضارة الغربية، محل سلع وخدمات من نوع مختلف" بل إن الأمر يتعدى السلع المستوردة إلى السلع المنتجة محلياً.. فمعيار النجاح لدى معظم مخططي البلدان النامية، هو أن تتمكن بلدانهم من إنتاج السلع نفسها التي تنتج في الغرب.
4- - ضد القيم الاجتماعية
تعتبرالقيم الاجتماعية تجسيد لثقافة المجتمع وخصوصيته، أي أنها تعبر عن هوية المجتمع. فالقيم الاجتماعية تنتمي إلى الجوهر، لا إلى الشكل، ومن المؤسف أن بعضا ممن فهموا تغيير القيم في سبيل التنمية على أنه اقتلاع القيم من جذورها، واحلال قيم أخرى في ضمائر الناس، بدلاً من تنظيف تلك القيم الأصلية والأصيلة، وتطهيرها مما علق بها أو ارتبط بها من انحراف. ولذلك ليس من المستغرب أن تشن على القيم الوطنية حرب غير مقدسة في كافة المجالات، وبخاصة في ميداني السلع والتكنولوجيا.
ففي ميدان السلع، تلعب السلع المستوردة من ثقافة أخرى دوراً كبيراً في تدمير القيم الاجتماعية السائدة، واحلال قيم أخرى مكانها، هي القيم التي تحملها السلع المستوردة.
كذلك الأمر، وربما بشكل أكثر خطورة، في ميدان التكنولوجيا.. وهي ليست لسوء الحظ حيادية من حيث القيم.. إنها كتلة من القيم صماء وغاشمة تدمر كل القيم الأخرى التي تواجهها. "وكان الأناس المعروف ألفردمترو قد وضع في الخمسينيات من القرن العشرين دراسة تحت عنوان: "ثورة الفأس" تحدث فيها عما أحدثه دخول الفؤوس الحديدية على حياة بعض القبائل التي لم تكن تعرف الحديد من قبل، ناهيك بالفأس الحديدية. لقد كان دخول الفأس مدعاة لتخريب نظام مجتمعي بكامله، ونسف نمط حياة كان ما يزال صامداً في وجه أسباب التغيير منذ قرون.. تغيرت وتيرة الحياة، وطبيعة القيم والتبادلات والعلاقات المجتمعية والاقتصادية، بل ونصوص أساطير متوارثة منذ آلاف السنين. مما آل إلى حالة تسيب كاملة ما لبثت أن أدت إلى انهيار فعلي تفككت على أثره هذه القبائل، وتاه أفرادها في الفيافي، وما لبثوا أن انقرضوا، شأنهم شأن جديس وطسم وأهل الرس!"ويخلص الأناس المذكور إلى أن اختلال النظام المجتمعي، الذي يحصل بناء على ظواهر كهذه، إنما ينتمي إلى ما يمكن تسميته "علم أمراض المجتمعات البشرية"، الذي لاقى العلماء كثيراً من العنت، وبذلوا كثيراً من الجهد، لتحديد ورصد معالمه. بل إن الباحث المذكور لا يتردد في القول إن هذه القبائل المصابة بالمرض المذكور كانت ضحية وفرة في الخيرات التي أتاحتها التقنية الجديدة، وليس كما قد يسرع إلى بعض الأذهان نتيجة لفقر مادي أو اقتصادي. لقد انهار النظام المجتمعي بانهيار مقوماته جميعاً، رغم أن المستوى الاقتصادي كان قد ارتفع. وقد كان تبني الفأس الفولاذية، رغم كونها تقنية أشد اتقاناً وفعالية من الفأس الحجرية مرعية الاستعمال باعتبارها أشد فعالية، هو الذي أدى إلى انهيار النظام المجتمعي، وإلى تفسخ الجماعة" .
5- ضد البيئة
ومن مظاهر هذا العصر أن التنمية تتم في معظم الاحيان على حساب البيئة، وبالتالي على حساب الأجيال القادمة.. فقد صاحب معظم العمليات التنموية "خروج عن النص البيئي"، أي اخلال التوازن في الأنظمة البيئية، الأمر الذي أدى إلى حدوث مشكلات بيئية أبرزها: فقدان التنوع البيولوجي والتصحر، والتلوث، ونقدم فيما يلي بعض التفصيل في ذلك..
- فقدان التنوع البيولوجي: إن التنوع البيولوجي هو تنوع الحياة على الأرض، بكل ما فيها من نظم إيكلولوجية أو بيئية. وهو الأساس الذي تقوم عليه التنمية القابلة للاستمرار. كما أنه ركيزة الصحة البيئية لكوكبنا، ومصدر الأمن الاقتصادي والبيئي للأجيال المقبلة.ويقدر الخبراء أن عدد الأنواع الحية النباتية والحيوانية يتراوح بين 5- 30 مليون نوع، ويفقد العالم منها حسب تقديرات الخبيراء عدداً يتراوح بين 40- 140 نوعاً في اليوم الواحد. ويرى بعض الخبراء أننا فقدنا منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن نحو 75% من أشكال التنوع البيولوجي وبالتالي التنوع الوراثي في المحاصيل الزراعية .
كما يعتقد الخبراء أن الخطر الأكثر غدراً، هو استبدال النباتات البرية بنبات واحد أو عدد صغير من النباتات المزروعة.. فالنبات البري أشبه ما يكون بمجموعة من "المفاتيح"، وكل منها قادر على حل مشكلة بيئية معينة، سواء كانت هذه المشكلة هي القحط، أو الصقيع، أو الهجوم الفطري، أو غير ذلك. وفي حين أن النبات المزروع يصلح لحل المشكلة البيئية التي زرع من أجلها، إلا أنه لا يتمتع بجميع مزايا النبات البري. وهكذا، فإننا بقضائنا على الأصناف النباتية البرية، إنما نجهض حلول المشكلات التي لم تنشأ بعد. وعندما تزول النباتات البرية، يصبح الأمل في استعادتها ضعيفاً، لأن تطورها استغرق مئات ملايين السنين، و لا يمكن ضغط مثل هذه المدة في خطة خمسية مثلاً. وإن مجرد حقيقة أن النباتات البرية استطاعت البقاء طول هذه المدة هو دليل على قدرتها التكيفية .
- التصحر، وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر 1994، هو "تردي الأراضي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة والجافة وشبه الرطبة، نتيجة عوامل مختلفة من بينها الاختلافات المناخية والأنشطة البشرية". وينشأ التصحر، وفقاً لدراسة أجرتها المنظمة العربية للتنمية الزراعية عام 1992، عن: سوء الأحوال المناخية، وطبيعة التربة، وسوء استغلال الغطاء النباتي في المراعي والغابات والعمليات الزراعية الخاطئة، وسوء استخدام الموارد المائية، والهجرة من الريف. وواضح أن النشاطات البشرية هي السبب الأكبر في إحداث التصحر . ويقدر الخبراء أن التصحر يؤثر على سدس سكان العالم، و 70% من الأراضي الجافة، وربع مساحة اليابسة، وفي المؤتمر الآسيوي الأفريقي لمكافحة التصحر الذي عقد في بكين (آب/ أغسطس 1996)، قدر وزير الغابات الصيني قيمة الخسائر الناجمة عن التصحر في العالم، بحوالي 42 مليار دولار سنوياً. أما في الوطن العربي، فإن دراسة المنظمة العربية للتنمية الزراعية ، تقدر أن 68% من أراضي الوطن العربي متصحرة، وأن 20% أخرى من أراضي الوطن العربي معرضة للتصحر .
- يعرف التلوث بأنه "كل تغير كمي أو كيفي في مكونات الكرة الحية، في الصفات الكيميائية أو الفيزيائية أو الحيوية للعناصر البيئية، يزيد عن طاقة الكرة الحية على الاستيعاب، وينتج عنه إضرار بحياة المكونات الحية من إنسان وحيوان، أو بقدرة النظم البيئية على الإنتاج" .وإن أكثر ما يثير القلق، كون الزراعة الحديثة مصدراً كبيراً للتلوث.. إذ تؤدي، مثلاً، كثرة استعمال الأسمدة الآزوتية إلى تكاثر هائل للجراثيم والأشنيات في الماء يسبب نقصاً في الأوكسجين المنحل في الماء. وإذا ما تسرب الآزوت إلى مياه الشرب، فإنه قد يتحول في جسم الإنسان إلى نترات سامة تقلل من قدرة الدم على حمل الأوكسجين، وتسبب -بالتالي- تدهوراً في صحة الأطفال. وفي حال تسرب الأسمدة ومنظمات نمو النبات إلى باطن الأرض واختلاطها بمياه الأنهار والآبار، تصبح المياه الملوثة بهذه الطريقة مسؤولة عن كثير من حالات الإصابة بأمراض القلب والسرطان.
وتعتبر المبيدات الزراعية من أخطر المواد الملوثة. وتشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية إلى أن هناك شخصاً واحداً يتسمم بالمبيدات في كل دقيقة في هذا العالم، ويموت نتيجة لذلك، أكثر من خمسة آلاف شخص سنوياً .
سادساً- الاخطاء السبعة
قدم الخبير الاقتصادي الدولي الدكتور محبوب الحق نصائحه إلى مخططي التنمية، مركزاً في كتابه " ستار الفقر"على "الخطايا السبع" التي اقترفوها في الماضي، وهي على الوجه التالي:
- الانبهار بالأرقام، والافتراض أن كل ما يمكن قياسه يكون مناسباً، وكل ما لايمكن قياسه يمكن تجاهله في يسر. وهكذا، فإن قدراً لا نهاية له من العمل يذهب إلى نماذج القياس الاقتصادي، وقدراً غير كاف منه يذهب إلى صياغة السياسة الاقتصادية أو إلى تقييم المشاريع.
- الشغف الغريب بالضوابط الاقتصادية المباشرة، والافتراض، بسهولة شديدة، أن تخطيط التنمية يعني تشجيع القطاع العام، وفرض مجموعة متنوعة من الضوابط الإدارية لتنظيم النشاط الاقتصادي، وبخاصة في القطاع الخاص. وإنها لظاهرة غريبة أن المجتمعات نفسها التي تفتقر بوجه عام إلى الإدارة الجيدة، هي التي تعمد إلى تجربة أكثر الضوابط الإدارية تعقيداً وتعويقاً.
- الانشغال الدائم بمستويات الاستثمار، والاهتمام الزائد بتصاعد معدل الاستثمار أو انخفاضه، وعدم الاهتمام كثيراً بمم يتكون مستوى الاستثمار من الناحية الفعلية، ولا مدى إنتاجية هذا المستوى، ولا ما تعنيه زيادة الاستثمار في الموارد البشرية عن الاستثمار في التسهيلات المادية، ولا مقدار التسهيلات المادية العاطلة بسبب حاجتها إلى المدخلات الجارية، ولا مدى أولوية النفقات الجارية بالنسبة للاستثمار المقبل.
- إدمان "موضات التنمية"، تلك الوصفات المستحدثة، جزئياً لأن المخططين يكونون عادة ضحايا بإرادتهم لهذه المستحدثات المتغيرة، لأنهم يجب أن يكونوا عند المستوى المطلوب في سياق التنمية، وجزئياً لأنهم يمكن ألا يظفروا إلا بمساعدة أجنبية قليلة للغاية إذا لم يقروا بالتفكير المستحدث الجاري في البلاد المانحة.
- الانفصال التام بين التخطيط والتنفيذ، ويجادل المخططون بأنه بينما تكون مسؤوليتهم هي تخطيط التنمية، فإن التنفيذ هو مسؤولية النظام السياسي والاقتصادي بأسره.
- الإغفال العام للموارد البشرية، بسبب الطول المفترض لفترة التصور والتطوير اللازمة لاستثمار تلك الموارد، والافتقار إلى أية علاقة مقررة كمياً بين مثل هذا الاستثمار والناتج.
- الافتتان بمعدلات النمو العالية في الناتج القومي الإجمالي، مع نسيان الهدف الحقيقي من التنمية.. ففي بلد بعد آخر، نرى النمو الاقتصادي مقترناً بزيادة التفاوت في الدخول الشخصية وفي الدخول الإقليمية، وبتصاعد البطالة وزيادة الخدمات الاجتماعية سوءاً، وتفاقم الفقر المطلق والنسبي .
سابعاً - دروس من أزمة دول جنوب شرق آسيا
لا تزال ما وصفت بأنها النمور الآسيوية (التي هي: كوريا الجنوبية، هونغ كونغ، تايوان، سنغافورة، تايلند، ماليزيا وأندونيسيا) تعيش منذ منتصف عام 1997 أزمة خطيرة عصفت باقتصادياتها وأفقدتها 30- 50% من قيم عملاتها، واضطرتها إلى اللجوء للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والخضوع لشروطهما الكارثية.اما ابرز اسبابها فتظهر بالتالي :
1- أسباب خارجية، وأبرزها: رغبة الشركات الأمريكية والأوروبية في الاضرار باقتصاديات النمور الآسيوية بعد أن نافستها تلك النمور في عقر دارها وبكل قوة واقتدار، ومنافسة البضائع الصينية التي طرحت في السوق بأسعار منافسة.
2- اسباب داخلية تعتبر اهم وأخطر نظرا للاسباب التالية :
- تحويل مهام التنمية إلى القطاع الخاص، واطلاق حريته في الاقتراض من الخارج، وممارسة المضاربات في الداخل.
- ضخامة رؤوس الاموال الأجنبية في الاستثمارات ومع كون تلك الاستثمارات الأجنبية قصيرة الأجل، فقد أدى إلى حدوث اضطرابات في الاقتصاد، عندما تأثرت هذه الاستثمارات بعوامل أخرى، وحاول بعضها الانسحاب من السوق .
- استخدام معظم تلك الاستثمارات الأجنبية في استيراد السلع الاستهلاكية، وفي المضاربة بالعقارات والأسهم والعملات، بدلاً من توجيهها نحو الإنتاج.
- الإفراط في الاعتماد على التصدير، الأمر الذي جعل مستقبل النشاط المحلي مرهوناً باتساع الأسواق العالمية، وهي أسواق تبذل الدول الصناعية، وفي مقدمتها أمريكا، جهوداً مضنية من أجل اقتناصها والسيطرة عليها .
- عدم التوازن بين حجم ما سمي "التحرر الاقتصادي" وبين حجم "التحرر الديمقراطي" في دول النمور... فغالبيتها تحكم من قبل أنظمة تسلطية، ومساحة الديمقراطية المتاحة لا تتناسب مع "الانحلال الاقتصادي الذي شهدته تلك الدول .
- حدوث عمليات فساد كبرى خربت كثيراً من الإنجازات الاقتصادية. وقد حال غياب الديمقراطية دون كشف تلك العمليات والحد منها في الوقت المناسب.
تاسعاً: مقترحات لتنمية سليمة
واخيرا نقدم بعض المقترحات التي نعتبرها ركائز لتنمية سليمة ، او مبادئ تساعد في تحقيق أي سياسة عامة هادفة وأبرزها:
- اعطاء دور اكبر للمشاركة الشعبية في التخطيط والتنفيذ والتقييم ، مشاركة حقيقية، مؤسسية وفاعلة.
- العدالة الشاملة في تبادل السلع والأموال، وفي توزيع المواد الاقتصادية والدخل.
- الحفاظ على هرم القيم الاجتماعية في وجه القيم الوافدة، بحيث لا تطغى قيمة المال، أو قيم الاستهلاك، على القيم الأخرى في المجتمع.
- الاعتماد على الذات، وبصورة جماعية، في الوطن العربي، وفي الدول النامية، لإنتاج تكنولوجيا تنسجم مع قيم المجتمع وظروفه الاقتصادية والاجتماعية، وتشبّع الحاجات الأساسية للأكثرية الفقيرة.
- الحفاظ على التوازن البيئي.. فلا يضحي بالتوازن في الأنظمة البيئيةعلى حساب والنزوات، ولا يضحى بمصالح الأجيال القادمة على حساب أطماع الأجيال القائمة.
- ترشيد الاستهلاك، بحيث ينسجم نمط الاستهلاك مع الموارد المتاحة كماً وكيفاً.
- التركيز على التعليم والتدريب والحوافز المعنوية والمادية مفاتيح للتنمية، وبدائل تغطي العجز في الموارد المادية اللازمة للتنمية.
- اعتماد نظام التعاون، في الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك.
- التركيز على التنمية الرأسية، دون إهمال للتنمية الأفقية باعتبار أن التنمية الرأسية هي الأقل تطلباً للمال والتكنولوجيا ، والأكثر تلاؤماً مع ظروف الفقراء.
- الانطلاق من قومية التنمية، والابتعاد عن النزعة القطرية اذ ثبت على وجه اليقين أنها ضارة بالأمة في كل ميدان.