20‏/02‏/2008

قراءة مختلفة للتقرير الأمريكي لملف إيران النووي


قراءة مختلفة للتقرير الأمريكي لملف إيران النووي
د.خليل حسين
أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مفارقة تقرير الاستخبارات الأمريكية حول البرنامج النووي الإيراني انه لم يركز علي المسائل المتعلقة بالأزمة الحالية بين إيران والمجتمع الدولي‏,‏ وإنما تناول قضايا لم تكن محل اهتمام من جانب أطراف هذه الأزمة‏,‏ ولم تكن السبب الرئيس في استعار الأزمة‏,‏ ما يعني أن التقرير لن يؤثر بشكل مباشر حول مسار الأزمة لاحقا ‏,‏ كما لا يتوقع أن يتسبب في حدوث تحول في مواقف تلك الأطراف‏,‏ لاسيما الولايات المتحدة‏.‏وفي قراءة دقيقة لمضمون التقرير يمكن تسجيل عدد من الملاحظات أبرزها:- أشار التقرير إلي أن إيران أوقفت برنامجها للأسلحة النووية منذ عام‏2003,‏لجهة تصميم السلاح النووي والأنشطة السرية التي كانت جارية بشأن تحويل وتخصيب اليورانيوم‏,‏ وهو أمر ليس بجديدة وإنما تم التداول به على نطاق واسع قبيل صدور التقرير بفترة طويلة‏,‏ إذ كان يشتبه في أن إيران كانت تقوم منذ بداية التسعينيات بأنشطة في مجال تصميم الأسلحة النووية وتحويل وتخصيب اليورانيوم في كل من مركز جورجان ومنشأة معالم كاليه‏,‏ عبر الاستعانة بعلماء من أوكرانيا وروسيا وكازاخستان‏,‏ وعلى الرغم من أنه لم تكن هناك تأكيدات علي ذلك‏,‏ لاسيما بعدما زار مفتشو الوكالة تلك المنشآت‏,‏ ولم يجدوا خرقا لمقاييس الوكالة الدولية للطاقة الذرية‏,‏ إلا أن الاداراة الأمريكية ظلت تزعم أن مفتشي الوكالة يتم تضليلهم من جانب السلطات الإيرانية‏.‏
- لم يبرئ التقرير إيران من الاتهامات المتعلقة بأنشطة التخصيب ا التي تجري في منشأة نتانز‏,‏ التي تعتبر السبب الرئيس للأزمة الحالية‏,‏ بل إن التقرير يري أن هذه الأنشطة باتت الوسيلة المرجحة لإيران لإنتاج كمية كافية من المواد الانشطارية لصنع قنبلة نووية‏,‏ سيما وأن إيران حققت تقدما كبيرا في عام‏2007‏ في إقامة أجهزة الطرد المركزي في تلك المنشأة‏,‏ على الرغم من وجود مشكلات تقنية كبيرة في تشغيلها‏,‏ كما يخلص التقرير بدرجة متوسطة من الثقة إلي أن إيران ستكون قادرة علي إنتاج كمية كافية من اليورانيوم المخصب لإنتاج أسلحة نووية في الفترة ما بين‏2010‏ ـ‏2015,‏ وإن لم يستبعد في موضع آخر احتمال حدوث ذلك في عام‏2009.‏
- أن ترحيب إيران بهذا التقرير‏,‏ يمثل اعترافا واضحا من قبل إيران بأن هذا البرنامج كان موجودا‏,‏ وبأنها كانت تتبني بالفعل برنامجا نوويا عسكريا‏,‏ بما يمثله ذلك من انتهاك لمعاهدة منع الانتشار النووي‏,‏ وهي المسألة التي استغلها الرئيس الأمريكي جورج بوش في الزعم بأن إيران كانت خطرة‏,‏ وستظل كذلك‏,‏ ليخلص إلى القول أن الضغوط الدولية علي إيران يجب أن تتواصل‏.‏
- أن مضمون التقرير لم يكن مرتبطا ارتباطا جوهريا بمضمون الأزمة الجارية‏,‏ إلا من زوايا غير مباشرة‏,‏ من بينها أن أنشطة تصميم السلاح النووي ـ التي يقول التقرير إن إيران أوقفتها ـ تعتبر جوهرية شأنها شأن إنتاج اليورانيوم المخصب بنسب عالية‏,‏ ما يدل علي أن قيام إيران بإيقاف هذه الأنشطة يعني بشكل واضح أنها ليست راغبة في إنتاج السلاح النووي‏,‏ رغم أن التقرير لم يستبعد معاودة استئناف إيران هذه الأنشطة‏.‏ لقد أحدث التقرير تداعيات تصب في مصلحة إيران بشكل عام ‏,‏ التي اعتبرته انتصارا ودليلا علي الكذب الأمريكي ‏,‏ كما يقوي التقرير من متانة القرائن التي استندت إليها الصين وروسيا في معارضة فرض عقوبات جديدة علي إيران‏,‏ بل ويضع العقوبات القائمة في مهب الريح‏,‏ إضافة إلى كونه يضعف إمكان لجوء الإدارة الأمريكية للخيار العسكري‏,‏ انطلاقا من أن ثمة سنوات عديدة ما زالت تفصل إيران عن امتلاك السلاح النووي‏,‏ بينما تصر إدارة بوش علي أن التقرير لن يغير سياستها إزاء إيران‏.‏
هذه التداعيات من شأنها أن تعقد الأزمة ‏,‏ لا أن تساعد في حلها‏,‏ بحكم أن المسافة الفاصلة بين مواقف الأطراف الرئيسة ازدادت تباعدا‏,‏ إضافة إلى أن إدارة بوش يمكن أن تعاود التلويح بالخيار العسكري إذا عجزت عن إقناع روسيا والصين بالموافقة علي تشديد العقوبات علي إيران‏,‏ وفق سياستها المتكررة في هذا الصدد‏,‏ بينما تتمادي إيران بالتمسك بموقفها من مواصلة أنشطة تخصيب اليورانيوم برغم ما يحيط بذلك من شكوك وهواجس لم تعد مقصورة فقط علي الدول الغربية‏,‏ وإنما امتدت أيضا إلي العديد من دول المنطقة‏.‏
إن إدارة الملف في المستقبل سيشهد مزيدا من التأزيم بعكس ما يوحي به التقرير والسبب يكمن في منهجية التعامل الأمريكي مع قضايا الانتشار النووي‏,‏ التي تقوم علي الانتقائية ‏,‏ وليس علي منهجية شاملة تأخذ في الاعتبار مختلف أبعاد هذه المسألة‏,‏ وفي مقدمتها التسلح النووي الإسرائيلي وضرورة استكمال عالمية معاهدة منع الانتشار النووي وتحقيق أهدافها الكبري المتعلقة بإخلاء العالم من السلاح النووي‏,‏ وهي المنهجية التي ترفضها الولايات المتحدة‏,‏ وتصر بدلا منها علي سياسة أحادية أو متعددة الأطراف تركز فيها فقط علي الحالات التي تعتبرها تهديدا لها‏.‏
إن غياب الدور العربي في هذه الأزمة مرده قيود ذاتية أدت إلي فقدان الجرأة في التعامل مع مثل هذه الأزمات‏,‏ فيما بيد العرب أوراقا ليست متواضعة أبرزها الفوائض النفطية الهائلة‏,‏ ما يتيح تبني مواقف أقوى إزاء هذه الأزمات‏,‏ وربما تكون التداعيات الناجمة عن التقرير مناسبة لافتة لدور عربي بارز، فالإدارة الأمريكية تقف الآن في موقف صعب هو في الواقع نتاج لسياستها الأحادية المتحيزة‏,‏ وربما يمكن للدول العربية هنا أن تطرح بديلا آخرا يختلف عن الإصرار الأمريكي والعناد الإيراني‏,‏ يتأسس على قاعدة التعامل الشامل مع قضايا الانتشار النووي‏,‏ مع الأخذ يعبن الاعتبار المصالح الأمنية والتنموية لجميع الأطراف‏,‏ ضمن بيئة أ قانونية مقبولة‏,‏ في طليعتها معاهدة منع الانتشار النووي‏,‏ كمحددات للتعامل الدولي‏,‏ دون إبقاء هذا التعامل رهنا بالمصالح الضيقة لهذه الدولة أو تلك‏.‏
ورغم كل ما سبق يبدو أن تسليم روسيا مؤخرا لليورانيوم المخصب لتشغيل مفاعل نتانز ربما سيعيد النظر ببعض جوانب إدارة الأزمة القائمة، إلا أن العلة تكمن أولا وأخيرا في الهواجس الأمريكية والإيرانية المتبادلة ،ما يعني أن لا التقرير ولا الغطاء الروسي والصيني سيحدان من سلوك ألازمة القائمة بل أن جملة عوامل مؤثرة ستساهم في إدارة الملف بدء من الموضوع الأفغاني شرقا مرورا بالعراق وفلسطين ولبنان غربها،وما الغزل الأمريكي عبر تصريح وزيرة الخارجية كونداليزا رايس بأن لا عداوات دائمة في السياسية إلا بداية لشهر عسل لن يكون ثلاثين يوما!.