08‏/05‏/2016

البروفسور خليل حسين
خلفيات التموضع الروسي في الازمة السورية
الخليج 20-3-2016    
 
بصرف النظر عن حجم ونوعية الانسحاب الروسي العسكري من سوريا، ثمة خلفيات من الصعب على موسكو إخفاؤها كليا. فموسكو التي وضعت ثقلها النوعي والاستراتيجي في الأزمة السورية، هدفت أولا وأخيرا، إلى تكريس موقعها ودورها في الشرق الأوسط من البوابة السورية تحديداً، بعد سلسلة مواجهات دولية على خلفية الأزمة الأوكرانية وذيولها، وبعدما تمكنت وبصعوبة من بلع وهضم المسألة الجورجية سابقاً، وبالتالي فإن التموضع الروسي بدءا من سبتمبر( أيلول) الماضي، كان بمثابة إعلان صريح عن دور مفترض تطمح إليه، بصرف النظر عن أثمانه الداخلية والدولية.
فالاستراتيجية الروسية وبالتحديد منذ العام 2000 تاريخ وصول بوتين للسلطة في روسيا، رسمت معالم التوسّع للسياسة الخارجية وبالتحديد في المناطق التي تعتبرها مدخلاً ضرورياً لحجز مكان مؤثر في النظام الدولي، فتاريخيا، كانت سوريا محط أنظار موسكو، الأمر الذي كرسته بمعاهدات صداقة استراتيجية مع الأسد الأب، واستمر مع عهد الابن مع فروق بسيطة لجهة الوسائل وأدوات السياسات الإقليمية والدولية. ومن هنا لا يمكن تفسير خطوة الانسحاب، إن كان جزئياً أو غيره من التوصيفات، لا يعدو كونه خطوة تكتيكية في الأزمة السورية وملفاتها، وخطوة استراتيجية في مجمل ملفات المنطقة ذات الصلة بالأزمة السورية.
فما قدمته موسكو في عاصفة السوخوي خلال 165 يوماً، منذ أواخر سبتمبر الماضي وحتى منتصف الشهر الحالي، يعتبر من وجهة النظر العسكرية والسياسية عملاً وازناً في ملفات المنطقة، بدءاً من الملف اليمني مروراً باللبناني فضلاً عن السوري تحديداً، وبالتالي، فإن روسيا التي قدمت أثماناً واضحة، من الصعب أن تقدم هدايا مجانية للخصوم كما الحلفاء، فلها حساباتها الخاصة في أحجام الأرباح المفترضة التي تود أن تجنيها، وليس بالضرورة أيضاً، أن تتحمل خسائر مفترضة، إذا كانت قادرة على تحميل حلفائها قبل خصومها هذا الوزر. ومن هنا يبدو أن القرار المتخذ الذي بدا مفاجئاً، يصب في هذا الاتجاه، أي بمعنى آخر هو قرار ليس بالضرورة أن يكون قد اتخذ على عجل، بل يبدو أنه مدروس بدقة وفقاً لعقلية بوتين تحديدا، الذي كان واضحاً منذ البداية بالإعلان وعلى مسامع نظيره الأمريكي، باراك أوباما في لقاء القمة، أن العملية لن تستغرق أكثر من خمسة أشهر، وهي مدة كافية كانت بنظره، لتحديد خطوط الطول والعرض للأزمة السورية، والتي من خلالها يمكن إدارة الأزمة بأقل التكاليف الممكنة لكل الأطراف، وبهدف الوصول إلى حل ما يرضي الأطراف جميعاً، من دون إحراج أحد، وهذا ما تم فعلاً في التوصل للقرار الدولي 2254 وبالاتفاق تحديدا مع واشنطن، وهو القرار الذي ترجم موازين القوى العسكرية في الأزمة السورية.
فالقرار الروسي بالانسحاب، يبدو منسقاً بصرف النظر عن الحجم والنوع والأهداف والتداعيات المتوقعة منه مستقبلاً، إلا أنه يرسم وبوضوح رسائل متعددة الجوانب والأهداف للحلفاء والخصوم في آن معاً. فموازين القوى أتت مؤخراً لمصلحة إعادة تعويم النظام في بعض المناطق «المفيدة» كما سميت، لكن ليس إلى الحد الذي سيسمح للنظام التحكم بمسار حل الأزمة وبالقوة التي يريدها أو تريدها الأطراف المعارضة ومن يدعهما إقليمياً ودولياً، وبالتالي هي رسالة واضحة أيضاً لجميع الأطراف، عدم المغالاة في المواقف في مفاوضات جنيف 3، التي تترافق مع عملية الانسحاب، وإشارة من شأنها إجبار كل الأطراف على الانصياع لسياق حل لا يكسر حتى الأطراف الإقليمية المنخرطة في الأزمة السورية، إن كانت أطرافاً عربية أو غير عربية.
وبصرف النظر، إن كانت عاصفة السوخوي قد حققت جميع أهدافها المعلنة أم لا، ثمة سياقات أخرى، حتمت على بوتين اتخاذ مثل هذا القرار، من بينها الوضع الاقتصادي الروسي جراء العقوبات، علاوة على الضغوط الدولية نتيجة مواقفه في العديد من الملفات الدولية، ورغبته أولا وأخيراً الحد من الخسائر المحتملة، وكسب الخصوم ولو كان نسبياً على حساب الحلفاء. وما يعزز ذلك الانفتاح الروسي الملحوظ على السياسات الخليجية المتصلة بأزمات المنطقة ومنها اليمنية التي بدأت تشهد تحولات مغايرة، مروراً بعلاقة موسكو مع كل من طهران وأنقرة أيضاً، والتي لها حساباتها الخاصة في الأزمة السورية، التي بدت موسكو مؤخراً بمثابة اللاعب القادر على ضبط إيقاع العديد من الفواعل المؤثرة في الأزمة ومنها على سبيل المثل الملف الكردي.
ثمة من يقول، إن تفاهم بوتين - أوباما على تحديد أطر التدخل الروسي في الأزمة السورية، ونوعيته وحجمه وزمانه ومكانه وغاياته، ليس غريباً أن يفضي إلى اتفاق ولو كان غير مباشر على إعادة التموضع الروسي الحاصل، وبالتالي إعادة فك وتركيب الأزمة السورية وفقاً لمعطيات أخرى، ليست بالضرورة كما هو معلن حالياً في مفاوضات جنيف 3. فالكبار من عاداتهم في تقسيم المغانم، ألا يقدموا الهدايا المجانية حتى لحلفائهم، ومن حق الكثيرين التساؤل عن الصفقات المحتملة بين موسكو وواشنطن في هذا المجال، بعد بروز خرائط شبه واضحة في الجغرافيا السياسية لسوريا الحالية من مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية، ومن رسم حدود فيدراليات ولو معلنة في بعضها ومبطنة في بعضها الآخر.
فأياً يكن الأمر من القرار الروسي، فهو أولاً وأخيراً إعادة تموضع تكتيكي في منطقة لن يخرج منها خاسراً، بل وضع قدراته وإمكاناته في المكان الذي يريد، وهو يبحث الآن عن وسائل ومعطيات تعيد له دوراً مفقوداً وحلماً دفيناً للوصول إلى المياه الدافئة. لا نريد التذكير، أن ثمة قرناً كاملاً على اتفاق سايكس بيكو، فهل سيعيد التاريخ نفسه بعد مئة عام فيقسم المقسم ويجزأ المجزأ؟ إن بعض المعطيات تشي بذلك، ولو كانت بعض الأطراف الإقليمية ستتضرر من ذلك كنموذج الدولة الكردية وموقف كل من أنقرة وطهران من ذلك، علاوة على الفيدراليات التي باتت جاهزة وتنتظر الإعلان الصريح عنها، فهل الانسحاب الروسي سيكون بوقاً لذلك؟ - See more at: http://www.alkhaleej.ae/studiesandopinions/page/f4939ec6-7a20-4b7f-9d41-5550cefece98#sthash.SJ7UDsaN.dpuf