19‏/02‏/2008

تقرير تقصي الحقائق بين القانون والسياسة

تقرير تقصي الحقائق بين القانون والسياسة د.خليل حسين
أستاذ المنظمات والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
لا شك بأن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لها من الابعاد والخلفيات ما يجعلها جريمة سياسية من الطراز الاول وعملا لا يمكن السكوت عليه باعتباره فعلا تفوق تداعياته طاقة لبنان على تحمله،ومن هذا المنطلق ينبغي المضي في التحقيق بأكبر قدر من الجدية من كافة جوانبه،الا ان حجم ودور الرئيس الحريري في الحياة السياسية اللبنانية والاقليمية والدولية جعل من هذه القضية تأخذ ابعادا خارجية ضخمة ستزيد من تعقيدات الموضوع وتداعياته على الوضع اللبناني والاقليمي برمته.
وبصرف النظر عن التوصيف والتكييف القانونيين لأحقية مجلس الامن في انشاء لجنة لتقصي الحقائق او لجنة تحقيق وفقا للموضوع المثار بشأن جريمة اغتيال الرئيس الحريري، ،فان ما اتى به التقرير يثير العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام التي ينبغي القاء الضوء عليها،باعتبارها ستؤثر بشكل مباشر على سياق عمل لجنة التحقيق الموصى بها في التقرير،ومن هنا يمكن تسجيل بعض الملاحظات في الشكل والمضمون منها:
- ثمة هواجس كثيرة وشبهات حامت حول تسريب مضمون التقرير قبل نشره،وهذا ما يمكن تأكيده عبر مقاربة بعض تصريحات المعارضين اللبنانيين قبل النشر وبعده،ما يخالف مبدأ السرية الواجب اعتماده في مثل هذه الحالات.
- لقد نشر الملخص التنفيذي للتقرير من دون الملاحق التي يمكن ان تعتبر اهم بكثير مما ورد في الملخص،اذ ان الاخير لا يشكل سوى سبعة بالمئة من حجم التقرير الاساسي"عشرون صفحة من اصل ثلاثماية" كما بات معروفا.وعلى الرغم من امكانية الاعتداد بعدم اهمية الحجم لجهة المنشور، الا ان الصيغة الانشائية للتقرير تؤكد اعتماد واضعيه على الاستدلال والقياس كمنهج للوصول الى استنتاجات محددة لبعض القضايا التي تطرحها جريمة الاغتيال ما يعطي اهمية فارقة للملاحق غير المنشورة والتي بدورها تحتوي على العناصر الاساسية التي اعتمدت في الاستدلال والقياس.
- لقد تم تأخير نشر التقرير بعض الوقت وبُرَرَ ذلك باتصالات تمت بالجهات اللبنانية والسورية لأطلاعها على مضمون التقرير لما تضمن من "صياغات غير دبلوماسية" ما يوحي بتصرف غير بريء من قبل الامين العام الامم التحدة، ومن الممكن ان تكون متصلة بمساومات معينة ما استدعى الرئيس اللبناني التأكيد وبلهجة حاسمة دعوة الامم المتحدة العمل على كشف الحقيقة أيا تكن الجهة التي خططت ونفذت الجريمة.
وفيما يتصل بمضمون التقرير فيمكن ابراز بعض الثغرات التي تبدو الى حد كبير مقصودة بهدف اخذ التقرير الى اتجاهات محددة سلفا ويمكن تسجيل التالي:
- الاعتماد بشكل اساسي على البيئة السياسية اللبنانية بكل تفاصيلها والاستناد على تصريحات ومواقف سياسية محط خلاف بين اللبنانيين وبالتالي من الصعب الركون اليها كقرائن حاسمة لتحديد استنتاجات محددة كالتي ذكرت في التقرير.مثال اتخاذ التقرير مواقف المعارضة من سوريا والبناء عليها لتحميل سوريا ايجاد البيئة السياسية المتوترة في لبنان قبل جريمة الاغتيال ،كما ورد في الفقرة (61)،وكذلك موقع لبنان في الصراع العربي الاسرائيلي كما ورد في الفقرة(6) " خدم لبنان مراراً كساحة مواجهة لأطراف الصراع العربي الإسرائيلي، مع تأثير مدمر على وحدته الوطنية واستقلاله".وكذلك الفقرتان(9) و(10) بخصوص التهديد بالاذى الجسدي للرئيس الحريري والنائب وليد جنبلاط.
- وعلى الرغم من ايراد التقرير لكلمات تعبر عن دقة التوصيف بهدف الجزم في بعض القضايا تعود صيغة بعض الجمل في التقرير لتبرر اجراءات وتوصيات ستتخذ لاحقا،فمثلا ورد " ان وجهة نظر البعثة" الفقرتان (60و61)،و" كان واضحا للبعثة"الفقرة(62)،" ان استنتاج البعثة" الفقرة (63)، وفي المقابل ورد في الفقرة الثانية لديباجة الملخص "لا يمكن تأكيد "الأسباب" المحددة لاغتيال السيد الحريري بشكل يعتمد عليه".
- لقد خرجت البعثة الدوليةعن نطاق صلاحياتها لجهة تحديد الآلية التي ينبغي انشائها لاحقا،وهي في الاصل من مهمة مجلس الامن الدولي وليس بعثة تقصي الحقائق.فالفقرة السادسة من مقدمة التقرير "بات واضحاً للبعثة أن عملية التحقيق اللبنانية تعاني من عيوب خطيرة وليست لديها لا القدرة ولا الالتزام بالتوصل إلى استنتاجات مرضية وذات مصداقية. لنعثر على الحقيقة، سيكون من الضروري أن نولي التحقيق إلى بعثة دولية مستقلة" فقد اسندت اللجنة لنفسها مهمة العثور على الحقيقة وضرورة التحقيق عبر بعثة دولية وهو بطيسعة الامر موقف مسبق بصرف النظر عن افجوات التي تعتري عمل الاجهزة الامنية.
- لم يكتف التقرير بالتوجيه المقصود لاتجاهات التحقيق مستقبلا،بل خرج عن الاصول القانونية والاعراف المتبعة في القانون الدولي لجهة مهام تقصي الحقائق،اذ توصل الى حد ابداء الاقتراحات والتوصيات والبناء عليها للاستنتاج بأن استقامة الامور الداخلية اللبنانية تتطلب اجراءات تنفيذية،وهذا ما ورد في الفقرة(63) "وبناء على مراجعة البعثة للتشكيل الحالي للهرمية اللبنانية، فإن ستة مجالات رئيسية حددت كأولويات للاصلاح الامني".
اما لجهة التوصيف القانوني للتقرير، فمن حيث المبدأ لا يعتبر اكثر من حالة وصفية لاسباب وظروف ونتائج الجريمة، وباعتباره صادرا عن لجنة لتقصي الحقائق فهو ملزم لمن كلفها أي مجلس الامن الدولي،وبما ان هذه اللجنة تألفت بناء على توصية عبر بيان رئاسي لمجلس الامن وليس عبر قرار فان أي إجراء تنفيذي منوط بمجلس الامن تحديدا، فالتقرير وفقا لذلك ليس ملزما للبنان قانونا بقدر ما يشكل التزاما ادبيا كغيره من الالتزامات الدولية المتعارف عليها في القانون الدولي.الا ان تضمين البيان الرئاسي في فقرته الثالثة للقرارين الصادرين عن مجلس الامن 1373 لعام 2001و1556 لعام 2004 يظهر نية المجلس في الاساس الاتجاه للجوء الى الفصل السابع من ميثاق الهيئة أي تنفيذ ما يمكن ان يتوصل اليه لاحقا بالقوة في حال رفض لبنان التعاون.
ومن الناحية القانونية ايضا ان مجلس الامن سيلتزم بتوصية التقرير لجهة انشاء لجنة تحقيق دولية تحدد صلاحيتها وفقا لقرار صادر عنه،الا في حالة وضع احدى الدول الدائمة في مجلس الامن لحق النقض"الفيتو" كروسيا او الصين،الا ان امتناعهما عن التصويت لا يعرقل صدور القرار بتأليف اللجنة.وقياسا على السوابق التي جرت فيما يتصل بحالة كل من كوسوفو وراوندا فإن لجنة التحقيق ستكون مقدمة لانشاء محكمة جنائية خاصة.
ثمة صعوبة بالغة لفهم خلفيات التقرير وتداعياته مستقبلا من دون المقاربة السياسية التي احاطت به، وبالتالي ان القراءة القانونية ليست كافية لتحديد مسارات لجنة التحقيق مستقبلا،ويظهر ذلك في بعض الملاحظ\ات منها:
- ان مشروع الشرق الاوسط الكبير يعتبر عصب السياسية الخارجية الامريكية في الوقت الراهن،وقد هيأت له الظروف العسكرية باحتلال افغانستان والعراق،وقبلها بانتشار عسكري واسع على مستوى عالمي (آسيا واوروبا وافريقيا) ولم يبق سوى المثلث اللبناني السوري الايراني،وقد اتت عملية اغتيال الرئيس الحريري لتخدم التوجه الامريكي الاسرائيلي في هذا المجال باعتباره عارض التوطين الفلسطيني،كما كان عاملا اساسيا في الوحدة الوطنية اللبنانية عبر حماية المقاومة دوليا،وهذا ما يعرقل الركن الاساسي في اعادة تركيب الجغرافيا السياسية للمنطقة.
- لقد مهدت واشنطن البيئة القانونية للاستثمار السياسي لاغتيال الرئيس الحريري،عبر حزمة قانونية اميريكية ودولية بدءا من قانون محاسبة سوريا مرورا بالقرارات الدولية 1373و1559و1556 وانتهاء بمشروع قانون تحرير لبنان وسوريا الذي اقر في الكونغرس الامريكي منتصف الشهر الحالي،والذي سيكون موضع التنفيذ في ايار القادم بربطه بآاليات تنفيذية عبر مجلس الامن الدولي وباطر متابعة اقليمية في المنطقة لمعالجة ملفات الاسلحة غير التقليدية والارهاب والذي سيكون لاسرائيل دور بارز فيها.
- وبالعودة الى التقرير الذي يعتبر مضبطة اتهام سياسية اكثر مما هي قانونية لكل من لبنان وسوريا باغتيال الرئيس الحريري، يلاحظ ان بعض الفقرات الواردة فيه هي قابلة للتأويل والاستثمار السياسي الواضح في مسار المرحلة المقبلة وبما يخدم الاهداف السالفة الذكر،وهي بطبيعة الامر ليست شرعية ولا قانونية ولا حتى منطقية،فالاستناد الى البيئة السياسية التي سبقت جريمة الاغتيال لا تشكل ركنا من وجهة نظر القانون الدولي لتوصيف جريمة معينة بغياب الادلة الحسية والمادية،والا على نفس القاعدة والمنطق يمكن اعتبار الولايات المتحدة الامريكية مسؤولة هي نفسها عن احداث 11 ايلول 2001 لما ارتكبت من ممارسات دولية ادت الى ايجاد بيئة سياسية مناهضة لها.
- كما ان التقرير سيؤسس لسوابق خطيرة جدا على ما تبقى من مفهوم سيادات الدول في ظل النظام الدولي الراهن،وذلك من خلال ما اتى في الفقرة السادسة بالطلب للجنة تحقيق " مع التفويض التنفيذي الضروري لإجراء تحقيقات وعمليات تفتيش وغيرها من المهام ذات الصلة" فاي مستوى من التحقيقات واي تفتيش ستصل اليه لجنة التحقيق، سيما وان التقرير ذكر فشل اللجنة في اللقاء مع الرئيس السوري لاستيضاحه في امر تهديد الرئيس الحريري، فهل سنكون امام لجنة "انموفيك" جديدة كما حدث في العراق؟
- ان اخطر ما تضمنه التقرير جاء في الفقرتين (63)و(64) في معرض اعادة هيكلة القوى الامنية في لبنان "وهو ما يتطلب بالضرورة مساعدة ومشاركة فعالة من جانب المجموعة الدولية" وهي عودة لتكرار سيناريو العام 1982 بكل تداعياته بدء من قوات متعددة بمبررات متنوعة وصولا الى نقل لبنان من مكان سياسي الى آخر.
ان مواجهة مثل تلك التحديات الكبيرة تتطلب دقة كبيرة في اتخاذ المواقف،فلبنان كما سوريا باتا في عين العاصفة،وهذا الكلام ليس من باب التهويل،انما الامر يتطلب مواقف جريئة ومدروسة،واننا نقترح التالي:
- قبول لبنان رسميا وبشكل واضح التعاون مع أي اطار يقترحه مجلس الامن،وهذا ما اوحى به تصريح الرئيس اميل لحود.
- قيام الدبلوماسية اللبنانية بايجاد بيئة مناسبة لتحرك فاعل في اطار الامم المتحدة لمواكبة المستجدات، كما ينبغي وقوف لبنان باصرار على تتبع أي اطار سيتخذ في مجلس الامن عبر مشاركته الفعالة في مناقشات مجلس الامن وهوحق مكفول له بموجب الميثاق لا سيما المادتين(31)و(32).
- البدء باجراءات تنفيذية تكفل تسريع التحقيق اللبناني في جريمة الاغتيال بصرف النظر عن التحقيق الدولي وهو امر لا يتعارض مع الاعراف والقوانين الدولية من جهة، وامر من شأنه الالتفاف على أي انحراف لعمل لجنة التحقيق المنوي انشاؤها من جهة اخرى، وهذا ايضا ما يخفف هواجس قسم من اللبنانيين لجهة الشك بحيادية عمل المنظمة الدولية.
- البدء في اجراءات تنفيذية تكفل ازالة ادعاءات لجنة تقصي الحقائق لجهة البيئة الامنية الداخلية والشبهات التي اثارها التقرير حول التقصير من قبل الاجهزة الامنية او غيره من الامور.
ان كشف حقيقة جريمة الاغتيال شرط لدعائم الوحدة الوطنية اللبنانية،الا انه بات شرطا غير كاف لدرء الفتنة وعوامل التفجير الداخلي،وثمة شرط آخر يبدو اكثر الحاحا وهو كشف الاسباب الحقيقية لجريمة الاغتيال من خلال تغييب المشروع السياسي الذي رفعه الرئيس الشهيد. ثمة اسئلة كثيرة من الصعب الاجابة عنها بشكل دقيق قبل كشف المستور في دوائر وزارات الخارجية للدول المعنية بالمنطقة،فهل سيكرر التاريخ نفسه بوقائعه ونتائجه وتتطابق خلفيات اغتيال كل من الرئيس الحريري وولي عهد النمسا لجهة اشعال منطقة بأكملها لاعادة انتاج جغرافيا سياسية جديدة؟!