04‏/02‏/2011

السياسات الصناعية

الفصـل الخامس عشر
الـسيـاسـات الـصـحـيـة


د.خليل حسين
من كتاب السياسات العامة
دار المنهل اللبناني بيروت 2006

عَرفت منظمة الصحة العالمية الأنظمة الصحية بأنها تشتمل على كل المنظمات والمؤسسات والموارد التي تكرس لإنتاج أفعال صحية. بمعنى أنها: «كل الجهود التي تبذل بهدف تحسين الصحة سواء تعلقت هذه الجهود بالعناية الصحية بالأفراد أو بتقديم الخدمات الصحية العامة». ولاحظت المنظمة بأن الأنظمة الصحية قد شهدت ثلاثة أجيال من الإصلاح .
تضمن الجيل الأول على تأسيس أنظمة وطنية للرعاية الطبية وانتشار أنظمة الضمان الاجتماعي في الدول المتقدمة أولاً، ثم في الدول متوسطة الدخل ثم أخيراً في الدول النامية. وبحلول الستينيات من القرن الماضي عانت معظم الأنظمة الصحية التي تأسست في الأربعينات والخمسينات من عدة مشاكل كارتفاع التكلفة وعدم عدالة توزيع منافع الرعاية الصحية وسوء نوعية الخدمات الصحية التي تقدّم لأصحاب الدخول المتواضعة.
وعليه ظهرت الحاجة إلى تغيير جذري لجعل الأنظمة الصحية أكثر كفاءة وعدالة وأسهل منالاً. ومن ثم ظهر الإصلاح المتمثل بتشجيع «الرعاية الصحية الأولية» كأساس للأنظمة الصحية، واستند هذا الإصلاح على ما حققته بعض الدول من نجاحات في تحقيق أهداف زيادة العمر المتوقع بحوالي 15 إلى 20 سنة في خلال فترة قصيرة نسبياً وبتكلفة متدنية للغاية، وذلك بالاعتماد على توفير العناية الصحية الأولية لكل السكان. وقد تمثلت محاور هذه العناية في توفير مستوى أساسي من العناية الصحية ومستوى ملائم من الغذاء والتغذية ونشر التعليم وأنظمة مصادر المياه النظيفة وأنظمة الصرف الصحي لكل السكان، وكذلك بالتركيز على إجراءات الصحة العامة مقارنة بالعناية الطبية، وبالوقاية مقارنة بالعلاج وعبر توفير الأدوية الأساسية وتدريب وتعليم الناس بواسطة العاملين في مجال صحة المجتمع .
لقد تعرضت مقاربة الرعاية الصحية الأولية لنقد أساسي باعتبارها لم تعرِّ الطلب على الخدمات الصحية الاهتمام اللازم وإنما ركَّزت بشكل أساسي على العرض. وظهر الجيل الثالث من الإصلاح ليهتم بالطلب. واستند هذا الجيل على ما تسميه منظمة الصحة العالمية «الشمولية الجديدة». والمقصود بها: تقديم خدمة أساسية عالية النوعية لكل شخص حيث عرَّفت النوعية على أساس مبدأ الكفاءة في التكلفة. كما يركز الجيل الثالث من الإصلاح على التمويل العام أو التمويل الخاص المنظّم والمراقب بواسطة الدولة دون أن يعني ذلك توفير الخدمة بواسطة الحكومة أو مؤسسات القطاع العام .
أولاً ـ سوق خدمات الرعاية الصحية:
يمكن النظر إلى سوق خدمات الرعاية الصحية من موضوعي العرض والطلب على هذه الخدمات.
1 ـ الـطلـب:
في جانب الطلب على خدمات الرعاية الصحية، وكما هي العادة في أدبيات النظرية الاقتصادية، يتمُّ استكشاف محددات الطلب على هذه الخدمات في إطار نموذج المستهلك الذي يتسم سلوكه بالرشاد الاقتصادي وفقا للفرضيات التالية:
ـ أن يكون لدى المستهلك إجمالي دخل ثابت ومستوى معين من المعرفة والتعليم.
ـ تمكن المستهلك من التعبير عن تفضيلاته الاستهلاكية بواقعية تعبر عن معرفته الحقيقية بواقعه الصحي.
ـ أن يتم إنتاج الحالة الصحية للمستهلك عبر مجموعة من الاعتبارات منها : تقنيات إنتاج الرعاية الصحية كمستوى التغذية وصحة البيئة والتي تتأثر بمستوى المعرفة المتوفر للمستهلك.
ـ أن تسود أسعار تنافسية للسلعة الاستهلاكية وأسعار إنتاج الحالة الصحية التي يأخذها المستهلك كمعطيات لا يستطيع التأثير فيها.
وعلى أساس هذه الفرضيات يقوم المستهلك باتخاذ قراراته الاستهلاكية باختيار كمية السلعة الاستهلاكية وكميات مدخلات إنتاج الحالة الصحية وفقا للقيود التي تفرضها الموارد المتاحة له في شكل دخل ثابت وأسعار إنتاج الحالة الصحية.
2 ـ الـعـرض:
وفيما يتعلق بجانب عرض الخدمات الصحية يلاحظ أن تقنيات إنتاج الخدمات الصحية تشتمل على مكونات العمل في شكل أطباء وكوادر طبية وكوادر طبية مساعدة،اضافة إلى عوامل إنتاج وسيطة ورأس المال. وفي هذا المجال يلاحظ أن الأطباء بمختلف تخصصاتهم يقومون بتوفير المعلومات والإرشادات للأفراد حول طبيعة حالتهم الصحية، وعن أثر مختلف طرق العلاج عليهم، والقيام بتوفير خدمات العلاج كالجراحة وكتابة الوصفات الطبية.كما يلاحظ أن الأطباء عادة ما يشكلون نسبة متدنية من قوة العمل المنخرطة في توفير الخدمات الصحية إذ يتطلب توفير هذه الخدمات أعداداً كبيرة من الكوادر الطبية والمساعدة من الممرضات والإداريين والصيادلة والإداريون، وينطوي عمل هؤلاء على جوانب مكملة وأخرى محلة لعمل الأطباء. كما تلعب الإمدادات الطبية، كالأدوية والمعدات الطبية والمعدات الرأسمالية، دوراً مهماً في إنتاج الخدمات الصحية. وتتصف تقنية إنتاج الخدمات الصحية بقدر من الإحلال بين العمل ومثل هذه الإمدادات الطبية، إلا أن بعض المدخلات لا يتوفر لها بدائل كالأدوية مثلاً. وبالرغم من أهمية المدخلات الرأسمالية في عملية إنتاج العناية الصحية، إلا أنها تشكل نسبة متدنية من تكلفة إنتاج الخدمات الصحية في المستويات الأولية للرعاية الصحية.
في إطار هذه العلاقات الفنية لإنتاج الخدمات الصحية يمكن النظر إلى محددات عرض الخدمات الصحية من خلال التعرض للحوافز الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع مختلف الأطراف للقيام بأعمالهم في هذا المجال. وفي هذا المجال يُمكن النظر للأطباء على أنهم يقومون بتقديم خدماتهم كعمالة ماهرة تحفزها تركيبة الأجور في الاقتصاد وتسعى لتعظيم حجم منفعة تقليدية معرفة على الدخل (الاستهلاك) وعلى الوقت المتاح للراحة والاستجمام. من جانب آخر، ولأنهم يتوفرون على معرفة متخصصة حول تقنيات إنتاج الرعاية الصحية، يُمكن النظر إليهم كمنظمين أو إداريين للعملية الإنتاجية الصحية، ومن ثم فإن معدل الربح في مجال تقديم الخدمات الصحية سيكون من أهم الحوافز الاقتصادية التي تستند عليها عملية اتخاذ القرارات بواسطة الأطباء.
وقبل كل تلك الأدوار والقرارات التي تتخذ حيالها بواسطة الأطباء، القرار الابتدائي حول دراسة الطب ليصبح الفرد طبيباً، وهو قرار أخذ يعرف بالاستثمار في رأس المال البشري حيث تركز نماذج رأس المال البشري على قرارات الاستثمار في رأس المال البشري بواسطة الأفراد وذلك بالاستناد على الفرضيات التالية:
ـ يتوقع الأفراد، عند اتخاذ القرار بالتدريب، الحصول على دخول أعلى في المستقبل تعوِّض تكلفة التدريب. إلا أن التدريب يتطلب تأجيلاً للدخل لفترة مستقبلية.
ـ يفترض أن تقتصر تكلفة التدريب على التكلفة البديلة بمعنى الدخل الذي كان سيحصل عليه الفرد إذا لم يلتحق بمؤسسات التدريب.
ـ يفترض ألا يقوم الأفراد باتخاذ قرار التدريب في المستقبل بعد انقضاء فترة التدريب الأولى وأن يظل تدفق الدخل المستقبلي بعد نهاية فترة التدريب الأولى ثابتاً خلال الفترة العملية.
ـ يفترض ثبات سعر الفائدة الذي يستخدمه الأفراد في حسم التدفقات المستقبلية.
على أساس هذه الفرضيات، وفي إطار التوازن التنافسي، فسيكون توزيع دخول العمال بحيث تتساوى القيمة الحاضرة للتدفقات المستقبلية، وذلك لخياري الانخراط في التعليم أوعدم الانخراط فيه، بعد حسم التدفقات المستقبلية بسعر الفائدة التنافسي، عند وقت اتخاذ قرار الاستثمار في التدريب أو التعليم. ويترتب على مثل هذا التحليل أن عرض الأطباء يعتمد على هيكل التكلفة البديلة للدراسة وعلى أسعار الفائدة السائدة في الاقتصاد.
وعلى أساس مثل هذه الصياغة النمطية لسلوك الأفراد، وبافتراض أن حافز منتجي خدمات الرعاية الصحية يتمثل في تعظيم الأرباح بالطريقة التقليدية، يمكن التعامل مع سوق خدمات الرعاية الصحية على أساس التحليل الاقتصادي المعروف بحيث تتحدد الكمية التوازنية لخدمات الرعاية الصحية التي يرغب الأفراد في الحصول عليها والتي يرغب المنتجون في توفيرها بتقاطع حجم العرض والطلب. في مثل هذا التحليل يتوقع أن تعمل آلية السوق لتحقيق كفاءة تخصيص الموارد في سوق خدمات الرعاية الصحية مثل بقية أسواق السلع والخدمات في الاقتصاد.وتستند مثل هذه الصياغة النمطية للأسواق على عدد من الفرضيات الهامة، التي استخدمت للحصول على حجم العرض والطلب التي تعرف السوق في النظرية الاقتصادية، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
ـ ثمة عدداً كبيراً من المنتجين لخدمة الرعاية الصحية ويسعى كل واحد منهم لتكبير فائدته كما يعبِّر عنها ربحه دون أن يكون له تأثير على أسعار الخدمات المقدمة أو أسعار مكونات الإنتاج.
ـ أن خدمة الرعاية الصحية التي يتمُّ عرضها في السوق تتسم بالتجانس بمعنى مطابقة مواصفات كل وحدة منها للوحدة الأخرى.
ـ أن المستهلكين يمتلكون المعلومات الكاملة عن أسعار ونوعية وجودة خدمات الرعاية الصحية.
ـ أن المستهلكين يقومون بمقابلة تكلفة السلعة التي يقومون باستهلاكها بمعنى دفع السعر الذي يحدده السوق.
الا ان سوق خدمات الرعاية الصحية تختلف عن الأسواق النمطية للنظرية الاقتصادية في أن معظم هذه االفرضيات لا يتحقق. ففي جانب الطلب عادة ما تسود حالة عدم المعرفة وغياب المعلومات حول الحالة الصحية للفرد باعتبار أن مثل هذه المعرفة تتسم بالخصوصية التي تتطلب تدريباً طويلاً بتكلفة عالية، ولغياب المعلومات أيضاً حول تركيبة الأسعار السائدة ومدى تعبيرها عن جودة الخدمة المقدمة، وحول طبيعة العلاج الملائم للحالة المرضية؛ كذلك تسود حالة عدم المعرفة الدقيقة للحالة الصحية للأفراد ما يعني أن عملية اتخاذ القرار لا تتم في بيئة من اليقين بتفضيلات المستهلك وإنما تعتمد على احتمالات حدوث مختلف الحالات الصحية. وفي جانب العرض عادة ما يتم تقديم خدمات الرعاية الصحية من خلال منافذ محدودة تتسم معظمها بمظاهر الاحتكار، بمعنى إمكانية التحكم في الأسعار، سواء أكان ذلك بالنسبة للمستشفيات الكبرى أو المراكز الصحية أو العيادات الخاصة؛ كذلك ينعدم حافز الربح لدى المستشفيات الحكومية الكبرى. بالإضافة إلى ذلك تتعدد الوصفات العلاجية بتعدد الحالات المرضية ما يعني انعدام صفة التجانس؛ كذلك تتوفر لدى الأطباء معلومات فنية تتحدد على أساسها نوعية الخدمة المقدمة ولا تتوفر هذه المعلومات للأفراد المستهلكين. وعادة ما تلخص هذه الاختلافات بين الأسواق النمطية وسوق الخدمات الرعاية الصحية في ملاحظة أن الثاني يتصف بعدم كمال المعلومات وعدم كمال التنافس. وفي ظل هذه الخصائص عادة ما تفشل آلية السوق في تحقيق كفاءة تخصيص الموارد ومن ثم في تعظيم رفاه الفرد، الأمر الذي يستدعي تدخل الدول .
ثانياً ـ إخفاق آلية السوق ودور الدولة:
تعتبر سياسات الدولة في مجال العناية الصحية ناجحة إذا ترتب عليها زيادة في رفاه المجتمع من خلال تحسن الأحوال الصحية أو ازدياد درجة عدالة توزيع الخدمات الصحية، أو ازدياد قناعة المستهلكين بما يقدم لهم، أو انخفاض تكلفة الخدمات الصحية مقارنة بحالة عدم تدخل الدولة. ويلاحظ في هذا الصدد أن السعي نحو تحقيق أي من هذه الأهداف لا يستدعي بالضرورة تدخل الدولة ومن ثم لا بدَّ من وجود مبررات أخرى توضح أن الدولة من شأنها تحقيق بعض هذه الأهداف بطريقة أفضل من تلك التي تتأتى بواسطة القطاع الخاص وعمل آلية السوق.
تشتمل مثل هذه المبررات على ثلاث مجموعات من الاعتبارات، تستند المجموعة الأولى إلى هدف الإقلال من الفقر وتحقيق درجة عدالة أكبر في توزيع الخدمات الصحية بين الفقراء والأغنياء بينما تتعلق المجموعتين الأخريين بإخفاق آلية السوق والتي تتأتى من جرّاء اتصاف بعض الخدمات الصحية بخاصية السلع العامة وكذلك وجود ما يسمى بالتأثيرات الخارجية.
وكما هو معروف فإن من أهم خصائص السلع العامة أن استخدامها والاستفادة منها بواسطة فرد لا تحرم فرداً آخراً من استخدامها والاستفادة منها وعادة ما يتطلب توفير مثل هذه السلع استثمارات كبيرة بتكلفة إنتاج مرتفعة دون أن تتوفر لها أسعار كالسلع الخاصة لانعدام الأسواق .
يقصد بالتأثيرات الخارجية تدفق المنافع أو الأضرار من شخص لآخر وذلك في إطار السلوك الواقعي للأفراد بمعنى سعيهم نحو تحقيق منافعهم كما تعبر عنها رغباتهم الاستهلاكية أو أرباحهم .
وفي هذا المجل تثار أسئلة كثيرة منها، كيفية تخفيف سوق الخدمات الرعاية الصحية؟ وفي هذا الإطار يلاحظ أن مختلف الأفراد يواجهون درجات مخاطر مختلفة للتعرض للأمراض الأمر الذي يعني أن الطلب على خدمات الرعاية الصحية يتم في بيئة افتراضية ما يعني بدوره إمكانية تطور أسواق التأمين الصحي. وفي إطار مثل هذا السوق فإن الأفراد الذين يعلمون بأن درجة مخاطرهم مرتفعة سيكون لديهم حافزاً لشراء بوليصة تأمين واستخدام ما توفره، ذلك إذا وجدت أسواق للتأمين الصحي. وفي جانب عرض خدمات التأمين الصحي فإنه من مصلحة شركات التأمين أن تبحث عن الأفراد ذوي المخاطر المرتفعة لاستبعادهم من خدماتها أو لرفع الأسعار لمقابلة ارتفاع درجات مخاطرهم .
كما يترتب على التأمين انخفاض التكلفة الحدية للعناية الصحية للفرد الأمر الذي يؤدي عادة إلى استخدام أكثر بواسطة الفرد للخدمات الصحية مقارنة بحالة مقابلة التكلفة الحدية الحقيقية. كذلك يؤثر التأمين على سلوك الفرد فيما يتعلق بعنايته بصحته ما يزيد من التعرض للأمراض ومن ثم زيادة الطلب على الخدمات الصحية، أو ربما زادت عنايتهم بصحتهم ولكن عن طريق استخدام أكثر كثافة للخدمات الصحية التي يوفرها نظام التأمين .
وعادة ما يتوقع الأفراد الذين يتمتعون بالتأمين الصحي أن يكون لديهم حافزاً لطلب زائد على الخدمات الصحية بأسعار مرتفعة. مما يترتب عليه إنتاج الخدمة الصحية بكميات أكبر من الحاجة الحقيقية. ونظراً لصعوبة تقييم المخاطر الصحية لكل فرد واستحالة تقدير قيمة الحياة يصبح من المستحيل تقدير ما هو زائد عن الحاجة من التأمين الصحي والعناية الصحية. كما أنه ليس هنالك ضمان من أن تؤدي زيادة أسعار الخدمات الصحية أو التأمين الصحي إلى إنقاص ما هو طلب زائد عن الحاجة.
وتتعقد الصورة أكثر نتيجة للإخفاق في تدفق المعلومات. فهنالك تباين في توفر المعلومات عن الأحوال الصحية للأفراد وطرق علاجها. فالمستهلك في هذه الحالة لا يعرف شيئاً بالتحديد بينما يتوفر الأطباء على معرفة فنية دقيقة. ويترتب على هذه الأحوال تضارب في المصالح بين الحوافز المتوفرة للطبيب في عرضه لخدماته وما يمليه عليه الواجب تجاه مرضاه .
ثالثاً ـ مؤشرات الحالة الصحية:
ينطوي التعريف النظري للحالة الصحية للفرد على إشكاليات مفهومية تعيق تطبيق النموذج النمطي للمستهلك ومن ثم تعيق تعريف سلوك الطلب على خدمات الرعاية الصحية، وقد تـمَّ تطوير عدد من المؤشرات التجميعية لتعريف الحالة الصحية لمختلف الأقطار. تشتمل أهم هذه المؤشرات على ما يلي:
ـ معدل وفيات الرضع: وهو عدد الوفيات سنوياً من الرضع الذين تقل أعمارهم عن سنة، لكل ألف طفل يولدون أحياء. والمعدل يعبِّر عن احتمال الوفاة خلال الفترة المحصورة بين الولادة واكتمال السنة الأولى من العمر.
ـ معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة: وهو متوسط العدد السنوي لوفيات الأطفال دون سن الخامسة لكل ألف يولدون أحياء خلال السنوات الخمس السابقة. والمعدل يعبِّر عن احتمال الوفاة خلال الفترة المحصورة بين الولادة واكتمال السنة الخامسة من العمر بالضبط مضروباً في ألف. وتعتبر منظمة اليونيسيف هذه المعدل من أهم المؤشرات التي تعكس الحالة الصحية.
ـ العمر المتوقع عند الولادة: وهو عدد السنوات التي من المتوقع أن يعيشها الطفل حديث الولادة في حالة استمرار أنماط الوفاة السائدة وقت ولادته على ما هي عليه طوال حياته.
ـ نسبة الإنفاق الصحي: وهو الإنفاق على المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات وخطـط التأمين الصحي وتنظيم الأسرة منسوباً إلى إجمالي الإنفاق الحكومي أو الناتج المحلي الإجمالي.
ـ الحصول على الخدمات الصحية: وهو النسبة المئوية للسكان الذين يمكنهم الحصول على الخدمات الصحية المحلية الملائمة سيراً على الأقدام أو باستخدام وسائل الانتقال المحلية فيما لا يزيد عن ساعة.
تختلف المؤسسات الدولية المعنية فيما بينها في استخدام هذه المؤشرات. فعلى سبيل المثال تعتمد منظمة اليونسيف معدل وفيات الأطفال كمؤشر للحالة الصحية للأقطار بينما تعتمد منظمة الصحة العالمية العمر المتوقع عند الولادة كمؤشر بعد تعديله ليأخذ في الاعتبار المعلومات المتوفرة حول البيئة الصحية وتاريخ الأمراض. هذا وقد درجة الأدبيات التطبيقية على استخدام مؤشرات الوفيات لاستكشاف أهم العوامل المحددة للحالة الصحية على مستوى الأقطار حيث تـمَّ تقدير نموذج للانحدار باستخدام لوغاريتم معدل وفيات الأطفال كمتغير معتمد ومتوسط دخل الفرد ونصيب الإنفاق العام في قطاع الصحة من الناتج المحلي الإجمالي كأهم المتغيرات المفسرة بالإضافة إلى متغيرات أخرى. تضمنت ما يلي:
ـ تعليم المرأة: استناداً على الشواهد التطبيقية المستندة على مسوح الأسرة والمسوح المتخصصة والتي وأضحت أن الأمهات اللاتي تلقين تعليم ثانوي عادة ما يكون معدل وفيات أطفالهن حوالي 36 % أقل من مثيلاتهن اللاتي تلقين تعليماً أولياً.
ـ حالة توزيع الدخل: كما يلخصها معامل جيني لتوزيع الدخل حيث وجد أنه بعد التحكم في مستويات تعليم المرأة ومستوى الدخل، فإن مرونة معدّل وفيات الرضّع بالنسبة لمعامل جيني تبلغ حوالي 77.0 ما يعني أن توزيعاً أقل عدالة للدخل يؤدي إلى ازدياد في معدل وفيات الرضّع وتدنّي الحالة الصحية في الاقتصاد.
ـ التباين العرقي واللغوي: وهو عامل معرِّف على احتمال أن يتحدث أي شخصين، يتم اختيارهما عشوائياً من سكان قطر معين، لغة محلية واحدة. ويعتقد أن مؤشر مرتفع للتباين العرقي واللغوي عادة ما يرتبط بمستويات متدنية من الحالة الصحية أو الإنجازات التنموية عموماً.
تـمَّ تقدير النموذج لعينة من الدول بلغ حجمها 98 حسب توفر المعلومات حول معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة من مصادر اليونيسيف والبنك الدولي وحيث استخدمت طريقة المربعات الصغرى العادية لتقدير النموذج. ويلخص الجدول التالي هذه النتائج:
محددات الحالة الصحية: تفسير معدل وفيات الأطفال
المتغير المفسر لوغاريتم معدل وفيات الأطفال
1 لوغاريتم الناتج المحلي الإجمالي ـ 0.611 (9.7)
2 لوغاريتم نصيب الإنفاق العام في قطاع الصحة من الناتج المحلي - 0.135 (1.78)
3 متوسط سنوات الدراسة للمرأة - 0.093 (3.54)
4 معامل جيني (نسبة مئوية)
0.093 (1.28)
5 الديانة الغالبة (متغير دمية = البلاد الإسلامية)
- 0.45 (3.18)
6 مؤشر التباين العرقي اللغوي
- 0.549(3.43)
7 نسبة الحضر (التحضر) -0.001 (0.459)
8 دمية للأقطار الاستوائية
- 0.051 (0.459)
9 توفر مصادر المياه الصالحة للشرف - 0.001 (0.606)
معامل التحديد ( % ) 94.69
عدد المشاهدات 98
ويمكن تلخيص هذه النتائج فيما يلي:
ـ تؤثر المرحلة التنموية للقطر، حسبما يقيسها متوسط دخل الفرد، بطريقة معنوية في الحالة الصحية للقطر حسبما يقيسها معدل وفيات الأطفال وحيث تبلغ مرونة معدل وفيات الأطفال بالنسبة لمتوسط دخل الفرد سالب 6.0. ويعني ذلك أن نمو متوسط دخل الفرد بنقطة مئوية يعني انخفاض معدل وفيات الأطفال بحوالي 0.6 نقطة مئوية، أو أن الاختلاف بين الأقطار فيما يتعلق بدخل الفرد يتوقع أن ينعكس في اختلاف في معدل وفيات الأطفال بحيث يكون القطر ذي الدخل المرتفع أقل معدلاً لوفيات الأطفال بهامش نسبي يبلغ 0.6 وتُترجم هذه النتيجة التطبيقية المستقرة في مقولة أن من هم «أكثر ثراء هم أكثر صحة وعافية». ويلاحظ في هذا الخصوص أنه ليس ثمة ما يؤيد التخوف من أن تكون هنالك حالة سببية عكسية بين معدل وفيات الأطفال ومتوسط دخل الفرد.
ـ يؤثر تعليم المرأة إيجابياً في الحالة الصحية للقطر بحيث تؤدي زيادة سنة واحدة لمتوسط تعليم المرأة إلى انخفاض معدل وفيات الأطفال بحوالي 9.3% ما يعني، مثلاً، أن ازدياد مستوى تعليم المرأة بحوالي 4 سنوات (من المتوسط الحالي والذي يبلغ 5 سنوات لعينة الأقطار) سيترتب عليه انخفاض في معدل وفيات الأطفال بحوالي 37.2% (من متوسط 88 في الألف إلى 55 في الألف).
ـ تتصف البلدان الإسلامية بمعدل أعلى لوفيات الأطفال يبلغ حوالي 45 % من المتوسط للدول الأخرى المشمولة بالعينة (ويلاحظ أن هذه النتيجة لا تتأتى في حالة معدل وفيات الرضع).
ث ـ يؤثر التباين العرقي واللغوي بطريقة إحصائياة على الحالة الصحية في القطر بحيث تؤدي المستويات المرتفعة للتباين إلى ارتفاع معدل وفيات الرضّع. فعلى سبيل المثال فإن ارتفاع مؤشر التباين العرقي من حوالي 0.07 يرتبط بارتفاع معدل وفيات الأطفال بحوالي 35 % .
ـ لا تؤثر كل من عوامل توزيع الدخل ومعدل التحضر والموقع الجغرافي للقطر وتوفر مصادر المياه الصالحة للشرب بطريقة مغزوية إحصائياً على معدل وفيات الأطفال.
رابعاً ـ الأوضاع الصحية في الدول العربية:
تشير بعض الاحصاءات أن الحالة الصحية في الوطن العربي قد تحسَّنت تحسّناً ملحوظاً خلال الفترة من 1960 إلى 2000 استنادا الى أهم المؤشرات المستخدمة في هذا المجال والتي يرصدها الجدول التالي:
توقع الحياة توقع الحياة معدل وفيات الأطفال معدل وفيات الأطفال معدل وفيات الرضع معدا وفيات الرضع
صحة جيدة 1970 1975 1995 2000 1960 2000 1960 2000
الكويت 67.3 75.9 128 13 89 9
البحرين 63.5 72.9 203 11 89 9
قطر 62.2 71.7 239 19 145 14
الإمارات المتحدة 62.5 74.9 223 10 149 8
صحة متوسطة
ليبيا 52.9 70 270 32 159 26
السعودية 53.9 71.4 292 23 170 18
لبنان 65 69.9 85 30 170 18
عمان 49 70.9 280 22 164 17
الأردن 56.5 70.2 139 30 97 25
تونس 55.6 69.5 254 30 170 26
الجزائر 54.5 68.9 255 39 152 33
سوريا 57 68.9 201 29 136 24
مصر 52.1 68.3 282 52 189 42
المغرب 52.9 66.6 220 60 135 47
العراق 57 62.4 171 121 117 93
جزر القمر 48.9 58.8 265 80 200 60
صحة متدنية
السودان 43.7 55 210 115 125 81
موريتانيا 43.5 53.5 310 164 180 101
اليمن 42.1 58 340 95 220 76
جيبوتي 41 50.4 289 178 186 115
الدول العربية 54.1 66.3 232.8 58 148.9 42
ويمكن تفسير هذا الجدول وفقا للتالي:
ـ العمر المتوقع للحياة: ارتفع متوسط العمر المتوقع للحياة في مجموعة الدول العربية من حوالي 54 سنة كمتوسط للفترة 1970 إلى 1975 إلى حوالي 66 سنة كمتوسط للفترة 1995 إلى 2000 ويلاحظ في هذا الصدد أنه خلال الفترة الأولى كان هنالك ست دول عربية قـلَّ فيها العمر المتوقع للحياة عن متوسط الدول العربية واشتملت هذه الدول على جيبوتي (بعمر متوقع بلغ 41 سنة كأدنى عمر متوقع)، واليمن، وموريتانيا والسودان، وجزر القمر وعُمان. هذا وقد سجلت الكويت أعلى عمر متوقع خلال هذه الفترة بلغ 67 سنة.
ـ معدل وفيات الأطفال دون الخامسة: انخفض متوسط المعدل للدول العربية من حوالي 233 وفاة لكل طفل دون الخامسة في عام 1960 إلى حوالي 58 عام 2000. ويلاحظ في هذا الصدد أنه في عام 1960 كان هنالك إحدى عشر دولة عربية فاق معدلها متوسط المعدل للدول العربية اشتملت الدول على اليمن (بأعلى معدل لوفيات الأطفال بلغ 340 وفاة لكل ألف طفل)، وموريتانيا، والسعودية، وجيبوتي، ومصر، وعُمان، وليبيا، وجزر القمر، الجزائر، وتونس. وسجل لبنان أدنى معدل، بمعنى أحسن حالة صحية، بلغ 85 وفاة لكل ألف طفل دون سن الخامسة. وفي عام 2000، ومع انخفاض المتوسط للدول العربية إلى 58 وفاة لكل ألف طفل دون سن الخامسة، بلغ عدد الدول العربية التي قـلَّ معدلها عن المتوسط 13 دولة اشتملت على: الإمارات (بمعدل بلغ 10 وفيات لكل ألف طفل دون سن الخامسة كأدنى معدل وأحسن حالة صحية)، والكويت، وعُمان وقطر، والبحرين، وليبيا، والسعودية، وسوريا وتونس، ولبنان، والأردن، والجزائر ومصر.
3 ـ معدل وفيات الرضع: انخفض متوسط المعدل للدول العربية من حوالي 149 في الألف لعام 1960 إلى حوالي 42 في الألف لعام 2000. ويلاحظ في هذا الصدد أنه في عام 1960 ثمة عشر دول عربية اتسمت حالتها الصحية بالتدني بحيث فاق وفيات الرضع فيها متوسط المعدل للدول العربية واشتتملت هذه الدول حسب ارتفاع المعدل على: اليمن (بأعلى معدل بلغ 220 في الألف)، وجزر القمر، ومصر، وجيبوتي، وموريتانيا، والسعودية وتونس، وعُمان، وليبيا، والجزائر. وسجل لبنان أدنى معدل، بمعنى أحسن الأحوال الصحية، بلغ 65 وفاة لكل ألف مولود تليها الكويت. وفي عام 2000، مع انخفاض المتوسط للدول العربية إلى 42 وفاة لكل ألف طفل رضيع، بلغ عدد الدول العربية التي قـلَّ معدلها عن المتوسط 12 دولة اشتملت على: البحرين (بمعدل بلغ 7 وفيات لكل ألف رضيع كأدنى معدل وأحسن حالة صحية)، والإمارات العربية، الكويت وكل من عُمان وقطر، والبحرين، وليبيا، والسعودية، وتونس، وسوريا، ولبنان، والأردن، والجزائر ومصر.
3 ـ معدل وفيات الرضع: انخفض متوسط المعدل للدول العربية من حوالي 149 في الألف لعام 1960 إلى حوالي 42 في الألف لعام 2000. ويلاحظ في هذا الصدد أنه في عام 1960 ثمة عشر دول عربية اتسمت حالتها الصحية بالتدني بحيث فاق معدل وفيات الرضع فيها متوسط المعدل للدول العربية واشتملت هذه الدول حسب ارتفاع المعدل على: اليمن (بأعلى معدل بلغ 220 في الألف)، وجزر القمر، ومصر، وجيبوتي، وموريتانيا، والسعودية وتونس، وعُمان، وليبيا، والجزائر. وسجل لبنان أدنى معدل، بمعنى أحسن الأحوال الصحية، بلغ 65 وفاة لكل ألف مولود تليها الكويت. وفي عام 2000، مع انخفاض المتوسط للدول العربية إلى 42 وفاة لكل ألف طفل رضيع، بلغ عدد الدول العربية التي قـلَّ معدلها عن المتوسط 12 دولة اشتملت والإمارات العربية، الكويت وكل من عُمان وقطر، والبحرين، وليبيا، والسعودية، وتونس، وسوريا، ولبنان، والأردن، والجزائر.
خامساً ـ ملاحظات واستنتاجات:
يتضح من الاستعراض المكثف للحالة المعرفية في مجال اقتصاديات الصحة أن سوق خدمات الرعاية الصحية يختلف اختلافاً بيناً عن الأسواق النمطية التي تفترضها النظرية الاقتصادية وذلك لعدم توفر الفرضيات الأساسية التي تفترضها النظرية في جانبي العرض والطلب لهذا السوق. كما يتضح أن إدراك ظاهرة إخفاق آلية السوق في هذا الإطار قد أثرت في صياغة الأنظمة الصحية التي ظهرت خلال القرن العشرين من مرحلة توفير خدمات الرعاية الصحية باعتبار أن مثل هذه الخدمات تتصف بصفة السلع العامة وعلى اعتبار أن هنالك تأثيرات خارجية قوية، إلى مرحلة توفير خدمات الرعاية الصحية الأولية باعتبار أن مثل هذه الخدمات تشكل أحـد أهم مكونات الاحتياجات الأساسية التي تعرف رفاه الأفراد في إطار اقتصاديات التنمية وبهدف الوصول إلى الفقراء والشرائح السكانية الضعيفة.
وقد حاول الجيل الثالث من إصلاح الأنظمة الصحية العناية بجانب الطلب في توفير خدمات الرعاية الصحية وذلك بهدف جعل هذه الأنظمة تستجيب لرغبات المستهلكين. وعلى الرغم من أن هذا الإصلاح يرمي إلى فرض سيادة آلية السوق في تخصيص الموارد في مجال العناية الصحية وذلك عن طريق خلق سوق للتأمين الصحي ليقف خلف سوق خدمات الرعاية الصحية، إلا أن اعتبارات عدالة توزيع هذه الخدمات سيظل يفرض دوراً للدولة في توفير مثل هذه الخدمات.