17‏/02‏/2008

بين مدريد وانا بوليس:صراع مفقود وسلام موعود

بين مدريد وانا بوليس:صراع مفقود وسلام موعود
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني

كان للمتغيرات الاقليمية والدولية اثر مباشر في انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991،وعلى الرغم من الانغتاح العربي غير المسبوق تجاه ما طرح في المؤتمر وما نتج عنه لاحقا،لم يتم التوصل الى حلول عملية لجوهر الصراع العربي الاسرائيلي،وظلت الطروح المتبادلة في اطار خرائط طرق تاه المتفاوضون فيها،ما ادى الى سلسلة احداث دراماتيكية عقّدت المواضيع بدل ايجاد اطر خلاقة لحلها،فما الذي جرى ؟وما هي آفاق مؤتمر انابوليس؟.
ان المبدأ الاساسس الذي قام عليه مؤتمر مدريد كان الارض مقابل السلام،وصحيح ان اتفاقات وادي عربة بين اسرائيل والاردن اعطت دفعا لمسارات التفاوض آنذاك الا ان المسار الفلسطيني وكذلك السوري واللبناني لم يتوصلا الى نتيجة حاسمة رغم مرور المسار السوري بمواقع لافتة قابلة للحياة،ذلك بفعل التعنت الاسرائيلي وعدم تقديمه طروح بديلة قابلة للبناؤ عليها.
ففي خضم المفاوضات الثنائية والمتعددة نفذت اسرائيل عدوانيين كبيرين على لبنان في العامين 1993 و1996 ولم تتمكن من صرف النتائج السياسية في واقع المسار اللبناني الاسرائيلي،وكما على هذا المسار كذلك على المسار السوري الاسرائيلي مع بعض الفروق الهامة،فعلى الرغم من التوصل الى نقاط شبه حاسمة عبر وديعة رابين لم تكمل اسرائيل خطواتها اللاحقة وانتهت المفاوضات آنذاك التي تمت برعاية اميريكية مباشرة.
اليوم يعود الحراك غير المباشر في المنطقة وسط دعوات لاطلاق مؤتمر انابوليس مع فروق هامة بين ظروفه وظروف مؤتمر مدريد،ما يعني ان ثمة اسباب ونتائج محتملة لذلك،وبالتالي ان ظروف يمكن ان تنشأ قبله وبعده ستكون مغايرة للوضع السائد حاليا.
في مؤتمر مدريد وضع الرئيس الامريكي جورج بوش الاب ثقله لانتاج نظام عالمي جديد مفتاحه السلام في الشرق الاوسط، واليوم يحاول جورج بوش الابن وضع ثقله لانتاج واقع اقليمي جديد عبر مؤتمر انابوليس بعدة سياسية مغايرة اساسها تمرير الوضع الفلسطيني على عتبة نهاية ولايته مع اصرار اسرائيلي على استبعاد سوريا عنه في وقت تبدو الضرورة ملحة لاشراك الطرفين اللبناني والسوري فيه نظرا للترابط القسري الذاتي والموضوعي لجميع ملفات الصراع العربي الاسرائيلي.
فاسرائيل والسلطة الفلسطينية سائرتان في اتجاه اطلاق المؤتمر في اي ثمن ونتائج محتملة ،ذلك على وقع لقاءات لم تنتج التوافق على اطار محدد.فالطرفان متفقان من الناحية العملية على التفاوض الا انهما مختلفان على النفقطة التي تبدأ منها عملية التفاوض، فقد تطلع الفلسطينيون الي اتفاق اطار‏,‏ بينما سعى الاسرائيليون الي بيان مشترك‏، فاتفاق الاطار الذي يسعى الفلسطينيون له يعتبر نوع من التعاقد المبدئي الذي ينبغي ان يلتزم به الطرفان وتقوم علي أساسه المعاهدة النهائية فيما بعد,‏ ولذلك فهو اطار محدد ومحكم ‏,‏ ومفصل بشكل كاف يصعب التملص منه، ومرتبط بجدول زمني دقيق لا لبس فيه‏,‏ كنموذج اطار كامب ديفيد بين مصر واسرائيل الذي تم ابرامه في ايلول/سبتمبر‏1978,‏ ومهد لمعاهدة السلام في آذار/مارس 1979‏.
وبمعنى آخر سعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس في لقائه مع رئيس الوزراؤ الاسرائيلي ايهود اولمرت التوصل لمثل ذلك الاطار وتوثيقه في مؤتمر انابوليس،فيما هدف اولمرت المحاط بكل اشكال التفجير الحكومي ضمن حكومته الى المحافظة على سلام حكومته لا سلام المنطقة.
ومن هنا يُقرأ الفشل بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي في عدم التوصل الى نتيجة محددة لعرضها في مؤتمر انابوليس. فأولمرت‏,‏ الذي ادرك استحالة تسويق فكرة البيان المشترك‏,‏ عمد الى تسويق فكرة بيان المصالح الذي يعيد الموضوع الى استلهام خطة خريطة الطريق التي تقادمت زمنيا دون ان يستنسخها‏,‏ وبخاصة ما يتعلق بتبادل الالتزامات في عملية تدريجية طويلة المدى الزمني.‏
في الجانب الامريكي المفترض ان يكون راعيا ووسيطا على مسافة واحدة من الطرفين يتمنى لو ان اولمرت يتقدم خطوة ولو في الشكل لتسهيل الانطلاق، ذلك بعكس ما حصل في مؤتمر مدريد تحديدا، فقد حرص وزير الخارجية الامريكية الاسبق جيمس بيكر وقتها‏,‏ بخلاف كوندا ليزا رايس الآن‏,‏ علي ايجاد قاعدة انطلقت على حد أدني من التوازن يقوم عليه المؤتمر عبر توجيه رسائل ضمانات‏,‏ ولم يلتفت الى الغضب الاسرائيلي عندما اعترضت علي مضمون الرسالة الموجهة الي الفلسطينيين وغيرهم‏,‏ وقد أدت تلك الرسائل حينئذ الوظيفة التي يفترض ان تؤديها الوثيقة المشتركة المختلف عليها الآن‏.‏
ان التغير في الدور الامريكي بين مؤتمري مدريد وانا بولس الموعود يظهر حجم التغير في توازنات القوى المحلية في زمنين متباعدين ومتشابهين شكلا لا مضمونا. والفرق بين منهجي رايس‏2007‏ وبيكر‏1991‏يظهر بحجم المسافة التي تفصل بين اتجاهات ادارتي بوش الاب وادارة بوش الابن وبين منهجي المحافظين التقليديين والمحافظين الجدد‏ في الادارات الامريكية المتعاقبة.
وما يؤكد هذا الاختلاف حاليا هو منهج التعاطي مع طرفي القضية الآخرين اللذان ينتظران خارج اطار التسوية سوريا ولبنان،فاولمرن يسعى الى استبعاد سوريا ولبنان والانفراد بالفلسطينيين فيما تبحث واشنطن على آليات الاشراك للطرفين الآخرين ضمن حضور شكلي لا جوهري،يؤمن ظهورا وتغطية عربية لا تنتج اطرا يمكن الاستفادة منها من الناحية العملية.
وفي خضم هذا الحراك المحموم بين مؤتمرات اقليمية كمؤتمر اسطنبول الأخير الذي يمكن ان يكون مؤشرا لجس نبض سياسي للسوريين وبين مؤتمر انابولس ثمة سباق محموم من نوع آخر يجري، عماده تكوين آليات وبيآت قابلة للتفجير على الصعيد الاقليمي،والسؤال الذي يطرح الآن هل سيكون مؤتمر انابولس مقدمة لحرب اقليمية في المنطقة تكرس ما يمكن ان يتوصل فيه في ظل غياب سوري ولبناني محتمل،ام انه سيكون مقدمة لاختراقات جديدة على طريق السلام الموعود بين العرب واسرائيل.
ان سلام الخريف الموعود في اناوليس هو على مسافة واحدة بين خيارات الحرب والسلم في المنطقة،فالادارة الامريكية الحالية تتحرك في الوقت الضائع قبل البدء في الانتخابات الرئاسية التي من المستبعد ان تعيد الجمهوريين للبيت الابيض فيما ينتظر الديموقراطيون عبئا ثقيلا؛في وقت تبحث جميع الدول المعنية في المنطقة عن خيارات تحمي الرؤوس في زمن ربما ولى فيه اللعب على التاناقضات وكسب الوقت والتبادل السياسي.
الا ان الاهم من ذلك كله العودة الى الواقعية السياسية والاستفادة من تجارب الماضي البعيد كما القريب فكذبة النصر في الحروب هي من نوع الامل الخادع التي لم تستطع اي دولة من قطف ثماره السياسية دون تقديم تنازلات ولو تكتية،فهل سيعيد مؤتمر انابولس وقائع ومندرجات مؤتمر مدريد ويكون تجربة مستنسخة لمشاريع السلام العربية الاسرائيلية المعلنة منها وغير المعلنة،ام سيكون مقدمة لانفجار قادم يعيد توكيد دعائم النظام العالمي الجديد الذي بدأ تشكل ملامحه مع مؤتمر مدريد في العام 1991، ان غدا لناظره قريب.