20‏/02‏/2008

كل أزمة وانتم بخير


كل أزمة وانتم بخير
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
بيروت:28-12-2005

وكأن المشهد رقصة موت على حد السيف، بعضهم يؤديها مذبوحا من الألم، والآخر ينتظر ولا يبدّل تبدّيلا؛ إغتيالات تعبئ الشارع وتحقنه بمشاعر دفينة تضفي سريالية للناظر واللاعب، وتجبر المتردد خيارا يزيد رمزية وقت مستقطع من عمر اللبنانيين.اتهامات وصلت بأصحابها حد التشكيك، مقاطعة وربما استقالات مهيأة، لقاءات خارج الضوء،اتفاقات في السر ونقض لها في العلن،مبادرات إعلامية عربية هجينة أجهضت قبل الولادة، ومحلية خجولة لا صدى لها، خلفيات امتزج فيها القانوني بالسياسي حتى بات الخروج عن أللياقات والتعابير الدبلوماسية أمراً مألوفاً بل مطلوبا، باختصار لعبة حافة الهاوية مورست من جميع الجهات محلية وإقليمية ودولية، النتيجة جو يوحي بما هرب منه اللبنانيون منذ عقد ونصف، غياب لغة العقل، محاكاة عواطف ممزوجة بمشاعر الغرائز الطائفية والمذهبية، كل شيء جاهز وغب الطلب سوى الحكمة والتبصر.لا احد يسأل ما العمل أو ماذا بعد؟.الجميع يعيش الترقّب والخوف والتوجّس وكأن قيامة منتظرة، حتى بات السؤال ضرب في المجهول وطقس من طقوس التبصير. ربما عوَّد اللبنانيون أنفسهم على ذلك طوعا أم إكراها، لكن الجديد أنهم سائرون بشجاعة الغريق الذي لا يخشى البللِّ، دون التفكير أن الغرق هو الموت وليس شيئا غيره.
صحيح أن لبنان مرَّ بأزمات كبيرة ومُكِنَّ من اجتيازها،إلا أن ألازمة الحالية هي من النوع غير القابل للتمكين بل وسيلة هدفها المزيد من التفتيت والضرب على مكمن الوجع.فأين هم اللبنانيون من الأسئلة التي تبحث عن إجابات محددة لا لُبس فيها ولا تأويل؟ وهل هم قادرون على اتخاذها منفردين؟أم هم ذاهبون بأنفسهم إلى المكان الذي يثبتون أنهم غير قادرين على العيش إلا بوصاية القاصرين؟ ثمة وقائع ينبغي تبيانها أبرزها:
- صحيح أن النظام السياسي اللبناني من أغرب الأنظمة السياسية لحد إطلاق الفرادة عليه، وصحيح أن موضوع المشاركة ظل سببا مباشرا وغير مباشر للعديد من الأزمات الوطنية الحادة التي تخبط بها لبنان،وصحيح أيضا أن المشاركة في كثير من الأحيان أخفت أمورا أخرى ليس لها علاقة بالنظام الدستوري؛إلا أن الثابت في تاريخ لبنان هو ارتباط المشاركة بالوحدة الوطنية الداخلية عضويا وموضوعيا،وبالتالي إن أي خلل في آليات المشاركة هي خروج على ثوابت ودعائم الوحدة الوطنية.فتاريخ لبنان مليء بالقرائن والأدلة لاسيما القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية اللبنانية التي وقفت وراء العديد من الازمات الوطنية ذات الطابع الدستوري،كمثال ازمات الحكم والحكومة في عهود شارل الحلو وسليمان فرنجية وامين الجميل.
- كما ان للمشاركة بُعدها المتصل بالاتفاق والتوافق بين الفرقاء اللبنانيين على القضايا المصيرية وليس بالضرورة المشاركة المتصلة بآلية محددة عرفا او دستورا.فقبل اتفاق الطائف ثمة مظاهر سلبية كثيرة برزت في موضوع المشاركة وكان يتم تخطيها بفضل حكمة وعقلانية طرفي السلطة أنذاك رئيسي الجمهورية والحكومة،مثال عهد فؤاد شهاب وقسم من عهود شارل الحلو وسليمان فرنجية والياس سركيس؛اذ ان المشاركة لم تعن بالضرورة التقيد بالنصوص الدستورية وتفسيرها تفسيرا ضيقا،بل مارس رؤساء الوزراء صلاحيات كثيرة بحكم العرف لا القانون والدستور.ويبدو ان الحرص على التوافق في القضايا المصيرية قد انسحب على اتفاق الطائف ودستوره بدليل ما ورد في الفقرة "ي" من الاحكام الاساسية من ان "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك". وكما ورد في الفقرة الخامسة من المادة (65) :"ويتخذ قراراته بالتوافق. واذا تعذر ذلك فبالتصويت،" فالأولوية للتوافق وليس للتصويت كما جرى تحديدها وتوصيفها خصوصا وان فقرة التوافق انهيت بنقطة وليست بفاصلة، واتبعت بالتصويت اذا لم يتم التوافق ما يدل توكيدا واضحا علىالاتفاق باعتباره ركنا من اركان العيش المشترك الذي لا يجب ان تخالفه اي شرعية ان كانت سلطة تنفيذية او تشريعية او غيرها.
- ان ابرز الازمات التي وقع فيها لبنان وكانت لها آثارا مدمرة كانت المتعلقة بتحديد سياسات لبنان الخارجية،المتصلة بالمحاور العربية وتكتلاتها،وأول اختبار فعلي ذهبت ضحيتها الوحدة الوطنية كان الموقف من حلف بغداد في العام 1958 ومن ثم الموقف من الوحدة السورية – المصرية،ومن ثم التجاذب العربي الذي اعقب اتفاقات كامب ديفيد،وجميعها دفع لبنان ثمنا غاليا لها نتيجة خروجه عن القواعد الاساسية للسياسة الخارجية التي تمَّ الاتفاق عليها في البيان الوزاري الاول عام 1943 وهي حياده عن المحاور والتكتلات العربية.
- اما الجانب الابرز المتصل قي سياسة لبنان الخارجية ايضا فكانت تحديد موقعه ودوره في الصراع العربي الاسرائيلي،وهو امر طالما اختلف اللبنانيون حوله وكان سببا رئيسا في احتدام الصراعات الداخلية والانقسام الذي ارخى ظلالا كثيفة على الوحدة الوطنية.واذا كانت ظروف المنطقة قد ساعدت لبنان نسبيا في تحييده في بعض الفترات عن هذا الصراع،فان ظروف النصف الثاني من عقد الثمانينيات من القرن الماضي وما تلاه لم تساعد لبنان على ابقائه بعيدا عن مؤثرات هذا الصراع او الانخراط فيه بشكل مباشر، فقسم كبير من اراضيه احتل في العام 1978ولم تحرره القرارات الدولية على مدى ربع قرن، وأثبت مرة اخرى ان تحرير غالبية الأراضي المحتلة تمَّ بفعل المقاومة التي كانت سببا للوحدة الوطنية ونتاجا لها في آن معا.
- واذا كان ثمة العديد من القضايا التي اختلف حولها اللبنانيون، فلم يجتمعوا يوما على قضية كإجماعهم على وجوب كشف ملابسات جريمة اغتيال الرئيس الحريري، ورغم هذا الاجماع فقد اختلفوا على بعض آليات الوسيلة لإرتباطها بنظر البعض بأمور أخرى ليس لها علاقة بالجريمة او كشف ملابساتها، حتى باتت سببا في ازمة وطنية قابلة للاستثمار بشتى الاتجاهات الداخلية والخارجية.
ثمة الكثير من الازمات التي مرَّ بها لبنان، لكن المنتظر منها قادمة ولبنان والمنطقة قابعان في عين العاصفة،وحينها لا ينفع الانحناء، ولا دبلوماسية شراء الوقت والهروب الى الامام.فالاستحقاقات القادمة توجب صراحة متناهية في الاجابة على العديد من الأسئلة وان كانت محرجة لجميع الأطراف.فاذا كان حياد لبنان ضروريا عن التكتلات العربية ان وجدت حاليا فانه لا يعني بالضرورة العداء لسوريا.واذا كان ثمة صعوبة في تحييد لبنان عن الصراع العربي الاسرائيلي فينبغي تأمين سبل الاجماع اللبناني على هذا الخيار. واذا كان ثمة اجماعا لبنانيا على وجوب كشف حقيقة اغتيال الرئيس الحريري فينبغي ان تكون وسائلها مطمئنة ولا تشكل هواجس للبعض.وإذا كانت آليات المشاركة في اتخاذ القرارات المصرية محددة في الدستور فلا ينبغي ان تكون وسيلة استفزازية للإحراج بهدف الإخراج.
ان قدر الدول الصغيرة مهما عظمت قضاياها تذهب ضحية لعبة الكبار ومصالحها، وأجواء المنطقة ليست ببعيدة عن ذلك، وان من يدعي ويغالي بأن لبنان بات اولوية مطلقة على اجندة الدول الكبرى لا يعكس وقائع كثيرة، ومن بينها القرار 1644 بصيغته الفريدة العجيبة، صياغة ديبلوماسية فائقة تظهر الحزم والمرونة في مكان، وتضمر التأويل والتهويل في مكان، وكأن مجلس الامن اعاد مسك العصا من النصف في محاولة لترتيب بيئة ما خلال الستة اشهر القادمة،وهذا لا يعني بالضرورة ان تسوية ما اعدت منذ الآن على حساب لبنان،بل تعني بما تعنيه ان امورا كثيرة قابلة للمقايضة وهي تحت الاختبار بصرف النظر عن نجاحها او فشلها الكلي. ثمة انتخابات عراقية انجزت وثمة ملء للفراغ بعد انسحابات امريكية محتملة، ثمة ملف نووي ايراني بمفاوضات اوربية تتزعمها فرنسا الداخلة في حمأة الانتخابات الرئاسية . وثمة انظمة عربية تتخوف وتتوجس من انتقال الفوضى الامريكية الخلاقة اليها.
باختصار ليس من احد مستعد للركض واللهاث بحثا عن حل يرضي لبنان،بل علينا نحن اللبنانيون ايجاد آليات الحوار ووسائلة لحفظ القادر على حماية لبنان.ان شعبا حمى المقاومة يستحق ان يُحكم بقيادات تحمي المقاومة بحدقات العيون ، عندها وعندها فقط يصح القول كل عام وانتم بخير لا كل أزمة وانتم بخير!.