08‏/05‏/2016

القانون الدولي الجانائي والعدالة الجنائية الدولية


الطالبة بثينة بيان
القانون الدولي الجانائي والعدالة الجنائية الدولية
 
ناقشت الطالبة اطروحة الدكتوراه في العلوم السياسية امام اللجنة المكونة من الكاترة محمد المجذوب وخليل حسين وكمال حماد وجورج عرموني ووليد عبد الرحيم، وبعد المناقشة والمدداولة، منحت اللجنة درجة الدكتوراه في الحقوق بتقدير جيد.
الحروب والصراعات حالات ملازمة للمجمتع البشري، منذ تشكلت مكوناته في سياق تطوره التاريخي. وهذا ما دفع مؤسسة كارينجي للسلام إلى  أن تعتبر أن الأصل في العلاقات الدولية هو الحرب والاختصام وليس الوئام والسلام.

 

        هذه الحروب والصراعات جعلت المفهوم الواقعي للعلاقات البشرية يتقدم على المفهوم المثالي الذي ويدعو  إلى عالم خالٍ من المشاكل والحروب، على قاعدة نظرية أفلاطون في جمهوريته، والفارابي في مدينته.إن مؤسسة كارينجي، التي وضعت تقريرها استناداً إلى دراسة أجرتها عام 1940 عن حروب العالم في التاريخ، تبين لها   أنه منذ عام 1496ق.م وحتى عام 1861م، وهي دورة زمنية مداها 3357 عاماً شهدت البشرية 227 سنة من السلام مقابل 1130 سنة من الحروب، مما يجعل معدل نسبة السلام إلى الحرب 1/13.

 

        وفي إحصاء أحدث، تبين أنه خلال 5560 سنة، تاريخ بدء البشرية وحتى عام 1945، نشبت14521 حرباً، وأنه خلال 185 جيلاً، لم ينعم منها بسلم مؤقت إلا عشرة أجيال فقط([1]).

 

        وإذا كانت الحروب والصراعات قد تطورت بأدواتها وآلياتها، واتخذت أشكالاً وأنماطاً مختلفة، فلأن ذلك لم يكن منفصلاً عن التطور العام الذي شهدته البشرية، حيث لم تعد الصراعات تندرج تحت التصنيف التقليدي المعروف بالحروب العسكرية، وإن  كانت الأكثر والأشد  عبئاً على المجتمع، بالنظر إلى ما يترتب عليها من نتائج تصيب الأفراد، والمنخرطين في آلياتها التنفيذية، وأيضاً المحيط أو الحوض المجتمعي الذي تدور العمليات الحربية بين جنباته وعلى أرضه.

 

        إن الحروب تترك تأثيرات قوية لكونها تحصل بين البشر، وعلى أرض يعيش عليها البشر، و من يشعر بها ويعيش فظائعها هو الإنسان منكسراً أو منتصراً. فليس  كل منكسرٍ بالمفهوم العسكري، يكون مهزوماً بالنتاج السياسي، ومعايير التعامل الأخلاقي. وليس كل منتصر بمفردات القاموس الحربي يكون منتصراً بالسياسة والأخلاق. هذا من جانب، أما من جانب آخر ، فإن نتائج الحروب والصراعات لا تتمتع بصفة الثبات التاريخي، لأنها تكون خاضعة بالأساس لمعطيات موازين القوى في لحظة انفجار الصراع. وطالما أن هذه الموازين لا تتمتع بصفة الثابت التاريخي، بل تتغير، بتغير الظروف والمعطيات، فإن نتائج الحروب والصراعات تتغير بتغير أنصبة  موازين القوى. ومن يكن منتصراً في مرحلة معينة، يمكن أن يصبح مهزوماً في لحظة أخرى. وعليه،فإن  الكل يكتوي بنتائج الحروب وتداعياتها، والكل يدفع الأثمان  البشرية والمادية، والكل يقع تحت عبء التثقيل العسكري والسياسي والأخلاقي للحروب والصراعات. ونظراً للتطور الذي طرأ على أداة الحرب المستعملة، والقدرة التدميرية الهائلة التي باتت تتميز بها، بحيث لم تعد آثارها السلبية تقتصر على البشر وحسب، بل أصبحت أيضاً  تطاول  البيئة وكل جوانب الحياة الإنسانية، فقد برزت الحاجة الملحة لوضع قواعد وضوابط تحول دون تجاوز الضرورة في حدودها الضيقة في النزاعات المسلحة، بغية الحد ما أمكن من الآثار التدميرية للحروب، وتأثيراتها القاتلة في كل ما له علاقة بالضرورة الحياتية للإنسان، وحقوقه الطبيعية، وتلك اللصيقة بشخصه، بصفته كائناً بشرياً و كائناً مجتمعياً، والتي دعت إلى حمايتها واحترامها الأديان السماوية ومنظومة الأعراف السائدة والنظريات الاجتماعية بأبعادها الإنسانية والأخلاقية. إن نتائج الصراعات والحروب المسلحة، بشكل خاص، جعلت البحث يدور حول وضع قواعد للحرب، وتحديد الضوابط التي تحكم أداء من ينخرط فيها، بغية الحد ما أمكن من انعاكساتها السلبية على الإنسان.

 

        من هنا، فإن فكرة إيجاد نظام قانوني دولي لضبط نتائج الحروب لم يكن ترفاً قانونياً، لسد نقص في المنظومة القانونية العامة، بل جاءت نتيجة الحاجة والضرورة الماستين اللتين أملتهما  سلوكيات تجاوز خروج المتحاربين عن قواعد الأخلاق وضوابطها، والحؤول دون إقدام المتحاربين أو تماديهم في ارتكاب جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي تتجاوز حالة الضرورة في حدودها الضيقة.

 

        على هذا الأساس، سنّت أحكام القانون الدولي الإنساني لتوصيف الجرائم الحرب وما يندرج تحت هذا التوصيف،وحددت أشكال انتهاك حقوق الإنسان في أوقات الحرب، ووضع الأحكام الأساسية  لحماية الإنسان في زمن الحرب، والمساءلة القانونية لمن يثبت انتهاكه للقانون  الدولي الإنساني.

 

        ولما كانت القاعدة القانونية العامة تنص على شرعية الجرائم والعقوبات، بمعنى أن لا جريمة دون نص، ولا عقوبة دون نص، جاء القانون الدولي الإنساني، بقواعده الآمرة ككل قانون، وجاءت أيضاً العدالة الجنائية عبر محاكمها العامة والخاصة لمحاكمة مجرمي الحرب، وكل من ثبت انتهاكه لأحكام القانون الدولي الإنساني، ليشكلا منظومة قانونية ردعية متكاملة، بحيث باتت المحاسبة والمساءلة القانونيتان حقيقة واقعة، ولم يعد باستطاعة أحد أن  يتملص من العقوبة والمساءلة والملاحقة القانونية إذا ثبت انتهاكه لأحكام القانون الدولي الإنساني.

 

          وفي هذه الأطروحة، سنسلط الضوء على نشأة القانون الدولي الإنساني، وتطوره، وعلى العدالة الجنائية الدولية، كعامل ردعي ومحاسب لمن يثبت اختراقه وانتهاكه لأحكام هذا القانون، وصولاً إلى مجتمع إنساني أكثر عدلاً، وأكثر احتراما وصيانة لحقوق الإنسان.

 

منهجية الأطروحة:

 

في هذه الأطروحة التي تناولنا فيها القانون الدولي الإنساني والعدالة الجنائية، نشأةً وتطوراً،اعتمدنا في مقاربة البحث، المنهج التاريخي،والمنهج المقارن.

 

فالمنهج التاريخي مكّننا من دراسة الظاهرة القانونية من خلال الوقوف على تطور المجتمع البشري عبر تعاقب المراحل التاريخية التي برزت  فيها الظواهر المتعلقة بالاتجاهات العامة لتطور الإنسانية على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقضائية ، وبدون ذلك ليس بالإمكان مواكبة المسار العام لهذه الظاهرة منذ بداية تكوينها الجنيني في رحم المجتمعات البشرية وتبيان العوامل التي تأثرت بها وصولاً إلى الحالة الحاضرة.

 

وإضافة إلى هذا المنهج التاريخي كان المنهج المقارن ضرورياً لدراسة هذه الظاهرة لأن معطياتها الأولية لم تتكون في بيئة مجتمعية واحدة،بل نمت  في عدة بيئات، وإن كان ذلك  بوتائر تطور مختلفة.وهذا ما اقتضى اعتماده لمقاربة موضوع هذه الأطروحة من خلال المقارنة بين مختلف النظريات والمدارس التي تناولت موقع القانون الإنساني في إطار المنظومة القانونية الجنائية العامة،أو موقع العدالة الجنائية من النظام القضائي الذي تطور مع التطور الذي طرأ على التنظيم الدولي.

 

إشكالية الأطروحة :

 

إن ثلاث إشكاليات واجهت ،وما تزال تواجه حسن انتظام تطبيق أحكام المنظومة القضائية الدولة وخاصة في شقها الجزائي.

 

الإشكالية الأولى، هي التنازع، الإيجابي أو السلبي ،حول الاختصاص المنعقد لكل من المنظومات القضائية الجزائية الوطنية،والقضاء الجزائي الدولي. ففي ظل وجهتي نظر تتجاذبان الموضوع، حول ثنائية القانونين أو وحدتهما،كان لا بد من البحث عن طريق ثالث، يقدم حلاً لهذه الإشكالية، سواء لجهة التنازع حول الإختصاص أم لجهة النظر إلى موضوع السيادة الوطنية في إطار منظومة العلاقات الدولية. وقد خلصنا إلى تقديم رؤية تقيم التوازن بين النظريتين بغيّة تأمين شروطاً أكثر ملاءمة لحسن سير العدالة الدولية ومحاكمة من يثبت انتهاكه لأحكام القانون الدولي الإنساني.

 

أما الإشكالية الثانية، فهي إشكالية التأثير السياسي في القضاء الدولي لأن تشكيل المحاكم الدولية الخاصة والمختلطة خاضع لقرار دولي، وأيضاً الإحالة إلى هذه المحاكم ،فهل يمكن القول إن آلية التشكيل والتنفيذ تتم بمعزل عن التأثير السياسي ؟

 

لقد تبيّن لنا أن التأثير السياسي كان شديد الوضوح في كل الإجراءات التي واكبت الحراك الدولي لإخراج المنظومة القضائية الدولية من حالة المخاض إلى واقع الولادة.وهذا التأثير السياسي تجلى من خلال المعوقات التي أخرت إطلاق المحكمة الجنائية الدولية لفترة استمرت لأكثر من أربعة عقود،مع عدم شمولية الإنضمام الدولي إلى نظامها الأساسي.

 

وإذا كان التأثير السياسي يبدو جلياً،من خلال الدور الذي يضطلع به مجلس الأمن في تشكيل المحاكم ونظام الإحالة،فهل يمكن قيام منظومة قضائية تمارس دورها بمعزل عن التأثيرات السياسية الدولية في ظل نظام دولي تتفاوت فيه عناصر التأثير بين أطرافه؟ ثم أليس بإمكان خمس دول فقط تملك حق النقض إزاء القرارات الدولية أن تحول دون مقاضاتها استناداً إلى ميزة حق النقض الممنوح لها إذا ما ارتكبت واحدة منها جريمة يحق للقضاء الجزائي الدولي النظر فيها؟

إن منطق الأمور يفضي للقول بأنه، في عالم تحكمه المصالح، ليس بإمكان أحد أن يقبل مقاضاة نفسه، وبالتالي تكون ازدواجية المعايير التي يعمل به في إطار العلاقات الدولية سبباً لتطبيق القانون على  الضعيف دون القوي مما يشكل خرقاً لمبدأ المساواة كمبدأ سامٍ نصت عليه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فكيف في هذه الحالة  حيث يُعمل بنظام قضائي دولي يمارس دوره بمعزل عن التأثير السياسي؟ هذا ما حاولنا الإجابة عليه في متن الأطروحة.

أما الإشكالية الثالثة، فمرتبطة بجريمتي العدوان والإرهاب. ومع أن هاتين الجريمتين شديدتا الوضوح لجهة وقائعهما فإن السجال ما زال قائماً حول تعريفهما .وهذا ما دفعنا للمقاربة بينهما من خلال إبراز عناصر التأثير الفعلية التي تحول حتى الآن من جعل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية منعقداً للنظر فيهما وهذا يدعو إلى إيجاد حل يجب اعتماده لمحاكمة من يثبت ارتكابه جريمة  عدوان أو إرهاب، بعيداً عن تأثير الإسقاطات السياسية.

 

 

 

تقسيم الأطروحة:

         

إن هذه الأطروحة مكونة من بابين، الأول يتناول القانون الدولي الإنساني في فصول أربعة:

الفصل الأول: ماهية القانون الدولي الإنساني وطبيعته.

الفصل الثاني: مبادئ القانون الدولي الإنساني وأشخاصه.

الفصل الثالث: الأحكام الأساسية للقانون الدولي الإنساني.

الفصل الرابع: اتفاقية جنيف لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيان لعام 1977 والتطبيقات العملية للقانون الدولي الإنساني ( أنموذجا فلسطين والعراق).

 

أما الباب الثاني فيتناول العدالة الجنائية، وهو موزع على أربعة فصول:

الفصل الأول: مفهوم العدالة الجنائية.

الفصل الثاني: التطور التاريخي للعدالة الجنائية.

الفصل الثالث: أنواع المحاكم الجزائية الدولية واختصاصاتها.

الفصل الرابع: نحو تكاملية بين القضاءين الجزائي الوطني والدولي.



([1])      محمد عزيز شكري، تاريخ القانون الدولي الإنساني وطبيعته، دراسات في القانون الدولي الإنساني. دار المستقبل العربي ، القاهرة،2000  ، ص 11.