20‏/02‏/2008

ماذا في طهران؟

ماذا في طهران؟
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني


الزائر لطهران كما الزائر لأي مرقد مقدس،تحوم في مخيلته اشياء واشياء وكأنه يحاول اكتشاف قدسية الأمكنة بفطرة الناسك الزاهد المتشوق لمعرفة او على الاقل تلمس ما يجول في خاطره من اسئلة تبحث عن اجابات محددة،وفي كلا الحالين مزيد من الأسئلة تعتمر الخواطر،دون ملامسة الواقع او اليقين.
الناظر لطهران من فوق ليس كمن يعيشها على الارض،تخالها واد عميق تختزن موروثات التاريخ والجغرافيا في آن معا،تحرسها بكلها وكلكلها جبال البورس وكأنها تهدر وتزمجر وتزأر بوجه من يحاول التطاول عليها،مساحات الجغرافيا كالسياسة ضاربة في عمق حضارة لا زالت كما الماضي تبحث عن دور ان لم يكن ادوار؛يشد أزرها امة ارتضت بما تفرضه مصالحها القومية من تضحيات، لا مكان للاكتئاب او الكظم او الغيظ لواقع يراه البعض موجودا،شعب يلبي النداء مشيا عشرات الكيلومترات تحت حمى الشمس ليرفع القبضات وبحناجر واحدة الموت لاسرائيل ..الموت لأميركا..
ربما كانت الذكرى السابعة عشرة لوفاة الامام الخميني هذه السنة كالتي سبقتها،لكنها حتما في بعض الاوجه لم تكن كذلك،فايران اليوم تواجه تحديات اصعب بكثير من التي اعترضتها عند قيام الثورة، كان الأمر متعلقا بجملة من المسائل المهمة ذات الصلة بالتركيبة السياسية الجغرافية لدول المنطقة وما تعده ثورة الامام للمستضعفين في العالم،اما اليوم وبنظر من يقرر الحروب الاستباقية فان ايران تعدّت خطوطا حمراء ابرزها امتلاك التكنولوجا التي تنقلها من ضفة الى ضفة اخرى.بالامس كان الخوف على بعض الانظمة واليوم الخوف على اسرئيل،في الماضي القريب كانت سياسات الاحتواء مقبولة امريكيا واليوم لم تعد كذلك.ماذا في ايران وحولها هل ثمة مواجهة ام مهادنة ام اشياء اخر؟
عندما اعتلى مرشد الثورة السيد علي الخامنئي المنصة الرسمية ملقيا خطابه بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة الإمام الخميني محاطا بكبار رموز الدولة والثورة في إيران، اعتقدت بأن المناسبة لن تعدو كونها تكريما لذكرى رجل قل نظيره في التاريخ الإسلامي،لكن سرعان ما تحوّل الخطاب إلى لهجة مكمنها القوة والإرادة مدعَّمة بأسلوب دبلوماسي يجمع الحنكة في التعبير عما هو مراد ومعرفة مكامن الضعف في الخصم؛فيأتيك القرار والموقف في مستوى التحديات الكبيرة ومن بينها القضايا الاستراتيجية.
صحيح أن المواقف الإيرانية من القضايا الاستراتيجية هي معروفة ومتداول بها في المحافل السياسية والدبلوماسية،إلا أن الجديد فيها هو التعبير الواضح عن التصميم للوصول إلى ما تهدف إليه القيادة السياسية والدينية بمختلف تلاوينها وتوصيفاتها،إلا أن هذه المرة آتت بصيغة الجزم الواضح من أعلى سلطة دينية - سياسية في الدولة ومن قبل المرشد نفسه،ومحاطا برئيس الدولة وقائد حرس الثورة وباقي رؤساء المواقع الدستورية الحاليين والسابقين،وكأن الموقف من البرنامج النووي لن يقف أمامه عائق حتى ولو كان حجم التحدي المواجهة العسكرية مع من يعنيه الأمر.فالبرنامج النووي هو بالنسبة لإيران مسألة تسمو على أي قضية أخرى وهي بمثابة الحياة أو الموت لدولة عرفت كيف تمضي وسط الأعاصير السياسية المحدقة بالمنطقة وهي تعلم في الوقت نفسه أن هذا الملف بالتحديد يعني الأمر نفسه لأعداء إيران ،وبالتالي إن التوفيق بين المصالح الاستراتيجية والسياسات الإقليمية والدولية أمر بالغ الدقة والحساسية، والغلط فيه ممنوع باعتبار أن عواقبه ستكون وخيمة على أي طرف سيرتكبه.
ولا يعني هذا التصميم انه أمر مصنف ضمن الطبقة السياسية أو الدينية التي تقود شعبا عرف واختبر نظاما إسلاميا فريدا في التاريخ السياسي المعاصر للدول،بل يعتبر أمرا بمستوى ضمير الأمة وأحلامها،لذا كانت المواقف المطلقة في خطاب السيد القائد تقطعها صيحات الملايين المحتشدة خارج المنصة الرسمية مؤكدة المضي في التحدي ومنددة بمواقف أعداء إيران ومن يحاول التطاول عليها.ولا يقتصر هذا التأييد والتصميم على الصيحات ومد القبضات عاليا،بل يصحبه مدُّ من صدى الصوت يهز بهو المنصة الرسمية ومن يجلس عليها من دبلوماسيين ومدعوين رسميين مذكرة إياهم بأنه شعب أراد الحياة وقد استجاب له القدر.
وتمضي قدما في شوارع طهران الرئيسة والفرعية تكاد تقول أن بين الشجرة والشجرة ثمة شجرة،خُضرة اللون تحيط بك وفوقك، فتحسب نفسك في "والي عصر"وكأنك خارج المكان والزمان بمدينة ضاربة في عمق الاثنين معا،تجمع بين سمات المدينة بضَجها وضجيجها،وخضرة جنات عدن بفيئها وجداولها جارية تلطف قيظ حر لفح وجوها كتب عليها لمسات سحنة سمراء تبهر الناظر إليها،وتهدأ وحشتك عيون عواقف لم تألفها من قبل فتعيدك إلى أحاسيس تسعى إليها بعدما كدت تفقدها.
تحسب نفسك ستلتقي شعبا أنهكته الحروب، واستعار شظف العيش جزء منه، تأخذك الأفكار المسبقة إلى حد اليقين بأنك لن تجد ثغرا باسما وسرعان ما تجد أمامك أناسا اعتادت البسمة شفاها تردد كلمات الإطراء واللياقات في مستهل أي سؤال توجهه؛ فتتمنى أن تطول الأسئلة لترى ما يريح العين وتسمع ما يبهج القلب.امة تعج بها الحياة منتصف الليل،حدائق واسعة تعج بعها العائلات،تحسب نفسك في عز النهار وسرعان ما تكتشف انه شعب يحب الحياة،هادئ الطباع لا يستسيغ ضرورات سرعة الحياة وهمومها،فإن أتت كان بها وان لم تأت فغدا ستصل إليها، ربما سلوك حياة يعبر عن مكنونات وموروثات تبدو غريبة لمن اعتاد سرعة التصرف والتأثر والتأثير،تغيظك أحيانا برودة الموقف وتركه مفتوحا على احتمالات عدة وسرعان ما تكتشف انه أسلوب حياة، عدم التأكيد يعقبه شك ولازمة بعدها تشعرك بيقين الحصول.
ثمة مفارقات جديرة بالمتابعة،جيل ثالث بكامله ربما يبحث عن دور يعبر عن ذاته وتطلعاته،جيل شباب تخرج من اختصاصات متعددة ومتنوعة،لا يجد عملا مناسبا لطموحه،ربما قدر الجيل الثاني أو الثالث في أي نظام سياسي ناشئ في أي دولة، لكنَّ ما يميز هذا الجيل الشاب الذي يشكل نسبة عالية من مجموع الأمة،انه باحث عما يطلبه بهدوء ملفت،مقتنع بما هو فيه على أمل إيجاد موقع له في نظام شديد الحساسية.
ربما تبدو أزمة البطالة العالية مشكلة بحد ذاتها لآي نظام يبحث عن موقع له على الخريطة الدولية،لكن ضغوط الخارج وهمومها خففت كثيرا من هذه ألازمة وذيولها الداخلية،وثمة حل قريب لها تحلُّ جانبا من هذه القضية،فقانون التأمينات الاجتماعية والمساعدات للعاطلين عن العمل سيطبق هذا الشهر في إيران، لا شك انه نظام للمساعدات ستنفرد بها الجمهورية الإسلامية خارج إطار تطبيقاته الأوروبية،صحيح انه برنامج يحلُّ بعض جوانب أزمة البطالة القسرية لكنه لا يعالج اصل ألازمة وتداعياتها.
جانب آخر جدير بالمعاينة والتأمل،تحسب قبل وصولك لطهران انك ستلتقي شعبا متذمت،أصولي متشدد؛وسرعان ما تكتشف أن جيلا بكامله قد تكيُّف مع أسلوب حياة الثورة ،وبعض المظاهر المستجدة،صحيح انك ترى الزيَّ الإسلامي التقليدي "التشادور" لكن بجانبه كُثرُّ يرتدين ثيابا شرعية تزينه حجاب لا يخفي بعض خصال الشعر.تقصد حدائق عامة آية في الجمال يرتادها صبايا وشبانا من الجيل الثالث يحاكي الحياة بأسلوبه الخاص،فترى أيادٍ مشبوكة ببعضها البعض تبحث عن حلو الحياة وتحاكي حلما وأملا آتيين.
وفي السياسة ثمة أشياء وأشياء يمكن الكتابة فيها مجلدات،لكن أسئلة محددة وقليلة تبحث عن إجابات،فهل يمكن العيش أو التعايش مع برنامج نووي ولو كان سلميا فوق صفيح ساخن من النفط؟ وهل سيعترف الغرب بهذه الميزة الإيرانية يوما ما؟وهل ستتمكن إيران من المضي مجددا في مسلسل الأعاصير القادمة على المنطقة؟ وماذا عن أمن القوات الأميركية في العراق؟. وصورة أميركا في الشرق الأوسط؟. وأمن النفط ومستقبله وتوزيع المقاعد في نادي الكبار؟. والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وحدود الدولة العبرية وحدود دورها؟. أسئلة تصعب الإجابة عنها في القريب العاجل؟
لقد تمكنت إيران من جمع أوراقها وأطلقتها كأزمة إقليمية كبرى في غير التوقيت الأمريكي، فأحسنت توقيتها لتدور المفاوضات في ظل الحرائق المشتعلة في المنطقة، فتبريد الحريق العراقي بالتأكيد يحتاج إلى دور إيراني. واستمرار الهدوء في جنوب لبنان يحتاجها بفعالية كذلك.
يقول احد المسؤولين الإيرانيين في لقاء خاص، أن إيران تنتهج سياسة واقعية. لا تهدف للسيطرة إقليميا وتدرك وجود دول أساسية فيه أبرزها السعودية ومصر. كما تعرف تماما أن طبيعتها تمنعها من تزعم العالم الإسلامي لكنها لا تمنعها من دور كبير فيه.فإيران لا تتطلع إلى إدارة العراق من طهران وهي تستخلص العبر من بعض التجارب الماضية في المنطقة. وحين تسأل عن "الهلال الشيعي" يذكرك بالإحجام والأوزان السكانية فيصنف هذا الكلام من النوع الذي يهدف إلى تخويف العرب السنة من الدور الإيراني في العراق.
كما يستبعد بعض الديبلوماسيين في طهران أن تكون المنطقة عشية "صفقة" بين واشنطن وطهران. لكنهم يعتقدون أن الظروف ملائمة لسلسلة من الخطوات والتفاهمات تبدأ باعتراف متبادل بالدور والمصالح وتنظيم خفض التوتر والمشاركة في إطفاء الحرائق. فالمفاوضات ستكون صعبة وطويلة إذا بدأت فالإيرانيون فنانون ومهرة في استقطاع الوقت واستنزافه وحين تسأل ديبلوماسياً عربياً عن موقع العرب في الإقليم يبتسم بمرارة متسائلاً: "أين يقيم العرب؟".فعلا إنهم في المريخ!.
تبحث في طهران عن أشياء كثيرة تجهلها وتحاول فهمها،لكن اتساع المكان وضيق الزمان يضيِّعا عليك متعة البحث عن الاستزادة،ربما بلد أنجز الكثير ولا يزال بحاجة إلى المزيد تلك سُنةُ الدول والثورات،القانون والنظام وحدهما كفيلان بتمييز امة ودولة عن أخرى،هما موجودان لكن ليسا في التفاصيل الصغيرة التي ربما تترك أثرا.