20‏/02‏/2008

السياسة الخارجية الروسية في عقد التسعينيات

السياسة الخارجية الروسية في عقد التسعينيات
د .خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني
السبت : 24-2-2001

على مدى خمس وسبعين عاما اتسمت السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي السابق بالمواجهة العقائدية والدبلوماسية تجاه الغرب ومن يدور في فلكها ، وأتى انهيار الاتحاد لتحاول روسيا الاتحادية الحلول مكانه وخصوصا على مستوى السياسة الدولية ، الا ان العديد من العوائق وقفت في وجهها للعديد من الاسباب والاعتبارات .
وفي الواقع جاء العقد الاخير من القرن الماضي ليسجل تقدما هائلا في مجال المعلوماتية والعولمة والانفتاح على الاسواق العالمية ، وبالتالي خلق الفرص الكبيرة للمتغيرات الدولية التي انعكست بشكل مباشر على روسيا الاتحادية الامر الذي اوجدها في مواجهة مكشوفة مع عالم رأسمالي لا يرحم من يهادنه ويحاول الاتكال عليه بنوايا وردية زاهية ، مما دفع روسيا الى انتهاج سياسة خارجية غالبا ما كانت غير قادرة على تركيزها وفقا لما ترغب به .
ومن هنا يطرح السؤال ماذا حل بالسياسة الخارجية الروسية في ظل النظام العالمي الجديد ؟ وما هي مرتكزات هذه السياسة ؟ .
بداية لقد حاولت روسيا الاتحادية صياغة سياسة خارجية تلبي المتغيرات المحيطة بها من انتقال الى اقتصاديات السوق ومحاولة مهادنة الغرب في كسب ودها لجلب المساعدات الخارجية ، وهذا ما تتطلب تراجعا واضحا عن سياسة الند للند التي يجب ان تتوافرلاي دولة كبرى تود لعب ادوارا سياسية دولية ذات شان هام ، وانطلاقا من هذه الرؤى حاولت روسيا ترتيب اولويات وفرض شروط على الغير في محاولة للاستفادة منها على الصعيدين الداخلي والخارجي ، ومن ابرزها :
- عدم التدخل في محيطها الجغرافي ، أي في المجال الجيو - سياسي الذي تعتبره اساسيا بالنسبة لها وهي المناطق التي كانت تابعة لها تاريخيا لاسيما في الحقبة السابقة للاتحاد السوفياتي المنحل .
- ضمان الحصول على موقع خاص يمكنها من المشاركة في أي دور لصياغة امن اوروبي باعتباره امرا حيويا في قلب حدودها الشرقية ، كما تعتبره امرا يكرس وضعها كدولة كبرى في العالم بعدما ورثت اسميا الدولة العظمى عن الاتحاد المنحل ، كما انه بنظرها حضورا لتراث وثقافة وحضارة ضاربة في جذور التاريخ العالمي .
- اظهار مفهوم الدولة ذات العمق الجيو - سياسي الهائل لما تمتد اراضيها من منتصف القارة الاوروبية وانتهائا بحدود آسيا الغربية وما تحتوي من موارد استراتيجية هائلة تمكنها من حضور سياسي متقدم على المستويين الاقليمي والدولي .
واذا كانت هذه اولويات السياسة الخارجية الروسية فلقد حاولت الاعتماد على عدة امور لتنفيذها ومنها :
- العضوية الدائمة في مجلس الامن الدولي ، واقامة العلاقات الودية مع غيرها من الدول وخصوصا الكبرى منها .
- وعلى الرغم من تدهور اوضاعها الاقتصادية ، فقد شاركت منذ العام 1991 في اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع ، أي اقامة شبكة من العلاقات ذات الاهداف الاستراتيجية .
- اقامة علاقات وثيقة مع دول الاتحاد الاوروبي باعتباره شريكا هاما على المستوى التجاري بعدما اعتبرته عدوااساسيا في الحقبة السوفياتية .
- الاحتفاظ بالسلاح النووي الموروث والتفاوض عليه لكسب موقع دولي ممتاز ، وهذا ما فعلته في التوقيع على معاهدة ستارت "2" في العام 1993 للحد من السلاح النووي رغم عدم توقيع مجلس الدوما عليها .
- ولضمان تفوقها الجيو- سياسي عمدت الى اقامة اتحاد الدول المستقلة مع الدول المنسلخة عن الاتحاد المنحل .
وانطلاقا من هذه المرتكزات حاولت الخارجية الروسية صياغة سياسة خارجية تتوافق مع الاوضاع الجديدة وتلبي ما يمكن تحقيقه من اهداف استراتيجية داخلية وخارجية ، ومن هنا يمكن ملاحظة حقبتين اساسيتين لجهة تنفيذ هذه السياسة .

اولا : المرحلة الاولى 1991-1996
في هذه المرحلة التي شهدت ولادة روسيا الاتحادية مجددا على الصعيد الدولي وكما اشرنا في محاولة لتركيز اوضاعها الداخلية والخارجية عمدت بشكل اساسي الى بناء اقتصاد السوق ،وبهذا الاطار يلاحظ ان الولايات المتحدة اعطت اهمية بارزة لروسيا باعتبارها سوقا استهلاكيا هاما للشركات الامريكية مستقبلا ، ولذلك لم تبخل عليها بالقرؤوض والمساعدات الدولية المشروطة ، الامر الذي ادى الى سياسة خارجية روسية تراعي السياسة الامريكية الى اقصى الحدود وفي بعض الاحيان احتواء واشنطن لموسكو بشكل تام وخصوصا في القضايا الدولية، وقد ظهر ذلك جليا في سياسة روسيا الشرق اوسطية وبخاصة تجاه الصراع العربي- الاسرائيلي ومندرجات مفاوضاته .
ام العنصر الثاني في سياسة روسيا فكان الاتجاه نحو اوروبا باعتبارها شريكا اقتصاديا اساسيا وتقع مجمل الدول الاوروبية في عمق الخاصرة الجيو – السياسي الروسي ، ومن هنا كان توجه روسيا الى محاولة المشاركة في صياغة الامن الاوروبي على اسس مغايرة للحقبة السوفياتية ، أي بمعنى آخر من سياسة المواجهة العقائدية الى سياسة الانفتاح والمشاركة وصولا الى التعاون ان لم يكن التحالف .
وفي الواقع ان سماح اومساعدة روسيا الى جميع الجمهوريات السوفياتية السابقة في الانضمام الى حلف الناتو املا في مشاركة الصياغة الامنية الاوروبية لم يعط نتائجه المبتغاة ، وبدلا من محو الخط الفاصل بين الغرب والشرق بمفهومه السابق تكرس هذا الانقسام لمصلحة اوروبا وبدا وكأن الامر جاء على حساب روسيا ، فلا الدول المنضمة الى الناتو لبت طموحات روسيا ، ولا الولايات المتحدة الامريكة اعطت المجال الى روسيا لمشاركة امنية وفقا للتصور الروسي ، وكل ما اتاحت لها هو المشاركة من خلال الدخول في حلف الناتو الامر الذي رفضته روسيا ووافقت عليه بعد 27 ايار 1997 .
اما العنصر الثالث الذي ظهر في تلك المرحلة وهو اظهار الخلفية العرقية السلافية لروسيا من خلال الدعم الذي قدمته سياسيا وعسكريا لعناصر ازمة القوميات الناشئة في اوروبا لا سيما في الازمة اليوغسلافية وما تبعها من ازمات متفرعة ، الامر الذي عنى بالنسبة للروس اعادة بلدهم الى مصاف الدول ذات الشأن في المسرح الدولي .
باختصار شديد ، ان ابرز معالم تلك المرحلة تمثلت بالاهتمام بالشان الاقتصادي الروسي وانعكاساته على السياسة الخارجية الروسية وعلاقاتها الخارجية ، وكذلك الاهتمام بالشان الاووبي ومشاكله الناشئة ، اضافة الى الاستيقاظ العرقي الدفين منذ انشاء الاتحاد السوفياتي السابق ، من دون نسيان ابتعاد روسيا عن مسرح الشرق الاوسط الخزان الاساس للسياسات الدولية الفاعلة ، ومن دون اغفال حل حلف وارسو في تلك المرحلة وتحديدا في العام 1992 .

ثانيا : المرحلة الثانية 1996- 2001

تختصر هذه المرحلة عنوانا اساسيا وهو الخروج من سياسة الانعتاق والانزواء والتبعية الى سياسة " التمرد " اذا صح القول ، وفي الواقع لقد لعبت نتائج الانتخابات النيابية الروسية التي جرت عام 1996 دورا بارزا في اظهار تيارين اساسيين في الحياة السياسية الروسية وهما : الحزب الشيوعي الجديد بزعامة زيوغانوف والحزب القومي المتطرف بزعامة جيرونفسكي ، اللذان لعبا دورا اساسيا في ايقاظ روسيا من السبات العميق الذي رزحت تحته طوال السنوات الخمسة السابقة .
وانطلاقا من هذه الوقائع الجديدة تمت صياغة اولويات جديدة في السياسة الخارجية الروسية على يد يفغيني بريماكوف الشيوعي السابق ذات الصيت الذائع في التيار المحافظ والمنفتح في آن معا على المتغيرات الحاصلة ، اما ابرز هذه الاولويات تمثلت في تراجع الاهتمام بالوضع الاقتصادي والتحول نحو اوروبا ، الى سياسة المواجهة الخجولة مع الولايات المتحدة في بعض المواقع وسياسة التحدي في بعضها الآخر ، فعلى سبيل المثال لا الحصر اخذت روسيا منحا مغايرا للتعلمل مع العراق في العام 2000 كما شهدت انفتاحا ملحوظا على القضايا الدولية الهامة .

ثالثا : التوجه جنوبا

لقد تحكمت واشنطن عمليا بسياسة روسيا الخارجية بشكل واضح في بداية التسعينيات وبخاصة لجهة الزام موسكو عدم بيع الاسلحة الى الحلفاء التقليديين للاتحاد السوفياتي لا سيما دول الشرق الاوسط وبخاصة ليبيا التي خسرت موسكو مبلغا يقارب 36 مليار دولار نتيجة هذا الالتزام وكذلك خسارة العملات الاجنبية المتأتية عن هذا القطاع من دول كوريا الشمالية وكوبا والدول الاشتراكية السابقة كمصدر هام لاستيعاب التكنولوجيا العسكرية السوفياتية ، الا ان السبات الروسي لم يدم طويلا خاصة في الاوقات التي لم يلبي البنك الدولي احتياجات روسيا المالية ، فكان التوجه مجددا الى سياسة التملص من حظر بيع الاسلحة حيث تركز الاهتمام على ايران ودول جنوب روسيا الاسلامية وتركيا ومؤخرا العراق من خلال كسر الحظر المفروض عليها .

رابعا : الاتجاه شرقا

لقد دأبت روسا منذ زمن طويل عي تنمية سياستها الخارجية مع اليابان باعتبارها ماردا اقتصاديا من الصعب اغفال امكانياته والاستفادة منها ، وفي المقابل كانت اليابان تسعى ايضا الى ذلك التعاون ، الا ان مشكلة جزر الكوريل الموروثة منذ الحرب العالمية الثانية والتي تقف عائقا حتى الان لتوقيع معاهدة سلام روسية - يابنية ، تقف عائقا امام هذا التطور المرغوب بين الطرفين ، ورغم ذلك فان العديد من المحاولات قد قامت لتجاوز هذه النقطة الخلافية الاساسية الا انهما لم يتوصلا الى نتيجة متقدمة وظلت علاقات البلدين في الاطار الموروث السابق مع بعض التحسينات الشكلية من خلال زيارة بورس يلتسين ومن ثم زيارة فلاديمير بوتين الى طوكيو .
وبعكس هذه العلاقة فقد تمكنت موسكو من صياغة سياسة خارجية متقدمة مع الهند عبر توقيع اتفاقيات استراتيجية في مجال التكنولوجيا المتطورة لا سيما النووية منها ، الامر الذي ادى الى تقارب واضح واستراتيجي بين البلدين .
وانطلاقا من سياسة ايجاد تعدد في الاقطاب الدولية في ظل النظام العالمي القائم حاولت روسيا جادة الى تحسين العلاقة مع الصين وقد تجلى ذلك في اتفاقيات لتخفيض الاسلحة والجيوش على جانبي الحدود والتبادل التجاري وغيره ، وفي الواقع ان حاجة روسيا لابراز أي دولة قوية في العالم بمواجهة واشنطن هو الامر الاساسي الذي دفعها لسياسة التقارب مع الصين تحديدا كونها الدولة ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن والشريك العقائدي المشاغب ابان الحقبة السوفياتية السابقة .

خامسا : خلاصة واستنتاجات

من كل ما تقدم يمكن ابراز العديد من النقاط في السياسة الخارجية الروسية وأبرزها :
- تأكيد الوجود الروسي في صياغة التعاون والامن الاوروبي ولو بالكيفية التي لم ترضها تماما والذي تمت الموافقة عليه بعد حين أي في 27ايار 1997 .
- تأكيد الحضور الروسي الفاعل في ادارة والمساهمة في حل المشكلات القومية في اوروبا وبخاصة مشاكل الصرب مع البوسنيين والكوسوفيين .
- العمل على التعددية القطبية في محاولة لمنافسة الولايات المتحدة الامريكية .
- العودة الى المواقع التي تخلت عنها مرغمة في بداية التسعينيات وخصوصا المواقع الساخنة منها , وبخاصة ازمة الخليج وتحديدا الشق العراقي منه .
اخيرا لا بد من القول ان أي سياسة خارجية ناجحة وفعالة من المفترض ان تبنى على اسس ووقائع ذاتية وموضوعية مساعدة لها ، وهذا ما تحاول روسيا فعله حاليا بصرف النظر عن حجم النجاحات المحققة او الاخفاقات الظاهرة ، او حتى الامكانات المتواضعة المتاحة .