20‏/02‏/2008

محاكمة صدام: صِدام للحقائق ام اصطدام بها؟

محاكمة صدام: صِدام للحقائق ام اصطدام بها؟
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

ليس بوارد تعداد ما اقترفه صدام حسين خلال حكمه للعراق، فاللائحة تطول بطول بقائه في السلطة ، وأقل التهم الموجهة اليه هي من نوع جرائم الحرب والابادة الجماعية التي ليس لها مثيل في تاريخ الديكتاتوريات الحديثة منها والقديمة، الا ان اللافت في الامر غياب ادانته في الحرب على ايران وهي اساس علة نظامه، ففيها انطلق في بداية مغامراته السياسية – العسكرية الخارجية ولم يعد بمقدوره العودة الى الوراء،فأكمل المغامرة بغزوه الكويت،مع سلسلة من الجرائم الداخلية بدء من المجازر والمقابر الجماعية شمالا وجنوبا لتطال مختلف اطياف الشعب العراقي.
كل ذلك لم يكن وليد صدفة عابرة في شخصية محيرة حكمت العراق وسياسات المنطقة لربع قرن، الا ان السؤال الملح هو، هل كان بمقدور صدام حسين ونظامه المضي في تلك المغامرات دون محرض ومساعد في تنفيذها؟وبالتالي هل ان محاكمته في هذه الطريقة كفيلة بالاجابة على هذا السؤال؟ من هنا تكمن اهمية المحاكمة وطريقتها في محاولة لكشف الكثير من الاسرار والخلفيات ولو ان بعضها بات معروفا ومتداولا به. وبعبارة اخرى هل ان محاكمة صدام امام محكمة عراقية كافية لكشف الملابسات المحيطة بجرائمه؟ام ان محاكمته امام محكمة دولية كفيلة باحقاق الحق لمن لحق به الاذى؟
فمن الناحية القانونية البحته يمكن تسجيل العديد من الملاحظات منها:
- ليس مصادفة ان اول قرار اتخذه مجلس الحكم في العراق هو انشاء المحكمة الجنائة وقد حمل الرقم واحد،وليس مصادفة ان يكون القرار الاول التي اتخذته الحكومة المؤقتة انذاك احالة صدام حسين على هذه المحكمة،ما يدل على نية اغلاق ملف صدام عراقيا،بهدف طمس الكثير من الحقائق والملابسات المثيرة للجدل والتي بغالبيتها ذات طابع اقليمي ودولي.
- واذا افترضنا ان احالته امام محكمة عراقية نظرا لطبيعة التهم الموجهة اليه ، فمن بينها غزوه للكويت، وتهم مفادها تخريب العلاقات مع بعض الدول العربية، فكيف تستثنى الحرب مع ايران.
- واذا افترضنا ايضا ان هناك من يدعي ان احالته للمحكمة الجنائية الدولية يتتطلب اجراءات رسمية، فهذا غير صحيح ،فالدعوة يمكن ان تقدم من أي مواطن عراقي يثبت انه أي صدام حسين قد ارتكب مجازر بحق البشرية وهذا سهل الاثبات، لا بل هذه التهمة موجهة اليه في لائحة الادعاء.
- ان اعادة العمل في عقوبة الاعدام في العراق بالتزامن مع احالته امام المحكمة العراقية دليل قاطع آخر لاغلاق هذا الملف وفقا للكيفية التي تخدم مصالح قوات الاحتلال الامريكي في العراق.
- وما يؤكد هذا الاتجاه ايضا كما اسلفنا عدم الاشارة لا من قريب ولا من بعيد الى الحرب العراقية – الايرانية،وهي جوهر المشكلة في محاكمته لما للولايات المتحدة الامريكية من دور اساس فيها.
- اضاقة الى ذلك ان تسليمه للحكومة العراقية في اليوم الاول "لتسلمها السلطة" قد اعطى انطباعا ساذجا لمظهر السيادة العراقية، الامر الذي لا يؤكد سيادة الحكومة العراقية الا على صدام حسين نفسه ،هذا اذا تمكنت من ذلك ووفقا لشروط المحتل.
- أن مثول صدام حسين أمام محكمة جرائم حرب عراقية "فريدة من نوعها"، وتمثل فرصة لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش -المعروف عنها كرهها للمحاكم الدولية لجرائم الحرب- لإقامة محكمة جرائم حرب يمكن أن تكون مثالاً يُحتذى به، وبالمقارنة بمحاكم جرائم الحرب في نورمبرج وسيراليون، فإن المحكمة العراقية الخاصة منذ بدايتها ليست هيئة قضائية دولية مستقلة؛ إذ أصرت الحكومة العراقية على محاكمة صدام في العراق -وفقًا للقانون العراقي- وأمام قضاة عراقيين، في حين أرسلت أمريكا محامين ومسئولين بهيئات تنفيذ القانون لتجهيز وحبك الأدلة المقدمة ضد الرئيس المخلوع؛ لتقديم دليل شرعي ضده، ولرسم إستراتيجية إجراءات التقاضي.
- أن التجربة العراقية تختلف من نواح عدة عن المراسم البروتوكولية المتبعة في المحاكم الدولية لجرائم الحرب. فكل من المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا، ومثيلتها في رواندا، عقدت خارج البلد نفسه في محاولة لتقليل مظاهر الغضب والاضطراب أما المحكمة الخاصة من أجل سيراليون فقد عقدت في البلد نفسه، واستندت في إجراءاتها إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان وتشكلت من قضاة ومحامين من سيراليون وخارجها. ولم يكن هناك حظر على محاكمة مواطنين من دول أخرى مثلما الحال في محاكمة صدام. وأما المحكمة العراقية الخاصة فستعتمد على خليط من القوانين العراقية والدولية.
ومن الناحية السياسية يمكن القول ان محاكمة صدام حسين من الممكن ان تكون سابقة في تاريخ الرؤساء العرب ، فهو الرئيس الاول الذي نسقطه قوات غازية لبلاده و تسلمه لمحكمة هي نتاجها المادي والمعنوي،ورغم الادلة الدامغة لامكانية مثوله امام محكمة دولية فقد عمدت واشنطن الى الغاء صفة اسير حرب عنه وقدمته كمجرم عادي للمحاكمة ،الامر الذي يثير العديد من التساؤلات حول خلفيات المحاكمة وما يمكن ان ينتج عنها.
ان التدقيق في تاريخ علاقات نظام صدام حسين بالولايات المتحدة الامريكية لا سيما اجهزتها الامنية يقودنا الى العديد من الملاحظات ابرزها:
- ان هناك تنسيق دقيق وواضح بين صدام والادارة الامريكية في مختلف حقبات عهده، لا سيما في الفترات الاولى لتسلمه السلطة ،وخصوصا في ملف الحرب مع ايران، ولم يعد بالسر زيارات دونالد رامسفيلد الى بغداد واجتماعاته التنسيقية مع صدام بشأن الحرب وما تستوجبة من تكنولوجبا ومعلومات لم تبخل الادارة الامريكية يوما بتزويدها لصدام.
- كما لم يعد خافيا على احد اجتماع سفيرة واشنطن في بغداد ابريل غلاسبي مع صدام حسين قبل غزوه للكويت بأربع وعشرين ساعة واعطائه الضوء الاخضر للغزو.
- كما لم يعد سرا مدى التسهيلات والتمويل والتخطيط والتنفيذ لنظام صدام فيما يتعلق بسياساته الخارجية، الامر الذي ورَّط العديد من الانظمة الاقليمية في مغامراته غير المحسوبة النتائج.
لكل تلك الاسباب ولغيرها قُدم صدام حسين لهذه المحاكمة السريالية والتي هي اشبه بمسرحية قد تطول فصولها بحجم الدعم الذي قُدم له،وعلى الارجح لن تكشف الحقائق كاملة لانها ستطال ليس الادارات الامريكية المتعاقبة فقط، وانما انظمة وعروشا استمدت قوتها واستقرارها من دعم صدام حسين ونظامه. لذا نتمنى ان تكون المحاكمة صِدام مع الحقائق حتى كشفها كاملة ، ولا تكون إصطدام مع الحقائق للفلفتها!.