| ||
يثير الحديث عن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان بشكل عام والقانون الدولي الإنساني بشكل خاص قضية التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان، وهي القضية التي أخذت حيزاً كبيراً من الاهتمام في ظل النظام العالمي الجديد . ورغم أن التحليلات السياسية قد درجت على النظر إلى الاهتمام الواسع بمبدأ التدخل الإنساني لحماية حقوق الإنسان باعتباره تطوراً جديداً على الساحة الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة، إلا أن جذور هذا المبدأ في الحقيقة تعود إلى أواخر الأربعينات، حيث دخل مفهوم الجرائم ضد الإنسانية إلى القانون الدولي عقب محاكمات نورمبرغ، التي حاكمت قادة النازية في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية . وبموجب هذا المفهوم، أصبحت مسألة التدخل لحماية حقوق الإنسان والأقليات جزءاً من القانون الدولي، وتم إدراجها فعلياً من خلال ميثاق مناهضة جرائم الإبادة الجماعية لعام 1948 ، وميثاق جنيف الخاص بقوانين الحرب لعام ،1949 لكن المتغيرات الدولية في فترة الحرب الباردة حالت دون تطبيق هذه المبادئ والقواعد القانونية .
ولكن مع انتهاء الحرب الباردة، أصبحت الساحة الدولية مهيأة لنشوء توافق سياسي عام بين القوى الدولية الكبرى حيال مبدأ التدخل الإنساني، بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما أتاح للولايات المتحدة السيطرة على مجلس الأمن لاستصدار قرارات تجاه القضايا والصراعات الدولية . وحتى في الحالات التي تعذر فيها استصدار قرارات من مجلس الأمن، مثل حالة كوسوفو، فإن الولايات المتحدة وحلف الناتو بادرا بالتدخل عسكرياً، من دون غطاء قانوني دولي .
ومن ناحية أخرى، أكدت تطورات ما بعد الحرب الباردة على أهمية مبدأ التدخل الإنساني، حيث تواصلت انتهاكات حقوق الإنسان في أنحاء متفرقة من العالم، وكانت بعض النظم الحاكمة أقسى على شعوبها من أي احتلال أجنبي، كما أن بعض الصراعات تفاقمت إلى مستويات بالغة، وهو ما استغله البعض لتبرير التدخل الخارجي لوقف القمع أو الصراعات الداخلية .
ان تطور منظومة العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب الباردة انطوى على توسيع نطاق التدخل، بحيث باتت هناك عدة أشكال لهذا التدخل هي:التدخل العسكري لمساعدة دولة حليفة أو صديقة بموجب معاهدة أو اتفاقية دفاعية مشتركة، والتدخل لتلبية دعوة من طرف شرعي وطني في الدولة، والتدخل لحماية أرواح وممتلكات دولة معينة إذا ما تعرضت للتهديد في دولة أخرى، والتدخل لاعتبارات إنسانية لحماية مواطني دولة أو أقلية معينة تتعرض لانتهاكات حقوق الإنسان .
ولكن التطبيق العملي لهذا المبدأ شابه العديد من الاختلالات ، أبرزها استمرار غياب التوصيف الموضوعي الدقيق للمعايير التي يمكن وفقاً لها اعتبار تطور ما جريمة ضد الإنسانية أو انتهاك لحقوق الإنسان والأقليات، إضافة إلى الانتقائية الشديدة في تنفيذ مبدأ التدخل الإنساني، بحيث كان هذا التدخل في جميع الحالات الماضية مرتبطاً - ولو بمقادير متفاوتة - بالمصالح المباشرة للقوى الدولية المعنية . كما أن نطاق هذا التدخل لم يكن واضحاً، بحيث تحوّلت قوات التدخل الدولية في بعض الحالات إلى طرف في الصراع ما أدى إلى تحويل هذا المبدأ إلى حجة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول التي تشهد صراعاً داخلياً أو تمرداً من جانب أقليات معينة .
كما تجاهلت القوى الدولية حالات أخرى شهدت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والأقليات والشعوب، وكان التجاهل الدولي عائداً إما إلى وجود مصالح قوية بين حكومات الدول التي تشهد انتهاكا لحقوق الإنسان والأقليات وبين حكومات الدول الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة، أو إلى خشية الولايات المتحدة بالذات من استثارة غضب الحكومات المتورطة في الصراع . وقد برز هذا التناقض واضحا في أن الولايات المتحدة تجاهلت الأمم المتحدة في الكثير من الحالات، وبالذات في حالة التدخل الأطلسي في كوسوفو، وهو ما دعا الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان إلى التشديد على ضرورة وضع ضوابط متفق عليها سلفاً لمعالجة الحالات التي تستدعي تدخلاً إنسانياً دولياً، بما في ذلك ضرورة التعامل بسرعة مع تطورات الصراع في بعض المناطق، التي تشهد تدهوراً سريعاً لأوضاع حقوق الإنسان، ما يتطلب تسريع آلية اتخاذ القرارات داخل الأمم المتحدة وفق ضوابط محددة ومتفق عليها .
وفي ظل هذه التعقيدات، نشب جدل دولي بشأن مبدأ التدخل الإنساني، وتبلورت في إطار هذا الجدل ثلاثة تيارات رئيسة على الشكل التالي: التيار الداعي إلى توظيف مبدأ التدخل بوصفه أداة لخدمة مصالح القوى الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة وبريطانيا، ويكون الاهتمام بالتدخل هنا مدفوعا في الأساس بمصالح الدول الكبرى وقائمة الأوليات الخاصة بها .والتيار الداعي إلى الحفاظ على سيادة الدول المستقلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أيا كانت الحجج الكامنة وراءه . وهو موقف العديد من دول عالم الثالث، بحجة أن سيادة الدولة تعتبر أهم مبدأ في التنظيم الدولي والعلاقات الدولية المعاصرة . والتيار الداعي إلى ترشيد مبدأ التدخل الإنساني، بحيث يتم الاعتراف به وقبوله، ولكن مع وضع ضوابط وتدابير كفيلة بضمان موضوعية تطبيقه .
كما أن قضية التدخل الإنساني تظل واحدة من القضايا الأكثر تعقيداً في العلاقات الدولية المعاصرة، ومن الصعب الوصول إلى إجابات محددة بشأنها، وهو ما دعا العديد من دول العالم الثالث، إلى المطالبة بإجراء حوار دولي موسع يتسم بالصراحة والوضوح حول قضايا السيادة والتدخل الإنساني .
|