04‏/02‏/2011

سياسات االتصحيح الهيكلي

الفصـل السادس
سياسات التصحيح الهيكلي

د.خليل حسين
من كتاب السياسات العامة
دار المنهل اللبناني بيروت 2006

يقصد بالإصلاحات الهيكلية أو التعديل الهيكلي، مجموعة من السياسات والإجراءات الهادفة إلى رفع الطاقة الإنتاجية ودرجة مرونة الاقتصاد؛ ويشار إلى هذه السياسات أيضاً بالسياسات الاقتصادية الجزئية باعتبار ان هدفها الأساسي تحسين كفاءة تخصيص الموارد بتقليص مختلف الاسباب التي تعيق عمل الأسواق. وبالإضافة إلى الأثـر الجزئي والقطاعي لتلك الإصلاحات، فإن اثرها يشمل بعض المتغيرات الكلية مثل أسعار الفائدة، عجز الموازنة، والميزان الجاري. وبالتالي فإن وضع قيود على أسعار الفائدة على سبيل المثال يولِّد أسعاراً حقيقية سالبة تؤثر بدورها العائد على الاستثمار والإدخار وبالتالي على نمو الاقتصاد.كما تسهم سياسات الإصلاح الهيكلي في زيادة مرونة الاقتصاد، وفي مقدرته على امتصاص الصدمات الخارجية والداخلية، وتقلل بالتالي من أثرها على التضخم واختلال ميزان المدفوعات. فعدم المرونة على المستوى الجزئي يحد من الأداء الاقتصادي الكلي. ومن هنا تأتي أهمية سياسات الإصلاح الهيكلي في دعم قدرة الاقتصاد على النمو المتوازن.
أولاً ـ ظروف تطبيق برامج التثبيت والإصلاح:
تظهر الحاجة إلى برامج التثبيت عندما يواجه البلد اختلالاً بين الطلب الكلي أي الامتصاص والعرض الكلي الذي ينعكس في تدهور الميزان الخارجي. هذا الاختلال قد ينجم عن عوامل خارجية مستقلة مثل تدهور شروط التبادل أو ارتفاع أسعار الفائدة العالمية. وقد ينجم عن السياسات المحلية غير الملائمة التي تؤدي إلى توسّع الطلب أكثر من نمو العرض وكذلك تشوه الأسعار النسبية.وإذا تمَّ تمويل هذا الاختلال بالاستدانة من الخارج، فإن ذلك سيؤدي إلى توسّع عجز ميزان المدفوعات وتدهور تنافسية البلد الناجم عن تشوّهات الأسعار المحلية وتراكم المديونية. وهذا الاختلال لا يمكن أن يستمر لفترات طويلة مع تدهور التنافسية وفقدان الجدارة الانتمائية في الأسواق الدولية وانقطاع التمويل عن الدولة، الأمر الذي يُحتِّم اللجوء إلى برامج التثبيت والتعديل الهيكلي التي ترتفع تكاليفها مع توسّع الاختلال وعدم تطبيق سياسات التصحيح في وقتها المناسب .
ومع تطبيق هذه البرامج، تولَّد اعتقاد لدى الاقتصاديين أن تردّي الأوضاع الاقتصادية للدول التي تقوم بتطبيق البرامج المدعومة من صندوق النقد الدولي، ينجم عن شروط الصندوق خاصة تلك المتعلقة بمعالجة أزمة ميزان مدفوعات. لكن هذا الاعتقاد يصطدم بحقيقة إن تلك الدول كانت تواجه، قبل تطبيق البرامج، أزمة في تدهور ميزان المدفوعات، ارتفاع معدلات التضخم، وتدهور سعر الصرف الحقيقي وانخفاض معدلات النمو. ولا توجد دلائل علمية تطبيقية للتأكد من صحة ذلك الاعتقاد، حيث أن أغلب الدراسات ركزت على مرحلة ما بعد تطبيق برامج التصحيح والتثبيت وليس على دراسة «الشروط البدائية» التي أدت إلى اعتماد هذه البرامج .
ويرى فريق من المحللين أن تدهور الأوضاع الاقتصادية قبل تطبيق الإصلاح يرجع إلى العوامل الخارجية مثل تدهور شروط التبادل وتباطؤ الطلب على الصادرات أو تدهور الأسواق المالية الدولية. في حين يرى فريق ثان أن التدهور يرجع إلى تطبيق سياسات كلية غير مستدامة. وتشير الدلائل إلى أنه في أغلب الحالات تعود الأسباب إلى مزيج من العوامل الداخلية والخارجية التي تؤدي إلى اعتماد برامج تثبيت وتصحيح هيكلي. ولمعرفة مدى أهمية كل من هذه العوامل تتم مقارنة أداء مجموعة من الدول التي طبقت برامج الإصلاح مع مجموعة من البلدان المشابهة لها لم تطبقها، ويسمح ذلك أيضاً بتحديد المتغيرات الأساسية التي تؤثر على اعتماد البرامج أكثر من غيره .
وتدل المعطيات أن السنة التي تسبق تطبيق برامج الإصلاح تشهد عادة وضعية اقتصادية صعبة تتمثل في ضعف ميزان المدفوعات، انخفاض معدلات النمو، ظروف اقتصادية خارجية غير مواتية، وتطبيق سياسات مالية توسعية. بينما لا تكون الوضعية بذات القدر من التدهور قبل ثلاث سنوات من تطبيق البرامج، لكنها تأخذ بالإنزلاق تدريجياً خاصة فيما يتعلق بميزان المدفوعات، احتياطي العملات الأجنبية، نمو الإنتاج، شروط التبادل، المديونية الخارجية، الوضعية الجبائية، وتوسع الإقراض.
ثانياً ـ محتويـات البـرامـج:
تتضمن برامج التثبيت سياسات الطلب لضرورة تخفيض فائض الطلب في الأجل القصير، وتستهدف تقليص الهوة بين الادخار والاستثمار. كما تحاول سياسات العرض توسيع القاعدة الإنتاجية من الأجل المتوسط والطويل، وتستهدف رفع معدلات الاستثمار والطاقة الإنتاجية.
وعلى الرغم من محاسن سياسات العرض فإن سياسات الطلب ضرورية، لأن الطلب الكلي قد يكون فوق مستويات غير مستدامة ولا يمكن تحقيق توازن ميزان المدفوعات بسياسات العرض فقط. وسياسات التثبيت تستخدم كلا السياستين ويتحدد وزن كل منهما تبعاً لعدة معايير أهمها طبيعة وشدة الاختلال في ميزان المدفوعات وطول مدته، حيث أن مشاكل ميزان المدفوعات الناجمة عن تدهور شروط التبادل، تتطلب سياسات عرض تهدف إلى تغيير بنية الإنتاج. أما مشاكل ميزان المدفوعات الناجمة عن توسع السياسات الجبائية والإقراض المحلي فتتطلب تطبيق سياسات تخفيض الطلب. كما أن مستوى مديونية البلد وكذلك الموارد المتوقع الحصول عليها وطبيعة القيود التي تواجه الحكومات في أتباع سياسات ذات الأثر الاجتماعي السلبي، تؤثر أيضاً في «تركيبة مزيج السياسات».
1 ـ سياسات احتواء الطلب:
تستخدم برامج التثبيت أساساً السياسة النقدية والمالية لاحتواء الطلب المحلي الإجمالي. كما أن سياسات أسعار الصرف تلعب دوراً محورياً في ذلك.
أ ـ السياسـة النقديـة:
تتضمن غالبية برامج التثبيت سياسة نقدية متشددة خاصة فيما يتعلق بوضع سقف لنمو الإقراض المحلي من طرف الجهاز المصرفي. وعادة ما يستخدم النموذج النقدي لميزان المدفوعات لشرح وتحديد قنوات تأثير السياسة النقدية على الطلب الكلي وبالتالي على ميزان المدفوعات. فارتفاع أسعار الفائدة يشجع الإدخار ويقلص الإنفاق ويسهم بالتالي في تخفيض الواردات ما يؤدي بدوره إلى تحسن الميزان الجاري. كما إن ارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى جذب رؤوس الأموال وبالتالي إلى حدوث فائض في ميزان المدفوعات. لكن في حالة دولة تعتمد أسعار صرف مثبتة وحرية انتقال رؤوس الأموال، فإن ارتفاع صافي الأرصدة الأجنبية يؤدي إلى زيادة عرض النقود بحيث تصبح السياسة النقدية عديمة الأثر في الأجل الطويل. لكن في الأجل القصير فإن انخفاض مستوى الطلب يؤدي إلى انخفاض استغلال الطاقات وارتفاع معدلات البطالة. ويعتمد الأثر الانكماشي للسياسة النقدية المتشددة على كثير من العوامل مثل:
- سرعة إلغاء أثر تخفيض الإقراض بارتفاع المخزون من العملات الأجنبية والذي يعتمد على درجة حركية رأس المال.
- سرعة استجابة التضخم المحلي لفائض الطلب على الموازنات الحقيقة الناجمة عن تقييد سياسة الإقراض.
- مدى قدرة فائض الطلب على النقود على تخفيض فائض الطلب المحلي.
- الأثر على الاستثمار المحلي نتيجة تقليص الإقراض ورفع تكاليفه.
ب ـ سياسـة الجبايـة:
يؤدي خفض الإنفاق أو رفع الضرائب إلى أثر «مضاعف» على مستوى الدخل القومي في الأجل القصير على الأقل. وفي الدول النامية هناك ارتباط قوي ما بين السياسة المالية والنقدية نظراً لاعتماد تمويل الميزانية على القروض المصرفية المرتبطة بالكتلة النقدية بشكل مباشر. وتؤدي هذه التداخلات إلى تقليص تأثير السياسة المالية على النمو في هذه البلدان. ويزداد الأمر تعقيداً بالنظر إلى شحة الموارد المالية المتاحة للاقتصاد من جهة واستخدام الحكومة لهذه الموارد مع ضآلة العائد على الاستثمار الحكومي، ما يؤدي إلى حرمان القطاع الخاص من الموارد اللازمة للاستثمار. ولكن تجدر الملاحظة بالمقابل أن الاستثمار الحكومي في البنى التحتية يزيد من فعالية الاستثمار الخاص ويرفع من إنتاجيته. ونتيجة هذه التداخلات فإن تخفيض الإنفاق الحكومي الاستثماري قد يُعوَّض بالإنفاق الاستثماري الخاص، وبالتالي يزيد من أثره على النمو في الأجل الطويل.
ج ـ سياسات أسعار الصرف:
سياسة سعر الصرف هي سياسة تخفيض الإنفاق وسياسة تحويل الإنفاق في الوقت نفسه. وعليه فإن تخفيض سعر الصرف يؤثر على الامتصاص المحلي وكذلك على منحنى العرض الكلي. ويعتبر التخفيض أكثر السياسات جدلاً، إذ يذهب بعض النقّاد إلى اعتباره أداة غير فعالة باعتبارها لا تحل مشاكل ميزان المدفوعات، وتزيد من الركود والبطالة. أو اعتباره سياسة أكثر تكلفة من السياسات البديلة بأحسن الاحتمالات. ويبقى الجدل قائماً حول الآثار الانكماشية للتخفيض خاصة في مجال تقليص اختلال ميزان المدفوعات ومحاربة التضخم والآثار الانكماشية على الإنتاج .
أما لجهة العرض فمن المفترض أن يشجع تخفيض العملة على زيادة الإنتاج نتيجة ارتفاع الأسعار وهوامش الربح في القطاع القابل للإتجار ما يؤدي إلى تحسن العجز في ميزان المدفوعات وانخفاض فائض الطلب. ولكن يعتمد ذلك على مدى تغلب آثار العرض على الطلب وكذلك على الأحجام النسبية للمرونات السعرية للواردات والصادرات، وكذلك على الأحجام النسبية للقطاع القابل للإتجار مقابل القطاع غير القابل للإتجار. عموماً، ينخفض الإنتاج في حال ضعف مرونة التجارة، وفي حال كانت بنية الإنتاج مثقلة أكثر تجاه السلع القابلة للإتجار.
2 ـ سياسـات العـرض:
تهدف إلى رفع حجم السلع والخدمات المعروضة عند أي مستوى للطلب المحلي. وتتضمن هذه السياسات إجراءات تهدف إلى رفع الإنتاج وتحسين معدلات استخدام عوامل الإنتاج والطاقات الإنتاجية، وتتضمن كذلك سياسات تخفيض التشوهات التي تسببها قوة الأسعار، والاحتكار، والضرائب، والدعم، والقيود على التجارة. كما تشمل إجراءات تهدف إلى رفع الطاقة الإنتاجية وتحقيقه معدلات نمو مرتفعة. ويتم ذلك عبر سياسات ترويج الإدخار والاستثمار، وكذلك سياسات جذب الاستثمار الأجنبي المباشر والديون والمساعدات الخارجية.
وعلى الرغم من أهمية سياسات العرض في تحسين تخصيص الموارد ورفع معدلات النمو، فإن أثرها يظهر على المدى الطويل. فإجراءات القضاء على التشوهات في نظام تخصيص الموارد والأسعار النسبية تتطلب مرور وقت طويل لتظهر آثارها على الصادرات والإنتاج، خاصة في ظـل بطء حركة العمالة ورأس المال ما بين القطاعات. ففي هذه الحالة قد يحتاج التغيير في نظام تخصيص الموارد إلى فترة تعديل طويلة تكون فيها بعضٍ عناصر الإنتاج غير مستخدمة أو معطلة. وتؤثر هذه الاعتبارات على تركيبة «مزيج سياسات الطلب والعرض» حيث يتمُّ ترجيح سياسات التحكم في الطلب على سياسات العرض إذا كان برنامج التعديل محدود في الزمن وفي الموارد المتاحة لطتبيقه.
كما أن بعض سياسات العرض التي تتسبب في نشوء التشوهات في نظام الأسعار، تطبق لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية للدولة ولا تراعي كثيراً الاعتبارات الاقتصادية؛ ويتم تطبيقها مع العلم المسبق بآثارها السلبية على نظام تخصيص الموارد. وتشمل هذه السياسات على سبيل المثال الدعم، برامج التشغيل، قيود التجارة، والقيود على حركة رأس المال. وعلى الرغم من آثارها السلبية على توزيع الدخل والعدالة في البلد وتكاليفها على الميزانية، فإن تغييرها قد يكون مكلفاً من الناحية الاجتماعية.
ثالثاً ـ وسائل صندوق النقد للتثبيت والتعديل:
تتخلص أبرز أهداف صندوق النقد الدولي في هذا المجال بتطوير النمو المتوازن للتجارة الخارجية لتحقيق الرفاه الاقتصادي للدول. ويتم ذلك باعتماد نظام تعويم العملات وتحقيق استقرارها وإلغاء القيود على التجارة الخارجية والاستثمار.ويركز منهج الصندوق النظري للتعديل والتثبيت على الأجل القصير ويستخدم «منهجية البرمجة المالية» لتحديد مستوى مستدام لميزان المدفوعات مع تحقيق استقرار الأسعار. كما يستخدم الحدود القصوى للقروض وسعر الصرف كأدوات لتحقيق ذلك. ويعتبر نموذج "بولاك"، حجر الزاوية لبرامج صندوق النقد الدولي في تصميم سياسات التثبيت، والذي يركز على تقليص حجم الإقراض المقدم للاقتصاد في معالجة اختلال ميزان المدفوعات .
1 ـ انتقادات منهج البرمجة المالية:
تعرَّض منهج الصندوق وبرامجه لانتقادات متعددة أهمها انتقادات «الأسرة التنموية» خاصة فيما يتعلق بفلسفة هذه البرامج وإطارها التحليلي والشروط التي تتضمنها . وقد تركّزت انتقادات المدرسة البنيوية على سياسات تخفيض الطلب التي تعتبرها انكماشية ومسؤولة عن تعميق أزمة الدول التي تطبقها. فيرى أتباع هذه المدرسة أن منهج تخفيض فائض الطلب عن طريق تقليص الإنفاق الحكومي بما في ذلك تخفيض العملة لا يؤدي حتماً إلى تحسين ميزان المدفوعات، وذلك لأن مشاكل الدول النامية هي أساساً مشاكل هيكلية بحيث لا تتمكن هذه الدول من تخفيض الطلب أو تحويله. كما أن مصاعب سوق الصرف ناجمة عن بنية التجارة الدولية ونسبة الطلب والإنتاج المحلي. ويرون أن ربط سعر الصرف المحدد بالإنتاج والفعالية مع كتلة النقود والأسعار وآلية الإحلال والتي كثيراً ما تعطل، يؤدي إلى عدم فاعلية برامج الصندوق. ومنه فإن تخفيض العملة وتشديد السياسة النقدية يخفض الميزان التجاري في الأجل القصير فقط عن طريق الانكماش، لكن المشاكل ذاتها تظهر مجدداً بمجرد تخفيف السياسة النقدية.
كما ينتقد أتباع المدرسة البنيوية منهج الصندوق في استخدام السياسة النقدية لمحاربة التضخم الناجم أصلاً عن عوامل هيكلية ونقدية. حيث إن هوامش التكلفة والأسعار المحددة ومجموعات الضغط هي التي تتحكم في الأسعار وترفع التضخم نحو الأعلى. ونتيجة ذلك فإنه بعد تطبيق البرنامج، ترتفع معدلات التضخم وأسعار الفائدة ويسوء توزيع الدخل.
واعتبرت المدرسة البنيوية أن نموذج بولاك للبرمجة المالية ناقصاً ولا يأخذ بعين الاعتبار أهم توازنات الاقتصاديات النامية. فمثلاً تكاليف المدخلات المستوردة تعتبر أساسية في عملية إنتاج السلع في هذه الدول. ومنه فإن التخفيض ينقل التضخم إلى عملية الإنتاج ما يؤدي إلى رفع التكاليف وتخفيض الطلب بشدة. كما أن تخفيض الإنفاق الحكومي يؤدي إلى زيادة إدخار القطاع العام وبالتالي إلى انخفاض الطلب الكلي الذي يؤدي بدوره إلى انخفاض الإنتاج وكذلك انخفاض الطلب على المدخلات وعلى الواردات. وبذلك فإن التحسن الذي يحصل في الميزان التجاري يكون ناجماً عن الانكماش وليس عن التوزيع الكفء للموارد. كما أن السياسة النقدية المتشددة تؤدي إلى رفع أسعار الفائدة وانخفاض الطلب عن طريق ارتفاع تكاليف رأس المال العامل ما يؤدي بالنتيجة إلى حصول ركود اقتصادي مع تضخم. إن سياسة تخفيض العملة تؤدي إلى رفع تكاليف المدخلات والسلع النهائية المستوردة، ومع بقاء الأجور الإسمية ثابتة، فإن الأجور الحقيقية تتدهور ما يؤدي إلى تدهور توزيع الدخل وتدهور الطلب الاستهلاكي.
المدرسة الكنزية الجديدة عارضت أيضاً منهج الصندوق في تخفيض العملة والسياسات التشددية على أساس أن هذه السياسات غير قادرة على تغيير الأسعار النسبية، وبالتالي ينجم عنها التضخم فقط. يضاف إلى ذلك أن التمويل الخارجي والمساعدات والدين الخارجي لا تتحول إلى رأسمال وتنمية تكنولوجية بشكل سهل نتيجة تعقيدات عملية التنمية.
كما تعرض الصندوق للانتقاد من اقتصاديين يؤمنون بالاقتصاد النيوكلاسيكي، الذين اعتبروا أن نماذج الصندوق ومنهجه العملي لم يتغيرا بالرغم من التطورات المتلاحقة في النظرية الاقتصادية والنماذج المصاحبة لها، ما يعني أن الصندوق أخفق في إدراج هذه التطورات في منهجه. كما يرون أن التشديد على تخفيض العملة يؤدي إلى اهتزاز الثقة بمصداقية السياسة الحكومية المتعلقة بتخفيض التضخم. كما ينتقد أتباع المدرسة النيوكلاسيكية، عدم اهتمام برامج الصندوق بسياسات توزيع الدخل وتعزيز النمو. وطالت انتقاداتهم نموذج التثبيت لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار العلاقات التشابكية في الاقتصاد مثل العلاقات بين التخفيض، التضخم، الأجور الحقيقة، وسعر الصرف. وكذلك العلاقات بين الإدخار الأجنبي، الإقراض، الثقة والاستثمار .
2 ـ المعالجة حسب طبيعة الاختلال:
باستخدام نموذج الاختلال حيث يفترض أن الأسعار صلبة، فإن التعديل قصير الأجل يتم عبر الكميات ويصبح أساس مشاكل ميزان المدفوعات هيكلياً. ولكن تبعاً لطبيعة الاختلال، هناك بعض الوضعيات التي تكون فيها برامج الصندوق ملائمة.
- الوضعية الأولى: للاختلال تسمى العجز الكلاسيكي حيث تكون البطالة مرتفعة والإنتاج منخفض. فتكون الأجور مرتفعة والطلب المحلي مرتفع نتيجة السياسات المحلية، وبالتالي يحدث عجز في ميزان المدفوعات. في هذه الحالة تقوم السياسات التقليدية المخفضة للطلب ومراقبة الأجور بتحسين العمالة وميزان المدفوعات معاً.
- الوضعية الثانية: تعرف بالعجز الهيكلي حيث توجد بطالة وفائض عرض. فالطلب يكون كافياً، لكن وجود الاختناقات لا يسمح بمعادلة العرض والطلب، بحيث يتم تلبية جزء من الطلب من خلال الواردات ما ينجم عنه عجز في ميزان المدفوعات. ففي هذه الحالة تضغط سياسات التثبيت التقليدية على الأجور وتوزّع الدخل لغير صالح الإجراء وتزيد من سوء البطالة. في المقابل فإن اعتماد سياسة نقدية ومالية توسعية تحسن وضعية التشغيل لكن على حساب ميزان المدفوعات.
- الوضعية الثالثة: تتمثل في «الفائض الكنزي» وهو مشابه للعجز الهيكلي. حيث يكون الاقتصاد في وضعية بطالة مع فائض عرض ناجم عن قصور الطلب. في هذه الحالة تزيد السياسات التوسّعية من التشغيل دون التأثير سلباً على ميزان المدفوعات. والدول النامية تكون في أغلب الأحيان في الوضعيتين الأولى والثانية.
منذ إدراج أول برنامج للتثبيت سنة 1952 ثم حتى العام 1996، تطبيق حوالي 800 برنامجاً في 132 دولة، أي بمعدل ستة برامج لكل دولة. وقد تغير استخدام موارد صندوق النقد الدولي خلال العقود الأربعة الأخيرة. حيث ازدادت وتيرة برامج التثبيت في الدول النامية مع ظهور أزمة المديونية في الثمانينيات، إذ تـمَّ استخدام 250 ترتيباً قيمتها حوالي 60 مليار وحدة من حقوق السحب الخاصة. وتواصل هذا الاتجاه في التسعينيات مع انهيار النظام الشيوعي وتحوّل الدول إلى اقتصاد السوق.كما شهدت برامج الصندوق بعض التغيرات انسجاماً مع التطورات الحاصلة في العالم. حيث تـمَّ سنة 1963 تطبيق أول ترتيب لمساعدة الدول التي تواجه انخفاضاً في صادراتها. وفي عام 1974 تـمَّ إدراج ترتيب الصندوق الموسّع لمعالجة أزمة ميزان المدفوعات على الأمد المتوسط. وتـمَّ سنة 1986 تطبيق برنامج التعديل الهيكلي لمساعدة دول الدخل المنخفض وتعزز هذا البرنامج سنة 1987 ليشمل مساعدة الدول الفقيرة. كما جرى تطبيق برامج لمساعدة الدول المتحول إلى اقتصاد السوق .
3 ـ هل برامج الصندوق ناجحة:
هل تؤدي برامج التصحيح المدعومة من صندوق النقد الدولي إلى تحسين الميزان الجاري، ورفع الاحتياطي، وتخفيض التضخم ورفع معدل نمو الدخل؟.
يحتاج الجواب إلى تقييم أثر البرامج على هذه المتغيرات بالرجوع إلى الدراسات التقييمية التي تمَّت داخل وخارج الصندوق خلال العقدين الأخيرين. إذ تشير الدراسات حول آثار البرامج على المتغيرات الكلية إلى استنتاجين رئيسين، أولهما: أن التقييم استخدم عدة مناهج تحتاج جميعها إلى تقييم صارم.وتعتبر طريقة «مع البرنامج وبدون البرنامج» أفضل الطرق المستخدمة. أما الاستنتاج الثاني فهو أن الدراسات تجمع على أن برامج لها آثار تثبيتية (ميزان المدفوعات والتضخم). لكنها تجمع بالمقابل على حدوث انكماش اقتصادي في الأجل القصير، يتم تجاوزه بمرور الزمن.
ويلعب الصندوق دوراً مركزياً في جهود التعديل التي تطبقها الدول عبر المساعدة في تصميم برامج التعديل الهادفة لحل أزمة ميزان المدفوعات وتحقيق استقرار الأسعار ومعدلات نمو عالية. وكذلك عبر تقديم الموارد المالية لدعم هذه البرامج. وتحتوي برامج الصندوق على مزيج من سياسات التثبيت وسياسات التعديل الهيكلي التي تهدف إلى تحقيق التوازن ما بين العرض والطلب الكليين وتوسيع إنتاج السلع القابلة للإتجار.
وتتلخص هذه البرامج بالتزام الحكومة، من خلال رسالة نوايا، بتطبيق جملة من الإجراءات يقيمها الصندوق لتحديد الدعم الذي سيقدمه والذي يكون مشروطاً بتطبيق تلك الإجراءات. وتتحدد أهداف المتغيرات الاقتصادية الكلية مثل مستوى الاحتياطي، مستوى الميزان الجاري، التضخم، ومعدل النمو وكذلك السياسات لبلوغ هذه الأهداف وحجم الدعم المالي، عبر جولات شاقة من المفاوضات بين البلد وخبراء الصندوق .
رابعاً ـ مفهوم وقياس فاعلية البرامج:
1 ـ إشكالية المفهوم والقياس:
إن تحديد مفهوم الفاعلية ليس أمراً سهلاً لسببين، الأول أنه بالرغم من أن نجاح البرنامج يقاس بالنتائج الاقتصادية الكلية أي تحقيق الأهداف المحددة فيه، لكن التطبيق يتم في الواقع عبر متغيرات السياسة الاقتصادية التي تحددها السلطات عبر تحديد معايير الأداء. ومن الصعب معرفة هل هذه التغيرات تؤدي إلى النتائج المرجوة من هذه السياسات. وهذا راجع لطبيعة البرامج التي تشكل مجموعة معقدة من الإجراءات المتعددة والتي تضم السياسات النقدية والمالية وسعر الصرف وإصلاح الأجور والنظام المالي وسياسات تشجيع الاستثمار وتحسين فاعليته وتحرير التجارة. إن النظرية المفسِّرة للترابط الديناميكي بين هذه السياسات ومجموعة الأهداف الاقتصادية الكلية ليست معروفة جيداً. وعليه فإن نتائج التعديل غير مضمونة على الأقل من الناحية النظرية البحتة.
وتشكل سلة السياسات المطبقة إحدى الصدمات التي يتعرض لها الاقتصاد. فالصدمات الخارجية المتمثلة في شروط التبادل والديون الخارجية وتكلفة خدمتها تؤثر بشكل واضح على أداء الاقتصاد وقدرته على تحقيق الأهداف المحددة. وبالتالي فإن قياس فعالية البرامج يتطلب عزل أثر هذه الصدمات الخارجية غير المتوقعة. وبما أن البرامج تهدف إلى تعديل السياسات وبالتالي النتائج الاقتصادية الكلية، فإن المعيار الجيد لقياس فعاليتها هو الذي يعزل أثـر البرنامج عن النتائج ومقارنتها بالبديل المتمثل في ما يحدث في حالة عدم تطبيق البرنامج. ولمعرفة نتائج البديل يتم اللجوء إلى تجربة البلدان التي طبقت البرامج والتي لم تطبقها بحيث تتم مقارنة تجربة هاتين المجموعتين مع مراعاة التشابه فيما بينها خاصة من حيث الخضوع لآثار الصدمات الخارجية.
إن تطبيق هذه الطريقة على أرض الواقع أمر معقد ويتطلب معلومات هائلة حول البنية الاقتصادية ودول التفاعل للسياسات. إضافة إلى أنه حيث يتطلب تطبيق نموذج اقتصادي لا تتأثر معالمه باختلاف السياسات. ومع غياب هذه المعلومات وعدم توفر البلد المعياري للمقارنة، فقد تـمَّ تطوير مقاربات عملية تسمح بقياس فعالية البرامج.
2 ـ طـرق الـقيـاس:
تـمَّ تطوير أربعة مناهج لقياس آثار البرامج، يقوم كل منها على قياس محدد للوضع البديل (Counterfactual) ، وهي:
أ ـ منهج ما قبل وبعد:
يستند إلى مقارنة الأداء الاقتصادي الكلي خلال فترة تطبيق البرنامج أو بعده، مع فترة ما قبل تطبيقه. وفي بعض الأحيان تتم مقارنة أهداف البرامج مع الإنجازات الفعلية. يمتاز هذا المنهج بسهولة الحساب حيث يتلخص في مقارنة جملة من متغيرات الأداء الاقتصادي خلال فترة ما قبل تطبيق البرنامج مع فترة ما بعد تطبيقه.وبالرغم من سهولته، فإن هذا المنهج لا يعطي تقديرات للآثار المستقلة للبرنامج، حيث أنه يفترض بقاء العوامل الخارجية على حالها قبل وبعد التطبيق. وذلك افتراض غير دقيق نتيجة التغير الشديد في هذه العوامل مثل شروط التبادل، معدلات نمو الدول الصناعية، تغيرات أسعار الصرف وأسعار الفائدة العالمية. وكذلك العوامل الداخلية مثل الإنتاجية والمناخ. كل هذه العوامل تجعل تقديرات هذا المنهج غير دقيقة وغير نمطية وتتغير من فترة لأخرى.
ب ـ منهج مع وبدون:
يستند إلى مقارنة الأداء الاقتصادي لدول طبقت البرامج مع مجموعة دول لم تطبقها. وقد صمم لتجاوز قصور منهج «ما قبل وبعد» وللتفرقة بين تأثيرات محددات البرامج على النتائج الاقتصادية الكلية. ويفترض هذه المنهج أن مجموعة البلدان التي طبقت البرامج والتي لم تطبقها متشابهة في أوضاعها الاقتصادية وتخضع لنفس الصدمات. ومن خلال المقارنة بين ما قبل وبعد التغيرات في المؤشرات الاقتصادية في المجموعتين، فإنه يتم إلغاء آثار العوامل الخارجية والإبقاء فقط على الآثار التي تعكس تطبيق البرامج. تتلخص الفكرة في استعمال أداء الدول التي لم تطبق البرامج كمقدر «للوضع البديل» أي الأداء في البلدان التي تطبق البرامج في حالة عدم تطبيقها.
تتمثل المشكلة الأساسية في منهج «مع وبدون» في أن مجموعة الدول التي لم تطبق البرامج تختلف عن مجموعة الدول التي تطبقها، ومن الصعب إيجاد مجموعتين متجانستين تماماً وتختلفان فقط في تطبيق البرامج من عدمه. يضاف إلى ذلك أن العينة المختارة لا تخضع لمعايير المعاينة ولا يتم الاختيار عشوائياً. كما أن الدول التي تطبق البرامج تعاني كلها من مشاكل اقتصادية وتختلف في الشروط البدائية. ومنه فإن هذا المنهج يعاني من سوء الاختيار بحيث يكون تقييم آثار البرامج متحيزاً.
ج ـ منهج التقييم المعمم:
يقارن أداء الدول التي تطبق البرامج مع مجموعة دول لم تطبقها، مع تعديل الفروق في الشروط البدائية والتحكم في التأثيرات الخارجية. وقد دفعت النقائص والتعقيدات في المنهجين السابقين إلى تطوير منهج التقييم المعمم بتعديل منهج «مع وبدون» في اتجاهين. يتلخص الأول في الاعتراف بعدم عشوائية اختيار عينة البلدان التي تطبق البرامج والتي لا تطبقها، ويتم تحديد الاختلاف بين المجموعتين ومن ثم يتم التحكم في الاختلاف في الشروط البدائية في المقارنة اللاحقة للأداء الاقتصادي. وتحاول هذه الطريقة احتواء آثار السياسات مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف السياسات في حالة عدم تطبيق البرامج.
ولتطبيق هذه المنهجية عملياً يتم التعرف على الشروط البدائية للمجموعتين وكذلك تحديد العلاقة التي تربط الأهداف الاقتصادية مع أدوات السياسة الاقتصادية والمتغيرات الخارجة وكذلك معدلات تغير السياسة التي توضح كيفية تغير أدوات السياسات مع تغير وضع الاقتصاد. وتسمح معادلات الشكل المختصر بتحديد آثار السياسات المختلفة على المتغيرات المستهدفة مع التحكم في المتغيرات الخارجية. أما معادلات تغير السياسات فتحدد ماهية السياسات التي تمَّ اختيارها أخذاً بعين الاعتبار الشروط البدائية في حالة عدم تطبيق البرنامج. هذه الطريقة رغم تعقيداتها ومتطلبات المعلومات لتطبيقها، فإنها تعطي قدراً أقل تحيزاً لآثار تطبيق برامج التصحيح الهيكلي.
د ـ منهـج المحاكـاة:
يقوم على مقارنة الأداء في حالة تطبيق البرنامج مع الأداء في حالة تطبيق سياسات بديلة. وهو على خلاف المناهج الأخرى، لا يحدد آثار البرامج استناداً إلى الأداء الحالـي للاقتصاد في الدول التي تطبقها، وإنما يعتمد على نماذج المحاكاة لاستنتاج أداء افتراضي للسياسات التي تطبقها هذه البلدان ومقارنتها مع سلة سياسات بديلة. ولمنهج المحاكاة ثلاثة ايجابيات لا تتوفر في المناهج الأخرى، الأولى هي الاعتماد على مجال واسع لتجارب التعديل طالما أن قاعدة المعطيات لا تعتمد على جارب الدول التي طبقت البرامج. الثانية تتمثل في تجنب التطبيق الفعلي للسياسات لمعرفة نتائجها طالما أنه يتم استخدام آلية المحاكاة، والثالثة هي أن منهج المحاكاة يعتمد أساساً على العلاقة ما بين أدوات السياسة وأهدافها، وبالتالي فهو يوفر معلومات أفضل حول عمل السياسات.
وتتلخص مشاكل منهج المحاكاة في تعقيدات بناء نموذج قياسي كامل للاقتصاد والذي يربط ما بين الأهداف الاقتصادية وأدوات السياسات. وهذا النوع من النماذج لا يستطيع أن يقيم السياسات البديلة نتيجة أن الأعوان الاقتصاديين يغيرون سلوكهم نتيجة التوقعات المتاحة لهم أي أن معالم النموذج قد تكون غير ثابتة كما هو مفترض في هذه النماذج.
خامساً ـ توقيت وسرعة تطبيق الإصلاحات:
عند تصميم برامج الإصلاح الهيكلي في بيئة متعددة التشوهات تطرح بشدة قضية ترتيب عناصر الإصلاحات وتوقيت تنفيذها وكذلك سرعة التنفيذ. ولا يعتمد تحديد التوقيت والسرعة على القضايا الاقتصادية فقط، بل على تكاليف التعديل والقيود السياسية الموضوعة على متخذي القرار.
إن أغلب قرارات السياسة الاقتصادية لها آثار قصيرة الأجل وأخرى هيكلية متوسطة الأجل والتي قد تتعارض فيما بينها. وبالرغم من أن سياسات التثبيت تؤثر على الطلب والسياسات الهيكلية على منحنى العرض، فإن هذه السياسات تهدف إلى تسريع معدلات النمو، خفض البطالة، استقرار الأسعار وتوازن ميزان المدفوعات. ومنه فإن سياسات التثبيت والإصلاح الهيكلي يجب أن تتماشى معاً وذلك لتدعيم بعضها البعض. حيث إن التكامل في السياسات يشكل الدعامة الأساسية لتطبيق سياسة «المعالجة بالصدمة».
وبالمقابل فإن هذه السياسات قد تكون لها آثار متباينة خاصة في الأجل القصير، مثل إلغاء الدعم على السلع الأساسية الذي يحسن الموازنة لكنه يرفع بالمقابل أسعار المواد الأساسية. إضافة إلى أن سياسة الإصلاح الهيكلي لها تأثيرات طويلة الأجل، وذلك لأن الإنتاج الكامن يتغير ببطء مقارنة بالإنتاج الحالي الذي يتغير بسرعة أكبر. وهذا البطء وعدم اليقين المرتبط بالسياسات الهيكلية في تأثيرها على النمو وتوزيع الدخل، أدى إلى المطالبة بالتطبيق التدريجي للحفاظ على الزخم السياسي للإصلاحات والسماح للاقتصاد بامتصاص الصدمات وتوزيع تكاليف التعديل عبر الزمن لتخفيف وطأتها. ومنه فإنه يحبذ إجراء سياسة التثبيت أولاً لتخفيف الاختلالات الكلية والتضخم، على أن يتم بعد ذلك البدء في الإصلاحات الهيكلية.
إن هدف الإصلاح الهيكلي هو إلغاء التشوهات الناجمة عن السياسات والتشريعات الحكومية. لكن المشكلة أن كل هذه التشوهات تعمل آنياً مع بعضها. ومنه فإن الحل الأمثل هو الإلغاء الآني لهذه التشوهات والقيود. لكن آثارها السلبية على رفاهية المجتمع ستكون كبيرة نتيجة الاختلال والآجال الطويلة لتحقيق النمو. ونتيجة هذه القيود لا بدَّ من ترتيب الإصلاحات عبر مخطـط زمني لتقليل التكاليف والتأخير. ويتطلب ذلك وضع سلم أولويات للمجالات الواجب تحريرها للوصول إلى اقتصاد السوق. وقد تركز النقاش حول مسألة محورية هي هل يتم تحرير التجارة قبل أم بعد تحرير سوق رأس المال، إضافة إلى ترتيب إصلاح سوق العمل بين منظومة الإصلاحات.
يرى العديد من الاقتصاديين الذين يستندون في نظرتهم إلى تجربة دول جنوب أمريكا وجنوب شرق آسيا، ضرورة تحرير التجارة قبل تحرير سوق رأس المال لتفادي الأثـر السلبي لتدفقات رأس المال من جهة ولتفادي تعطيل عملية تحرير التجارة من جهة أخرى، لأن تحرير التجارة الخارجية يحتاج إلى تخفيض العملة وذلك لتحويل الموارد من القطاعات غير القابلة للإتجار نحو القطاعات القابلة للإتجار، بينما تدفق رؤوس الأموال قد يعكس اتجاه تغير العملة ويؤدي إلى تحسنها وبالتالي عدم حدوث تعديل في جانب الميزان التجاري.
تشير تجربة الدول النامية إلى أن تحرير سوق رأس المال يؤدي بعض الأحيان إلى عدم استقرار التدفقات المالية، وإذا تـمَّ فتح هذه السوق مع بقاء الأسواق المالية المحلية مقيدة، كالقيود الخاصة بأسعار الفائدة، فقد يحدث خروج هائل لرأس المال، ما يهدد بالتالي نظام سعر الصرف خاصة إذا كان مثبتاً أو مستقراً، ويتعرض النظام لمصرفي لخطر لحدوث أزمة مالية. ولذلك يطالب الكثير من الاقتصاديين بإصلاح السوق المالية المحلية قبل تحرير سوق رأس المال. كما أن تجربة التسعينات أظهرت أهمية أن يسبق تحرير هذه السوق، تعزيز النظام المصرفي بتقوية الإشراف والتحوط.
فيما يتعلق بأسواق العمل في غالبية الدول النامية ، فإنها مقيدة بالعديد من التشريعات، ولكن دون أن يؤدي ذلك إلى تشوهات كبيرة نظراً لعدم الالتزام بتطبيق هذه التشريعات. ومع ذلك فإن توقيت إصلاح سوق العمل يأخذ طابعاً مهماً في حزمة الإصلاح الهيكلي. وهناك من يظن أن إصلاح هذه السوق يجب أن يسبق تحرير التجارة الخارجية حتى يمكن لعوامل الإنتاج الانتقال بسهولة ما بين القطاعات القابلة وغير القابلة للإتجار. خاصة إن إصلاح تحديد الأجور له تبعات مهمة على التضخم. كما أن إصلاح سوق العمل يجب أن يتزامن مع سياسات التثبيت أو يسبقها. لكن التجربة أظهرت إن إصلاح هذه السوق، يأتي عادة في آخر سلم الإصلاحات وذلك لأسباب سياسية تتعلق بتزايد البطالة ولعدم إعطاء الفرصة لمجموعات الضغط لمحاربة الإصلاحات.