19‏/02‏/2008

منظمة حقوق الإنسان

منظمة حقوق الإنسان
وازدواجية المعايير في كشف الانتهاكات

د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني

في العاشر من كانون الأول / ديسمبر 1948 صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أي ثمانية وخمسون عاما بالتمام والكمال،ورغم هذا العمر المديد لم تتحول المنظمات المعنية بمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان إلى منظمات فاعلة في عملها بل باتت في أحيان كثيرة أدوات مكشوفة لإخفاء جرائم وانتهاكات فاضحة بحق شعوب بأكملها،سيما وأن العديد من المنظمات غير الحكومية باتت أسيرة أنظمة تدّعي الديموقراطية وتشن حروبا شعواء بحجة حماية حقوق الإنسان وما يتفرع عنها من عناوين برّاقة.وغريب المفارقات في هذا الأمر ما تدّعيه بعض المنظمات التي تعتبر نفسها رائدة في مجال مراقبة حقوق الإنسان مثل "منظمة العفو الدولية" أو "منظمة مراقبة حقوق الإنسان"في حياديتها ونزاهة عملها في وقت باتت بعيدة كل البعد عن هذه المعايير.فماذا عن هذه الأخيرة وكيف تعمل وما هي الخلفيات التي تقف وراءها؟وما هو واقع حقوق الإنسان في ظل النظام العالمي القائم حاليا؟.

من هي منظمة حقوق الإنسان
تعتبر منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" أكبر منظمة معنية بحقوق الإنسان ويقع مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ويقوم الباحثون فيها بإجراء تحقيقات لتقصي الحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان في مختلف دول العالم، وتنشر المنظمة نتائج تلك التحقيقات في عشرات من الكتب والتقارير كل عام، بهدف إثارة تغطية واسعة في أجهزة الإعلام المحلية والعالمية. وتهدف هذه الدعاية أيضا إلى إحراج الحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان أمام مواطنيها وأمام العالم. كما تلتقي منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" مع مسؤولي الحكومات لحثهم على إجراء تغيير في السياسات والممارسات، سواء من خلال الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي وغيرها من عواصم العالم. وعند الضرورة القصوى، تدعو المنظمة إلى سحب الدعم العسكري أو الاقتصادي من الحكومات التي تنتهك حقوق شعوبها انتهاكاً سافراً.
بدأت منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" نشاطها عام 1978، وكانت تسمى آنذاك "لجنة مراقبة اتفاقيات هلسنكي"، إذ كانت مهمتها رصد امتثال دول الكتلة السوفيتية للأحكام المتعلقة بحقوق الإنسان في اتفاقيات هلسنكي البارزة. وفي الثمانينيات من القرن الماضي تمَّ إنشاء "لجنة مراقبة الأمريكتين"، لبيان أن انتهاكات حقوق الإنسان التي يقترفها حلفاء الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى ليست أهون أو أقل سوءاً من الانتهاكات المرتكبة في سائر أنحاء العالم. ثم تطوّرت المنظمة لتغطي أجزاء أخرى من العالم، إلى أن تمَّ توحيد كل لجان "المراقبة" في عام 1988 فيما أصبح ما يعرف بمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان".
يقع مقر منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" في نيويورك، ولها مكاتب في كل من بروكسل ولندن وسان فرانسيسكو وموسكو وهونغ كونغ ولوس أنجلوس وواشنطن. وكثيراً ما تقوم المنظمة بإنشاء مكاتب مؤقتة في المناطق التي تُجري فيها تحقيقات مكثفة، ويسافر باحثوها بصفة دورية إلى البلدان التي يغطونها، ما لم تحُل دون ذلك أسباب أمنية. وتغطي منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" التطورات التي تحدث في أكثر من 70 دولة في شتى أنحاء العالم. وتشمل القضايا التي تُعنى بها حقوق المرأة وحقوق الطفل وتدفق الأسلحة إلى القوات التي ترتكب الانتهاكات، ومن المشروعات الخاصة التي تهتمُّ بها المنظمة قضايا الحرية الأكاديمية، ومسؤوليات المؤسسات التجارية عن حقوق الإنسان، والعدالة الدولية، والسجون، والمخدرات، واللاجئين. وقد تجد بعض الأطراف أو كلها في سياق صراع ما أنها موضوع التحقيقات التي تجريها منظمة "مراقبة حقوق الإنسان".
لقد ألقت المنظمة الضوء على بعض الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومات أو المتمردون، مثل الهوتو والتوتسي، والصرب والكروات، ومسلمي البوسنة، وألبان كوسوفو، والمسيحيين والمسلمين في جزر إندونيسيا وصحاري السودان ورغم ذلك فقد غضت النظر عن الكثير من الانتهاكات التي قامت بها إسرائيل ضد العرب بشكل عام والفلسطينيين واللبنانيين بشكل خاص . وكثيراً ما تدعو المنظمة الولايات المتحدة إلى دعم حقوق الإنسان في مجال سياستها الخارجية، ورغم ذلك لا تشير إلى انتهاكات حقوق الإنسان داخل الولايات المتحدة إلا لماما كأحوال السجون، والانتهاكات التي ترتكبها الشرطة، واعتقال المهاجرين، وعقوبة الإعدام وخصوصاً إعدام الأحداث الجانحين والمتخلفين عقلياً.
أسلوب العمل
الاعتماد الأكبر في نشاطات المنظمة يقوم على "تقصي الحقائق"، فبناء على حصيلة هذا الجهد يمكن تحديد الخطوة التالية، التي غالبًا ما تكون تقريرًا خاصًّا ببلد من البلدان أو حالة بعينها،كما تأتي الحملات الإعلامية وحملات الرسائل والبيانات التي تطالب السلطات المعنية بما تطالب به المنظمة بشأن المعتقلين، كما تطالب جهات أخرى بممارسة الضغوط على تلك السلطات، إضافة إلى الاتصال المباشر عن طريق وفود تطلب الالتقاء بالسلطات وطرح قضايا محدّدة عليها؛ وكثيرًا ما يكون التركيز على بلد معين أو على قضية ما في البلد المعني عن طريق "الحملة" التي تجمع عدة فعاليات في وقت واحد، من تقارير ووفود ورسائل واحتجاجات وغيرها.
وأضافت المنظمة حاليًا صورًا أخرى لممارسة نشاطاتها، مثل: دعم ما تطلق عليه "برامج تعليم حقوق الإنسان"، والإسهام في وضع معايير يجري الاتفاق عليها دوليًّا وتدخل في القوانين الوطنية الخاصة بحقوق الإنسان، بخاصة ما يرتبط بملاحقة الرأي الآخر، وقد ترك بعض ذلك نتائجه في التأثير مثلاً على صياغة النظام الأساسي للمحكمة الجزائية الدولية وهي في طور التأسيس.
ويؤكِّد المسؤولون في المنظمة الحرص على الاستقلالية والحياد، وهو ما تعللّ به امتناعها عن أخذ دعم مالي من أي جهة رسمية، بما في ذلك الدعم الذي تجيزه القوانين في بعض البلدان لصالح منظمات ونشاطات مستقلة عن الحكومات، كما يمنع نظامها صرف أي مبلغ أو شيء له قيمة مالية، لصالح أي عضو فيها، على سبيل الهدية أو التنازل أو نقل الملكية أو ما شابه ذلك، إلا في حالة دفع أجر أو مرتب عن عمل محدّد.
وإلى جانب ذلك تتبنَّى المنظمة حملات أخرى تتناول ظاهرة محددة لا تخصّ بلدًا معينًا، مثل التنبيه إلى شمول التعذيب للأطفال، أو مواجهة التجارة بأدوات تستخدم في تعذيب المعتقلين.
كما تزايدت نسبة حديث المنظمة عن انتهاكات حقوق الإنسان في بلدان غربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكيـة، وعلى صعيد معاملة المهاجرين واللاجئين والأجانب في أوروبا، وذلك لتأكيد الحياد والنزاهة؛ حيث اضطرت المنظمة لتناول هذه القضايا، خاصة بعد تعرّض مصداقيتها للاهتزاز في عدد من البلدان الإسلامية، نتيجة نوعية نشاطاتها خلال عقد التسعينيات في أجواء الترويج الأمريكي لشعار "الإسلام عدوّ بديل"؛ إذ صدرت سلسلة تقارير وحملات، كان معظمها موجهًا لبلدان إسلامية، استهدفتها السياسات الأمريكية كالسودان وسوريا ولبنان وإيران، أو تناولت جوانب لا تنسجم مع المعتقدات والتصورات الإسلامية، كمكافحة عقوبة الإعدام والحملة ضد الحدود في نظام العقوبات الإسلامي.
والواقع أن مشكلة المنظمة مع قضية الحياد والنزاهة، لا تكمن في عدد التقارير والمواقف ومحتوياتها والمواقع المستهدفة، فهذا ممّا تفرضه الوقائع والظروف السياسية في كثير من الأحيان، وإنّما تكمن في أمور أخرى، أبرزها:
- أنّ تصوّرات القائمين على المنظمة شأن معظم منظمات حقوق الإنسان خارج النطاق الرسمي، تنطلق تلقائيًّا من تصورات وإرث فكري وعقائدي ساهم مباشرة في تكوين الشخصية الغربية عبر القرون، فهم مع توفر أشدّ درجات الحماس لدعواتهم ومواقفهم، قد يصطدمون قاصدين أو غير قاصدين بتصورات ومعتقدات أخرى، لا سيما وأنهم ينطلقون في تحديد معاييرهم من بيان حقوق الإنسان العالمي، الذي يتفق في بعض الأحيان مع المعتقدات والتصورات البشرية عمومًا، ولكنه يتضمن أيضًا بعض ما لا ينسجم معها أو مع بعضها، وقد وُضع إجمالاً في حقبة كانت الكلمة الحاسمة فيها للغرب عقب الحرب العالمية الثانية.
- أنها كغيرها تتعرّض لمدِّها بمعلومات غير صحيحة، لا سيما عند اعتمادها في البلدان العربية والإسلامية مثلاً، على مصادر وأشخاص هم أقرب من غيرهم إلى تصوّراتها ومعاييرها في قضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن عزوف آخرين من تلقاء أنفسهم عن التعاون معها، ناهيك عن المشاركة في نشاطاتها، بدعوى المعايير المتباينة مع ثوابت إسلامية مثلاً.
- توظيف نشاطاتها وأعمالها وتقاريرها لتحقيق أغراض غير الأغراض التي استهدفتها في الأصل، وفق أساليب منحرفة معروفة تحت عناوين الازدواجية والانتقائية.

ازدواجية المعايير لانتهاكات إسرائيل بحق العرب
إن غريب المفارقات ما يظهر تحديدا في المنظمات الأهلية المختصة بحماية الحقوق الأساسية للإنسان،فعلى الرغم من أن جوهر وظائفها ومبرر وجودها وأسلوب عملها يقتضي وجوب الحيادية والنزاهة في العمل والتعاطي مع أطراف القضية الواحدة بموقف يكون على مسافة واحدة،نرى تضخيم الأمور فيما يتعلق بالقضايا العربية تحديدا،وغض الطرف عن الممارسات والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
فمنذ سنوات ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من منظمات المجتمع المدني وهي تطالب المجتمع الدولي بالتدخل الفاعل والجاد واتخاذ إجراءات عملية في مواجهة التحدي المستمر من جانب دولة إسرائيل وقوات احتلالها لقواعد القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، بهدف إجبارها على احترام التزاماتها التعاقدية حيال المدنيين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، تزايدت المطالب من جانب منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية والدولية بضرورة التدخل الدولي لحماية المدنيين الفلسطينيين، أمام التصعيد المستمر في جرائم الحرب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني (كما تحددها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب) التي تواصل قوات الاحتلال اقترافها ضد المدنيين الفلسطينيين. وتستند هذه المطالب المشروعة إلى:
- اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب والتي تنص المادة الأولى منها على أن "تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال." كما تضع المادة 146 من الاتفاقية التزامات محددة على الأطراف السامية المتعاقدة، بما في ذلك اتخاذ إجراءات تشريعية، لملاحقة المتهمين باقتراف مخالفات جسيمة وتقديمهم إلى المحاكمة أو تسليمهم لطرف ثالث متعاقد معني بمحاكمتهم.
- اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل التي تنص المادة الثانية منها على وجوب "أن تستند العلاقات بين الأطراف، وشروط هذه الاتفاقية ذاتها، إلى احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، والتي تقود سياساتهم الداخلية والخارجية، وتشكل عنصراً رئيساً من الاتفاقية.
- بالرغم من ذلك، كان هناك فشل مزمن من جانب المجتمع الدولي، خاصة الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة ودول الاتحاد الأوروبي، في الوفاء بالالتزامات القانونية المذكورة أعلاه. وشكل ذلك عاملاً مشجعاً لدولة إسرائيل (قوة الاحتلال الحربي) للإمعان في تحديها للقانون الدولي والتصرف كدولة فوق القانون تحظى بحصانة سياسية وقانونية خاصة، والمضي قدماً في جرائمها وانتهاكاتها ضد المدنيين الفلسطينيين بل وتصعيدها إلى مستوى غير مسبوق. إذ شملت هذه الجرائم والانتهاكات: الاستخدام المفرط للقوة وجرائم القتل العمد والإعدامات خارج إطار القانون؛ التوسع الاستيطاني وضم الأراضي والاستمرار في تدشين جدار الضم؛ تدمير الممتلكات المدنية؛ فرض العقوبات الجماعية بما فيها الحصار وفرض قيود مشددة على الحركة والتنقل؛ التعذيب وسوء المعاملة؛ وإنكار العدالة للمدنيين الفلسطينيين بما في ذلك حرمانهم من التعويض عن الجرائم التي تقترفها قوات الاحتلال بحقهم بل وعدم التحقيق في الآلاف من تلك الجرائم. وعلى مدى الأعوام الستة الماضية، أسفرت هذه الإجراءات عن أزمات إنسانية حادة وتدهور غير مسبوق في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمدنيين الفلسطينيين، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
- لقد كانت المطالب التي وجهتها منظمات المجتمع المدني إلى المجتمع الدولي (خاصة الأطراف السامية المتعاقدة على الاتفاقية والاتحاد الأوروبي) معقولة وفي نطاق الالتزامات القانونية الواقعة على تلك الأطراف. وعلى سبيل المثال، لم تتضمن المطالب الموجهة لدول الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على دولة إسرائيل، إنما تفعيل المادة الثانية من اتفاقية الشراكة ووقف الامتيازات الممنوحة لإسرائيل بموجب الاتفاقية حتى تذعن الأخيرة لالتزاماتها. ولم تكن المطالب الموجهة للأطراف السامية أكثر من دعوة لعقد مؤتمر لتلك الأطراف لمناقشة الخيارات التي من شأنها أن تجبر إسرائيل على احترام الاتفاقية، وكذلك العمل على ملاحقة المسئولين عن ارتكاب مخالفات جسيمة للاتفاقية.
لقد كان من المؤمل أن تجد هذه المطالب آذاناً صاغية وأن يبادر المجتمع الدولي لاتخاذ إجراءات عملية ضد دولة إسرائيل لضمان امتثالها لقواعد القانون الدولي.ولكن للأسف الشديد وبدلاً من معاقبة إسرائيل على جرائمها، تمَّ معاقبة الضحية، أي معاقبة الشعب الفلسطيني والمدنيين الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال الحربي الإسرائيلي.
وما ينطبق على الفلسطينيين ينسحب أيضا على اللبنانيين والعراقيين.فلبنان الذي عانى الأمرين من الانتهاكات الإسرائيلية وبخاصة ما يتعلق بالأسرى وحقول الألغام والقنابل العنقودية التي نشرت منها مليونا ومئتا ألفا في العدوان الأخير لا تجد صدى كافيا لدى منظمات حقوق الإنسان ،بل لوحظ في الفترة الأخيرة ظهور بعض البيانات التي تشير إلى هذه القضية في الوقت التي عمدت هذه الجهات نفسها إلى استصدار بيانات وتقارير تضخم المزاعم الإسرائيلية رغم تأكد عدم صحتها،ما يعزز الاعتقاد بخروج هذه المنظمات عن جوهر عملها.
كما لا تبدو الصورة مختلفة أو بعيدة عن حفلات الترف والمرح التي تقيمها قوات الاحتلال الأمريكي في سجني أبو غريب في العراق وغوانتنامو بحق المعتقلين حيث تمارس شتى صنوف التعذيب وفنونها وسط إشارات خجولة من بعض منظمات حقوق الإنسان التي لا ترقى إلى درجة الفعالية لمحاسبة من يقوم بها.
حقوق الإنسان في ظل النظام الدولي ألآحادي
ثمة العديد من الملاحظات التي يمكن أن تُساق في مجال تطبيق حقوق الإنسان في الدول المتقدمة والنامية بخاصة في ظل النظام الدولي القائم وأبرزها:
- إن ما يميّز حالة ووضع حقوق الإنسان في السنوات الأخيرة هو التدهور والانحطاط والمعاناة الكبيرة من اختراقها والتعدّي عليها ليس كما تعوّدنا على ذلك في المجتمعات الدكتاتورية والتسلطية والاستبدادية فحسب وإنما أصبح الأمر يتعلق بالدول التي تتغنى بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وما إلى ذلك من شعارات ومصطلحات.فالقابعون في غوانتنامو وأبو غريب وفي غيرها من السجون والزنزانات عبر العالم بدون مساءلة ولا محاكمة ولا حتى الحق في الإدلاء بكلمة أو رأي أو الاستعانة بمحام، يتساءلون عن مصيرهم وعن حقوقهم كبشر في الكلام والتعبير والدفاع عن أنفسهم.
- لقد أدت الحرب على الإرهاب إلى انهيار الشرعية الدولية وأصبح العالم يشاهد على الهواء الاعتداءات على حقوق الإنسان في فلسطين بداعي محاربة الإرهاب و في العراق بداعي التحرير وإعادة البناء وفي المدن الأميرية والأوروبية ومختلف بقاع العالم بداعي احتواء القاعدة والقبض على إتباعها. والتطورات بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001 شكلت منعطفا خطيرا واثر سلبا على حقوق الإنسان في العالم وحتى تلك الدول القليلة التي كان ينعم الفرد فيها بهامش كبير من حرية الفكر والرأي والتعبير والصحافة وما إلى ذلك وضربت هذه القيم والمبادئ بإسم الحرب على الإرهاب وراحت تتجسس حتى على المكالمات الهاتفية والبريد الالكتروني وغير ذلك من خصوصيات البشر. فأميركا حطمّت كل ما بنتّه خلال القرون الثلاثة الماضية في شهور معدودة بعد أحداث 11 أيلول فتدخلت في شؤون المؤسسات الإعلامية وتدخلت في خصوصية الأفراد ليس فقط داخل حدودها وإنما في سائر دول العالم وكما يحلو لها.
- منذ البداية الأولى كانت الانطلاقة خاطئة إذ كانت هناك ازدواجية في المقاييس والمعايير حيث انه في العام 1948 تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كانت دول وأمم وشعوب ترزح تحت نير الاستعمار ولم يتطرق لها الميثاق لا من قريب ولا من بعيد ولم يولِها أي اعتبار. فما هو الوضع في أيامنا هذه أيام الهيمنة الأميركية والحرب على الإرهاب؟. وما هو الوضع ونحن في نظام القطبية الأحادية وهل تمَّت عولمة ميثاق حقوق الإنسان؟ أم أن هناك فاعلون في النظام الدولي يستعملون المصطلح والمفهوم وفق معطياتهم ومصالحهم وهل بإمكاننا الحديث عن عالمية حقوق الإنسان أم عولمة حقوق الإنسان؟.
- ما يمكن قوله أن حقوق الإنسان أصبحت أداة ضغط في يد القوى لفرض برامجه على الضعفاء،وأصبحت سلطة تمارس وتوظف في لغة السياسة والدبلوماسية وأصبحت تستعمل كوسيلة ضغط على عدد كبير من الدول التي تخرج عن سيطرة صانعي قرارات النظام الدولي. ففي الحوار بين الشمال والجنوب أو في العلاقات الثنائية أو حتى متعددة الأطراف تُثار قضية حقوق الإنسان كما يحلو للطرف الأقوى.
- إن إشكالية حقوق الإنسان معقدة وأصبحت في عصر العولمة والحرب على الإرهاب وسيلة ضغط في يد الدول القوية ومبررا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وللتحكم في مسار العلاقات الدولية وفق مصالحها وأهدافها، ومن أهم المتناقضات التي يعيشها العالم بشأن حقوق الإنسان إن دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية المدافع الأول عن حقوق الإنسان لا تعير اهتماما لهذا المبدأ في داخلها إذا تعلق الأمر بالأقليات مثل السود والهنود والأقليات الأخرى ومنهم العرب ونلاحظ كم من مواطن عربي اتهم وسجن وطرد من أميركا بدون محاكمة وبدون أدلة قاطعة وبدون سند شرعي. وما ينسحب على أميركا ينسحب على معظم الدول الأوروبية والدول المتقدمة؛ كفرنسا مثلا في تعاملها مع المسلمين ومع مواطني شمال أفريقيا التي تبتعد كليا عن حقوق الإنسان كما أن قصة الحجاب الإسلامي تبقى وصمة عار على دولة تدّعي في شعاراتها "الحرية ـ الأخوة ـ المساواة".
- ويلاحظ كذلك أن الدول الفاعلة في النظام العالمي تساند وتدعم أنظمة مستبدة دكتاتورية في العالم الثالث وهذا يتناقض جذريا مع مبدأ حقوق الإنسان باعتبار أن هذه الدول وبحكم نظامها السياسي السلطوي لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحترم حقوق الإنسان إذا غابت الحريات الفردية وحرية الفكر والرأي والتعبير والفصل بين السلطات، والغريب في الأمر أن الدول الغربية تساند هذه الدول النامية لفترة زمنية معينة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية وبعد فترة معينة تنقلب عليها.
- يلاحظ أن الولايات المتحدة التي نصَّبت نفسها رقيبا على حقوق الإنسان في العالم تكيل بمكيالين إذا تعلق الأمر بإسرائيل وبأطفال فلسطين وبالغارات على جنوب لبنان واحتلال الجولان، أما بالنسبة لإسرائيل فتوصف بالدولة الديمقراطية المتمتعة بحقوق الإنسان وبالحريات المختلفة وتستفيد سنويا من 12 مليار دولار ومن الأسلحة الأمريكية المتطورة لقتل الأبرياء وتحطيم البنية التحتية لفلسطين. والحرب على أفغانستان والعراق ولبنان والسودان حيث أصبحت قناة سي.أن.أن هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة في العالم المسموح لها بتزويد البشرية جمعاء بما تراه خبرا أم لا؟ وفي مقابل ذلك تمنع العديد من المحطات من البث كالمنار وكذلك الكشف عن تهديد كان أصدره الرئيس الأمريكي جورج بوش بقصف قناة الجزيرة إبان غزو العراق، أين هو حق الاتصال وحق المعرفة وحق الإعلام؟.
- إن بعض المنظمات غير الحكومية التي تُعنى بشؤون حقوق الإنسان قد تمَّ اختراقها واستغلالها واستعمالها وانحازت لدول ولمصالح ولإيديولوجيات معينة على حساب خدمة مبدأ إنساني عالمي لا يعترف في الأساس لا بالحدود ولا بالجنسيات ولا بالديانات ولا بالأعراق وإنما يعترف بالمبادىء العليا للإنسانية وللبشرية.
- فهل البشرية بحاجة إلى عولمة حقوق الإنسان أم إنها بحاجة إلى عالمية حقوق الإنسان؟ وإذا تكلمنا عن العالمية فهذا يعني احترام خصوصية الشعوب والأمم والحضارات. وكيف يكون مستقبل حقوق الإنسان في ظل العولمة، عولمة لا تؤمن بخصوصية الشعوب ولا بالشعوب الضعيفة والمغلوب على أمرها، عولمة تقوم على سلطة المال وسلطة السياسة ونفوذ القوة فالشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على المال والأعمال والصناعات بما فيها صناعة الأفكار والقيم والرأي عبر الصناعات الثقافية المختلفة.ثمة أسئلة تطول بطول لوائح الانتهاكات التي ترتكب بحق الشعوب والأمم والتي تحتاج إلى إجابات محددة لكي تفضح المبررات التي وقفت وراء العديد من الحروب في عالمنا اليوم تحت شعارات حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب وغيرها!.