19‏/02‏/2008

القراءة الفرنسية للانتخابات الرئاسية اللبنانية



القراءة الفرنسية للانتخابات الرئاسية اللبنانية
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني

من ثوابت السياسية الخارجية الفرنسية بقاء لبنان في رأس اولويات الاهتمام الفرنسي باعتباره مرتكزا وقاعدة للانطلاق في منطقة الشرق الاوسط ، ورغم ذلك الموقع الفارق لم تتمكن باريس من ترجمة تطلعاتها وفقا للكيفية المفترضة لاعتبارات متنوعة ومتعددة ابرزها التنافس مع واشنطن حول حدود الدور الذي يمكن ان تلعبه في ساحة شديدة الحساسية كلبنان.فكيف تنظر باريس لملف انتخابات الرئاسة ؟وهل ستتمكن هذه المرة من التأثير فيه ؟وما هي المسارات التي ستسلكها في ذلك؟ثمة ملاحظات عدة يمكن ادراجها في هذا المجال ابرزها:
- لم تتمكن باريس من كبح جماح الولايات المتحدة الامريكية في الشرق الاوسط بعد احتلالها للعراق،وربما انتظرت اللحظة المناسبة للتحرك الجديد بعد وصول ساركوزي للرئاسة التي ترافقت مع بوادر المأزق الامريكي في المنطقة ما وسّع من هامش التطلعات الباريسية واعطاها دفعا جديدا لتحقيق طموحات دفينة عمرها من عمر الكيانات السياسية في المنطقة،ففرنسا الشيراكية ارتكزت على تبني مشروعها في المنطقة على مرتكزات اتفاق الطائف في لبنان وتحديدا موقع الرئيس الراحل رفيق الحريري،ومع اغتيال هذا الأخير شعرت باريس بخسارتها لأهم مرتكزاتها الاستراتيجية في لبنان،ما جعلها تدخل مباشرة ومرة أخرى لاعادة رسم استراتيجياتها الجديدة في المنطقة وعبر البوابة اللبنانية تحديدا.
- ان التحرك الفرنسي الجديد هو انعكاس واضح لقراءة مختلفة للواقع السياسي في لبنان بعد وصول ساركوزي للرئاسة،وهذا ما تُرجم عمليا عبر مؤتمر الحوار اللبناني في سان كلو ومتابعاته الحالية،ما يشير ايضا الى تصميم فرنسي للمضي الى نهايات الملف بصرف النظر عن حجم الاخفاقات او النجاحات المفترضة فيه،ذلك بفعل ضيق الخيارات المتاحة،فمع علم باريس الواضح بحساسية الساحة اللبنانية للاطراف الاقليميين والدوليين فهي مضطرة لاعادة رسم السيناريوهات المحتملة ولو في أعلى الهرم السياسي الفرنسي وصولا الى ما يمكن تحقيقه في ملف الرئاسة اللبنانية.
- ورغم الموقع المتميز للبنان ورئيسه في التركيبة السياسية واتكاء فرنسا عليه،لم تتمكن باريس من لعب ادوار حاسمة في مجمل الانتخابات الرئاسية اللبنانية منذ العام 1946 تاريخ خروجها كدولة منتدبة على لبنان.فالقراءة السياسية الدقيقة تشير الى ان جميع الرؤساء اللبنانيين قد انتخبوا خارج التأثير الفرنسي المباشر،وان كان ثمة دور ما فلا يعدو من باب العلم والخبر الذي لم تتمكن باريس من صرفه سياسيا محليا وافليميا.
- ان غالبية الرؤساء اللبنانيين كانوا ثمرة اتفاقات امريكية مع الاقطاب العربية الفاعلة كمثال السعودية ومصر ومن ثم سوريا، وطبعا ثمة رئيس واحد خرج على هذه القاعدة هو الرئيس شارل حلو،الذي اعتبر انتخابه وجها لانتصار الفرنكوفونية في المنطقة الا ان ذلك لم يدم طويلا بفعل الواقع الداخلي والافليمي الذي ساد مرحلة الستينيات من القرن الماضي.كما يعتبر انتخاب الرئيس سليمان فرنجية سابقة فارقة في اللعبة الديموقراطية اللبنانية الذي فاز بفارق صوت واحد على منافسه الياس سركيس.
ان الخطاب الاخير للرئيس الفرنسي ساركوزي امام سفرائه قد حدد ملامح التحرك الفرنسي في الملف الرئاسي اللبناني،منطلقا من عدة ثوابت تعتبر نوعا من تفادي أخطاء سلفه في الملف اللبناني،وهي بطبيعة الحال يمكن ان تؤسس لمسارات قابلة للحياة في بلد يعج بالأزمات الداخلية المستعصية وبات مفتوحا ومكشوفا على مختلف المحاور العربية والتجاذبات الاقليمية والدولية ومن هنا تكمن صعوبة الخيارات الفرنسية.
قالرئيس الفرنسي وقف على مسافة واحدة من جميع الاطراف اللبنانيين لعلمه المسبق ان هذه المحاولة يمكن ان تعيد نصف اللبنانيين الذين خسرتهم فرنسا الى احضانها،ولعلمه ايضا ان مهما عظم النفوذ الخارجي في مطلق ملف داخلي لبناني لا يمكن نجاحه الا باتفاق أطرافة اللبنانيين ومن هنا اشارته المحددة لعدم تجاوز آليات الدستور اللبناني في الانتخاب المتعلق بغالبية نصاب الثلين ما يعني اتفاق كل من المعارضة والموالاة على ايصال الرئيس المنشود الى سدة الحكم دون تحدٍ لأي طرف.
ان القراءة الفرنسية للظروف والمعطيات المستجدة في المنطقة ترجمها الرئيس ساركوزي بالاستعداد للانفتاح على الدول الفاعلة في المنطقة وتحديدا سوريا،ذلك يعتبر مؤشرا واضحا غلى تأثير دمشق في هذا الملف تحديدا،وعلى الرغم من محاولة الانفتاح الفرنسي على دمشق فقد كانت مشروطة بضمانات سورية يمكن ان تقدم بشأن دورها في لبنان وتحديدا علاقتها مع احزاب واطرف الموالاة في لبنان.
اضافة الى ذلك ثمة معطيات ومواقف أخرى اطلقت من وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير حول امكانية زيارة دمشق والانفتاح عليها بعد زيارته لبغداد مؤخرا،وتدل هذه المواقف ان باريس تحاول توسيع هوامش التحرك الشرق الاوسطي لتشمل عواصم تعتبرها واشنطن عرينها في المنطقة ومنها بغداد.ما يعني ايضا ان المناورة الفرنسية الجديدة بشأن الملف الرئاسي اللبناني يمكن ان يُقرأ من خلال محاولة الاستحواذ والتفاوض مع واشنطن لكسب بعض الاوراق التي يمكن استغلالها وصرفها سياسيا في الملف اللبناني.فباريس تدرك استحالة النفاد الى الملف العراقي لكنها تلعب ورقتها هذه بهدف كسب المزيد من القوة في الواقع السياسي اللبناني.
لقد ادركت فرنسا دقة وخطورة ما يسير اليه لبنان في هذه المرحلة وهي تعلق آمالا كبيرة على رئيس توافقي يخرج لبنان من ازماته الداخلية والتأثيرات الخارجية فيه،ورغم صعوبة ودقة المضي في هذا الملف فان باريس عرفت كيف يمكن ولوج وسلوك الطرق القابلة بايصال الامور الى نهايات سعيدة.لقد راهنت باريس على مؤتمر سان كلو وهي تدرك عدم جدواه العملية لكنها أدركت سلفا انه وسيلة لتأجيل الانفجار،اما الآن فلباريس أيضا قراءتها المختلفة المنطلقة من واقع المؤثرات الاقليمية وتحديدا السورية في الملف الرئاسي،ولذلك ان اشارات الانفتاح تبدو منطلقا مقبولا الا انه غير كافٍ دون المتابعة بخطوات عملية يمكن البناء عليها.
اليوم كما العام 1988 ،خلاف لبناني حاد على استحقاق الرئاسة الأولى وسط تجاذبات داخلية واقليمية ودولية هائلة،أنذاك تمكنت واشنطن من تجاوز فرنسا في الملف الرئاسي وأدى الفراغ الدستوري الى نشوء حكومتين ما أدت الى تسوية اتفاق الطائف ركيزته الاساسية المثالثة ضمن المناصفة بين الطوائف مع بقاء الرئاسة الاولى ذات نكهة خاصة قابلة للتأويل في مجال الصلاحيات وغيرها،هل ثمة تفكير في تركيبة جديدة للبنان يمكن ان تكون فرنسا خارجها؟ربما سؤال يطرح نفسه في الاوساط السياسية اللبنانية.
لقد كررت فرنسا اكثر من مرة هواجسها من انفلات الوضع في لبنان وخروجه عن طور المألوف،ويبدو انها تدرك تماما مخاطر الانزلاق في اتون حرب داخلية جديدة سيكون اللبنانيون ادوات مختلفة لتمرير مشاريع اكبر منهم،فهل ستتمكن باريس هذه المرة من منع الانفجار الكبير الذي ستتمدد مفاعيله الى غير مكان في الشرق الاوسط؟ان عدة التحرك الفرنسية الحالية تبدو تقليدية ولم ترق الى المستوى الذي يؤهل مهمتها في النجاح،فالاشتباك السياسي القائم في المنطقة ربما يكون اكبر من لبنان ومن اللاعبين فيه وحوله،لذا ان مستلزمات الحل والربط ينبغي ان تكون أكثر فاعلية وحيوية لمنع الانفجار الكبير الذي لا تحمد عقباه،فالخاسر الأول سيكون لبنان وكما قيل في الماضي القريب في بعض الاوساط السياسية اللبنانية ان الرئيس اميل لحود يمكن ان يكون آخر رؤساء لبنان الذي نعرفهّ ، فهل من مصلحة لفرنسا في ذلك؟سؤال كبير تُسأل عنه فرنسا وما يدبر في كواليس السياسات الدولية.