13‏/02‏/2008

الاستراتيجية الإمبراطورية في وثيقة الامن القومي الاميريكي

الاستراتيجية الإمبراطورية في وثيقة
الامن القومي الاميريكي
د.خليل حسين

أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب


القسم الاول
خلفية الامبراطورية الاميركية

هل ان النزعة الإمبراطورية الأمريكية الجديدة قد ظهرت فجأة وبشكل منفصل عن سياق قائم؟ ام ان أحداث الحادي عشر من ايلول/ سبتمبر2001 كانت البداية التي انطلقت من خلالها الولايات المتحدة لتدشين واقع جديد ورسم معالم الإمبراطورية الجديدة؟ وهل ان الإدارة الأمريكية اليمينية الحالية بقيادة جورج بوش قد ساهمت في تشكيل معالم تلك الإمبراطورية أم أنها ساهمت فقط في إبرازها وتجسيدها سريعًا على أرض الواقع ؟. العديد من الاسئلة يمكن ان تطرح نفسها ، والاجابة عليها توضح مدى الخلفيات التي تقف وراءها واشنطن في صياغتها لوثيقة الامن القومي وعن الكيفية التي طبقتها في الداخل والخارج .

اولا :الولايات المتحدة وبناء القوة
تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية منذ استقلالها من بناء قوتها الذاتية، وانطلقت بسرعة قياسية بحسب تعبير بول كيندي، وساعدها في ذلك انعدام القيود الفعلية الاجتماعية والجغرافية، وانعدام الأخطار الخارجية الكبيرة، إضافة إلى تدفق رأس المال الاستثماري وبخاصة الداخلي. وقد أدى الازدهار الاقتصادي المتسارع إلى ازدهار التجارة الخارجية، الأمر الذي دفع إلى الاهتمام بالعلاقات الدولية، وبروز الحاجة إلى تشكيل سياسة خارجية أمريكية متمايزة على الصعيد الدولي. لذا ضغطت الجماعات ذات المصالح لفتح أسواق خارجية وراء البحار. وهكذا فإن تنامي القوة الصناعية الأمريكية والتجارة الخارجية قد خلق الاهتمام بالسياسة الخارجية، وبدأ تحديد الدور الأمريكي في إطار العلاقات الدولية.
ثانيا : التوسع من الداخل الى الخارج
لقد اعتمدت أمريكا في بناء قوتها الذاتية على التوسع من الداخل إلى الخارج، فبعد انفصال أمريكا عن بريطانيا عام 1783 شرعت في التنكيل بأبناء الأرض الأصليين من الهنود الحمر، فعمل المستوطنون الأمريكيون خلال الفترة 1801 - 1845 على السيطرة على جنوب المحيط الأطلسي (فلوريدا) والوسط وشمال الوسط. ثم أحكمت السيطرة على معظم المناطق في الفترة 1846 - 1890 من الوسط والجنوب والشمال، وصولاً إلى أقصى الغرب الأمريكي حتى ساحل المحيط الهادي. وهكذا اكتملت السيادة التامة على كل أراضي العالم الجديد من العام 1853، كما ان السيطرة الميدانية شملت ثروات وخيرات الارض العذراء.
ثالثا : التوسع وبروز السياسة الخارجية
بعدما تمكنت الدولة الجديدة من بسط سيطرتها على كامل أراضيها"، بدأت في التوسع نحو مجالها الإستراتيجي باتجاه المحيطين: الهادي والأطلسي، ففي اتجاه المحيط الهادي، سيطرت على هاواي وبيرل هاربور في عامي 1842 و1887، ثم جزر الميدواي عام 1867، ثم جزر ساموا عام 1878 بعد معركة الفيلبين اثناء الحرب الأمريكية - الأسبانية، والتي انتهت بسيطرة أمريكا على تلك الجزر الشاسعة عام 1898. أما في اتجاه الأطلسي فقد سيطرت على جزر بورتريكو عام 1898 ثم تحكمت في قناة بنما في عام 1903، ثم غزت كل من فنزويلا ونيكاراجوا وهايتي وكوبا والمكسيك.
وهكذا توسعت أمريكا من الداخل إلى الخارج، بعكس التوسع الأوروبي حيث كان التوسع إلى المستعمرات أولاً، ثم نهب الثروات والعودة إلى الداخل لبناء القوة الذاتية. وقد انعكس هذا الاختلاف موضوعيًا على جوهر الرؤية الحاكمة الأمريكية للعلاقات الدولية من جانب، والدور العملي الذي سيتحدد وفقًا لهذه الرؤية من جانب آخر. فالخبرة الأوروبية للتوسع كانت في إطار التوازن الدولي للقوى الأوروبية بحسب معاهدة وستفاليا 1648، بينما الخبرة الأمريكية للتوسع لم تكن في إطار توازن القوى الدولية، وإنما انطلقت على قاعدة أن أمريكا (القوة البارزة حديثا) مساوية للنظام الدولي .
رابعا: أسس السياسة الخارجية الأمريكية
إن النظرة الأمريكية للسياسة الخارجية وللعلاقات الدولية تستند على المصلحة القومية العليا، والتي تتكون من مرتكزات ثلاثة : االامكانات والموارد الهائلة – القيم والمعتقدات الايديولوجية - القوة. لقد ادى تحالف الساسة ورجال المال ورجال الدين في أمريكا الى رسم الخلفية الفكرية الحاسمة للمصلحة القومية العليا للولايات المتحدة، التي أثرت بشكل مباشر على السياسة الخارجية ودورها في العلاقات الدولية. ويعبر أحد قادة البحرية الأمريكية عما سبق بقوله: "على الولايات المتحدة أن تنشر نفوذها التجاري في أنحاء الأرض كلها والتصدي للأهداف الإمبريالية الأوروبية.... إن مبدأ مونرو يوجب على الولايات المتحدة رفض أي نفوذ آخر.... الأمر محكوم بالمصلحة القومية وحدها، ولا يبدو أن له حدودًا. فعلى الولايات المتحدة الارتقاء إلى مصاف القوى العظمى.. المعلن في طلبها بهيمنة أمريكية ممتدة إلى ما بعد البحار..".
إن قراءة كثير من النصوص الواردة على لسان رجال الدين والسياسة والمال تعكس رغبة الهيمنة الاقتصادية والعسكرية وحتى الدينية على العالم. فالمشروع الأمريكي منذ وقت مبكر "بات هو جذْب كل البشرية إلى مجتمع مثالي، تشكل على الأرض الأمريكية، وتحقيقه أولاً بالتسامح، ثم بالقوة عند الاقتضاء، وأخيرًا وهو الأفضل والاسهل كما يعتقدون بالتجارة، إن مهمة أمريكا هي أن تدل بقية العالم على طريق التوبة والتطهير الكبير والإصلاح الاجتماعي، وتراكم الثروة بشتى الطرق.
وعليه فان النظرة الاميريكية نظرة "رسالية" و" فوقية " تجاه العالم الذي لم يزل يعيش في الظلمة بتبني قيمها وبالتجارة طواعية أو بالقوة إذا لزم الأمر. إن الرسالة الأمريكية هي مصلحتها القومية، وتحقيق المصلحة القومية إنما يحقق الرسالة الأمريكية: القيم/ الدين، والقوة، والتجارة، إنها استعادة للثلاثية الأوروبية". العسكري والتاجر والمبشر.
بيد أن الثلاثية الأوروبية كانت تعبر عن قوى أوروبية متعددة ومتنوعة في فكرها واتجاهاتها واهدافها، فيما الحالة الأمريكية فإنها تعبير عن حالة قوة مطلعة ذات ابعاد إمبراطورية خارج لعبة التوازن الدولي، وهذا ما استقرت عليه بشكل عام الرؤية الأمريكية للعالم على مدى قرنين تقريبًا. إن الإمبراطوريات بحسب وزير الخارجية الاميركي الأسبق هنري كيسنجر لا تهتم بأن تدير شئونها في إطار نظام دولي؛ فهي تطمح إلى أن تكون هي ذاتها النظام الدولي. هكذا مارست الولايات المتحدة الأمريكية دورها في العلاقات الدولية منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه توسعها الدولي وحاولت تكريسه في مختلف حقبات النطام الدولي .

خامسا : السياسة الخارجية بين منهجي روزفلت وويلسون
إن تتبع مسيرة السياسة الخارجية الأمريكية وإستراتيجياتها المتعاقبة للعالم منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى إدارة جورج بوش الابن ، تظهر الاستجابة لأمرين اساسيين:
- القوة المتنامية باطراد
- المصالح التوسعية الإمبراطورية
ولذلك تراوحت السياسة الخارجية الأمريكية بين مبدأين
1- مبدأ "القوة" المتمثل بمنهج الرئيس تيودور روزفلت
2- مبدأ القيم الأمريكية المتمثل بمنهج الرئيس وودرو ويلسون.
فبالنسبة للأول؛ الذي أرساه الرئيس روزفلت بما أسماه سياسة "العصا الغليظة"، وهي السياسة التي بررت حق الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة دور الشرطي، وبخاصة في أمريكا اللاتينية , وهي بطبيعة الحال انعكاس لمقدار القوة التي بلغتها أمريكا؛ فروزفلت اعتبر أمريكا، ليس فقط، صاحبة رسالة كونية، ولكنها أيضا قوة عظمى، وربما أعظم قوة، وبالتالي فان هذه الرسالة هي القادرة على حراسة وضبط العلاقات الدولية بحكم القوة التي بلغتها. ويذكر وزير خارجية الولايات المتحدة الاسبق ، هنري كيسنجر، عن روزفلت رفضه التأثير المفترض للقانون الدولي على القضايا الدولية التي تمس المصالح الاميريكية ؛ فالذي لا تستطيع الدول حمايته بقواها الذاتية لن يحميه الآخرون، فالحق الذي لا تدعمه قوة هو شرٌّ بل هو أكثر إيذاء من القوة المنفصلة عن الحق".
لقد طور روزفلت مبدأ مونرو الذي كان يقضي بمنع التدخل من الخارج ، إلى حماية مصالح الولايات المتحدة الآخذة في الامتداد إلى مناطق خارج حدودها.
اما بالنسبة للمبدأ الثاني؛ الذي جاء به وودرو ويلسون، والذي يتفق مع مبدأ ضرورة أن تتمثل الأمم الأخرى بالقيم الأمريكية من خلال منظومة كونية ؛ فالمبرر الذي بموجبه وافق ويلسون على المشاركة في الحرب العالمية الأولى كان إعادة تشكيل العالم على صورة أمريكا.
قد يبدو للوهلة الاولى أن هناك تناقضًا بين المبدأين، إلا أنه تناقض سطحي وليس بجوهري ، حيث لا يوجد خلاف على الهدف الإستراتيجي البعيد؛ ألمتعلق بالسيادة الأمريكية الكونية. فما رآه البعض أحيانا حول سياسة ويلسون بأنها تهدف إلى النزعة الأخلاقية صحيح شكلا، إلا أنه لا يختلف كثيرًا عن النهج الروزفلتي؛ فلقد وافق على الدخول في الحرب العالمية الأولى، ليثبت "هيبة وعظمة" أمريكا وتميزها، وأنه ليس من حق أمريكا أن تدخر قيمها لنفسها فقط، كما رأى ، باعتبار أن أمن أمريكا لا ينفصل عن أمن باقي الجنس البشري كله، إنها المسئولية عن الآخرين التي اتخذت طابعًا أخلاقيًا، حيث أمريكا لدى ويلسون، أمة صاحبة رسالة، وإن كان هذا لا يمنع من ممارسة القوة.
إن الجانب الأخلاقي في الثلاثية الأمريكية يتسم بالطابع الديني؛ وهو ما جعل للنموذج الأمريكي "رحمة الرسالية"، وذلك يعود لتأسيس القارة الجديدة (أمريكا)، أو "إنجلترا الجديدة" New England على يد البيوريتانيين وهي" فئة متشددة بروتستانتية "، حيث كانت لهم رؤية خاصة للعالم وللحياة وللإنسان. ولا يمكن إغفال أن أمريكا قد تأسس فيها المجتمع والدين في آن واحد، وهو ما سيدفع إلى أن تتحرك مجموعات بشرية لتنظيم نفسها كحركة سياسية اجتماعية ذات مرجعية دينية، وأن تؤسس كيانات وتحالفات عدة في إطار المجتمع المدني لديها رؤية سياسية، وهو ما اصطلح على تسميتهم باليمين الديني، الذي سيعمل كجماعة ضغط، حتى وصول الرئيس جورج بوش الابن إلى الحكم .
فالخلفيات الفكرية والعقائدية لدى القادة الاميركيين ن قد اسست لنزعات امبراطورية منذ نشاة الدولة وتعاملت مع المحيط الدولي على هذا الاساس ، وان خبى هذا السلوك في مراحل معينة فهو يعود بالدرجة الاولى الى ظروف دولية غير مؤاتية لها ، وعليه فان ما حدث في 11 ايلول / سبتمبر 2001 ، كان الدافع لاعادة تحريك ذلك السلوك مجددا، وهذا ما سيتبين لنا من خلال تحليلنا لوثيقة الامن القومي ، التي تشكل العامود الفقري لتنفيذ المصالح الحيوية الاميريكية .

القسم الثاني
استراتيجية الأمن القومي الاميركي
من الناحية الفعلية والعملية يشارك في صياغة وثيقة الامن القومي العديد من فئات وشرائح المجتمع الاميريكي ، بدءا من السلطلتين التنفيذية والتشريعية مرورا بالفئات الاكاديمية والاعلامية ، والمجمع الصناعي - العسكري وانتهاءا بالنخبة الاستراتيجية . وهذا ما يعكس عمليا تجنيد طاقات وخبرات هائلة في رسم السياسات العامة الاستراتيجية التي تتطلب احاطة شاملة لكافة المسائل ، نظرا لتشابك وتوسع المصالح الاميركية على الصعيد العالمي .
وعلى الرغم من وجود خلاف وتباين فى الولايات المتحدة بشأن قضايا الدفاع والأمن القومى بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، كما تتنوع الرؤى والتصورات في هذا المجال، سواء بشأن التهديدات الفعلية والمحتملة والأولويات النسبية للإنفاق الدفاعى والطرق المثلى لتحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي، إلا أن هذا التباين والتنوع يظل ضمن إطار التكتيكات والأساليب، وليس في إطار الأهداف، فهناك شبه اجماع داخل النخبة الأمريكية بشأن ضرورة الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والحؤول دون ظهور أي قوى دولية منافسة، وصيانة المصالح الاقتصادية الأمريكية في جميع أنحاء العالم .
وتظهر الصياغة الرسمية الأكثر تكاملا ووضوحا لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في التقرير الذي يصدره البيت الأبيض كل خمس سنوات، وذلك بموجب القسم رقم 603 من قانون إعادة تنظيم وزارة الدفاع ، المعروف بقانون جولد ووتر ـ نيكولز لعام 1986. وكان التقرير الأخير المعمول به رسميا لاستراتيجية الأمن القومى الأمريكي قد صدر في كانون الاول / ديسمبر 1999، في عهد إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، باسم "استراتيجية أمن قومي لقرن جديد" .
وسلط هذا التقرير الضوء على الرؤية الأمريكية للفرص والمخاطر والتهديدات المتوقعة في الالفية الثالثة، والاستراتيجية التي ينبغي اتباعها لتحقيق أغراض الأمن القومي والحفاظ على المصالح الحيوية للولايات المتحدة، كما تضمن رصدا لاتجاهات التطور العالمي في القرن الحادي والعشرين، والآثار المفترضة التي يمكن أن تتركها هذه التطورات على الأمن القومي الأمريكي، اضافة الى تحديد أساليب تعزيز هذا الأمن في ظل الظروف الدولية المتغيرة.
وبعد وصول الحزب الجمهوري بشخص جورج بوش لسدة الحكم، أجرت الإدارة الجديدة عملية تعديل لبعض عناصر استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، لاسيما القوات العسكرية من حيث الهيكل والحجم والتسليح، ياعتبار أن المؤسسة العسكرية لم تكن لها الأولوية في اهتمامات الإدارة السابقة، وأن الإنفاق على القوات المسلحة وخفض مستوى نوعية الحياة للعسكريين العاملين في الخدمة وخفض الروح المعنوية للقوات قد ادى الى تراجع ملحوظ في نوعية وجهوزية الجندي الاميريكي وكفاءاته. وقد ركزت إدارة جورج بوش على محاولة إقامة هيكل جديد للقوة العسكرية الأمريكية بما يتوافق مع طبيعة عصر المعلومات في أوائل القرن الواحد والعشرين، بهدف زيادة قدرات وكفاءة القوات المسلحة الأمريكية من ناحية، وبما يضاعف من التفوق النوعي لهذه القوات على الساحة العالمية .
أولا: أهداف الأمن القومى الأمريكي
من حيث المبدأ لا تختلف أهداف الأمن القومي الأمريكي عن الأهداف المماثلة لاستراتيجيات معظم دول العالم لا سيما الكبرى منها، فهذه الاستراتيجيات تتركز في مجملها حول أهداف الأمن والرفاهية والمكانة الاقليمية والدولية، غير ان قدرات الدول في تحقيق تلك الأهداف تختلف حسب ما يتاح لها من الامكانات والقدرات الشاملة والموارد القومية الحيوية. وفى حالة الولايات المتحدة، تركز استراتيجية الأمن القومي على كل ما من شأنه الحفاظ على مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة كما اسلفنا، من خلال التركيز على ثلاثة أهداف رئيسة تتمثل في:
1- الحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي:
ذلك من خلال صياغة بيئة أمنية ذات بعد عالمي ، والتجاوب مع التهديدات والأزمات، والإعداد للمستقبل المفترض غيرالواضح . فمن جهة، تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيل وصياغة بيئة عالمية من خلال مجموعة من الوسائل، بما فى ذلك الأدوات العسكرية وشبه العسكرية والدبلوماسية والتعاون الاقتصادى والمساعدات الدولية وضبط التسلح ومنع الانتشار، انطلاقا من أن هذه الأنشطة تعزز الأمن الأمريكي من خلال صيانة الأمن الإقليمي، وضمان التقدم الاقتصادي، ومساندة الأنشطة العسكرية، والتعاون الدولي لفرض القانون، والجهود البيئية، ومنع أو تخفيض أو ردع التهديدات العدائية التي تواجهها الولايات المتحدة.
ورغم شمولية المفهوم واتساعه ووضع الامكانات الضخمة له ، لم تتمكن واشنطن من دفع ما اسمته التهديدات الارهابية التي استهدفتها، واستغلته لتوسيع اكبر في تطبيق تلك المفاهيم والمبادىء الى درجة الوصول الى تبني سياسة الحروب الوقائية التي تتنافى والمبادىء التي ارساها القانون والاعراف الدوليين، لا سيما مبادىء ومقاصد الامم المتحدة في حفظ الامن والسلم الدوليين.
2ـ تحقيق الرفاهية الاقتصادية:
وذلك من خلال تأمين الاستقرار في الأقاليم الرئيسة في العالم، التي تقيم الولايات المتحدة علاقات تجارية معها، أو تستورد منها السلع الحيوية، مثل النفط والغاز الطبيعي، وتتطلب الرفاهية أيضا الحفاظ على قيادة الولايات المتحدة في مجال التنمية الدولية والمؤسسات المالية والتجارية .
وهنا بيت القصيد في الاستراتيجية الاميريكية ، اذ ان عصب الحياة فيها هو الطاقة، ولتأمين ذلك يسنلزم المزيد حماية المصالح الحيوية المتمثلة بالنفط ومنها النفط الخليجي ، لذا سعت جاهدة في فترة الستينيات والسبعينيات الى حماية مصادر النفط عبر دعمها المباشر للدول النفطية، اضافة الى حماية ممرات النفط كمضيق هرمز وباب المندب والسويس وجبل طارق؛ فيما يلاحظ حاليا، او واشنطن استبدلت هذه السياسة ، على ما يبدو بسياسة احتلال مصادر النفط ، سيما وأن نصف استهلاكها من النفط هو مسنورد من الخارج وثلثه تديدا من الخليج ، اذ تعتبر السعودية البلد الثالث المورد لواشنطن وتأتي بعد فنزويلا وكندا.
3 ـ تشجيع الديمقراطية وحقوق الإنسان:
باعتبار أن الأمن الأمريكي يعتمد على حماية وتوسيع الديمقراطية على النطاق العالمي، لأنه بدون ذلك، فإن القمع والفساد وعدم الاستقرار سوف يسيطر على عدد من الدول ويهدد استقرار أقاليم بأسرها. ولذلك، فإن الولايات المتحدة تساعد على صيانة الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية في أوروبا الشرقية والوسطى، وفى الجمهوريات حديثة الاستقلال في الاتحاد السوفيتي السابق، إلا أن طرق مساعدة الديمقراطيات الحديثة تتنوع حسب تنوع المجتمعات ذاتها.
وحقوق الانسان والديموقراطية لها قصة طويلة مع سياسة واشنطن الخارجية ، فقد ابتدعت حماية الاقليات في الدول ورفعت راية المطالبة في حقوق الانسان، ولم يكن سوى اسلوبا ومجالا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ، ومنفذا لحياكة المؤامرات واسقاط الانظمة التي لا ترضخ لسياستها، او الانظمة التي استهلكتها، وهنا لسنا بوارد تعداد الامثلة لكثرتها وتنوعها، بحيث باتت امرا مسلما ومتعارف عليه.
ثانيا: التهديدات والفرص في الاستراتيجية الأمريكية
تؤكد استراتيجية الأمن القومي الأمريكي على أن الولايات المتحدة دخلت القرن الواحد والعشرين وهي في أوج قوتها وغناها، وتنفرد بمكانة القوة العظمى الوحيدة في العالم، وإن رياح العولمة يتزايد تأثيرها يوما بعد يوم، وأن واجب الولايات المتحدة هو أن تنتهز فرص العولمة لصالح الأمة الأمريكية وصالح الدول الأخرى حولها. وعلى الرغم من أن العولمة تخلق فرصا مختلفة، فإنها تنمو وسط مخاطر حقيقية ناشئة من سياسات، ما يصفه التقرير، ببعض الدول" المارقة" التي تعيش بمعزل عن النظام الدولي، كما تتأثر بالعديد من التهديدات الناجمة عن انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب والمخدرات والجريمة المنظمة، اضافة الى العديد من التهديدات الأخرى الناجمة عن تقلص الموارد الطبيعية وزيادة السكان وتدهور البيئة وانتشار الأمراض والأوبئة وانتشار الفساد وزيادة معدلات الهجرة غير الشرعية. وترى استراتيجية الأمن القومي الأمريكي أن المناخ الدولي يعكس قدرا كبيرا من عدم اليقين، وديناميكية عالية تكشف عن تهديدات وتحديات يمكنها أن تتزايد في المستقبل، تتمثل في:
1ـ تهديدات من دول وأقاليم معادية:
حيث يمتلك عدد من الدول إمكانيات تمكنها من تهديد جيرانها والولايات المتحدة والاعتداء على مصالحها. وفى معظم الحالات تحاول تلك الدول الحصول على قدرات هجومية وأسلحة تدمير شامل نووية وكيماوية وبيولوجية ، وكذلك وسائل إيصالها وقد سمت الادارة الاميركية عدة بلدان تقع في هذا الاطار كالعراق وايران وكوريا الشمالية.
وفي هذا الاطار لم يثبت حتى الآن امتلاك العراق لاسلحة غير تقليدية وما زال هذا الملف وتداعياته يرخي بظلاله الكثيفة على الادارتين الاميركية والبريطانية بعد زيف المبررات التي سيقت لشن الغزو على العراق، ولا زالت واشطن حنى الآن تمارس ضغوطا مختلفة على كل من ايران وافغانستان في هذا الملف .
2 ـ التهديدات العابرة للقومية:
وتنشأ من قوى تعمل عادة خارج نطاق الدولة القومية وتؤدى إلى الإضرار بالمصالح الأمريكية والمواطنين الأمريكيين داخل الولايات المتحدة وخارجها. مثال ذلك الإرهاب والمخدرات والجريمة المنظمة وتجارة السلاح والرقيق والنساء والأطفال؛ كذلك التهديدات الموجهة إلى بنية الولايات المتحدة الأساسية والمعلوماتية من خلال التخريب الإلكتروني لنظم المعلومات والأنظمة المسيطرة عليها.
ولهذا الغرض خاضت واشنطن اولى حروب القرن في افقر منطقة في العالم واهمها من حيث الموقع الاستراتيجي، بحجة ضرب الارهاب المتمثل بتنظيم القاعدة وحركة طالبان، ولم ينته الامر عند هذا الحد ، حبث تنقل الارهاب وفقا للمصلحة الاميركية من موقع الى آخر ، ليصل اخبرا الى المملكة العربية السعودية ، وهي المرشحة حاليا بعد العراق.
3 ـ انتشار التكنولوجيات الخطرة ذات الاستخدامات العسكرية:
مثل أسلحة الدمار الشامل، والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وتسربها إلى الدول الأخرى ذات النوايا العدوانية، ومجموعات الإرهاب والجريمة المنظمة. ولم يعد الامر خافيا على احد بعدما كشف النقاب عن مدى نساعدة النظام العراقي السابق في برنامجه الكيميائي في فترة الثمانينيات ابان الحرب مع ايران ، وكذلك المد والمساعدة في نفس المجال للنظام السابق في افريقيا الجنوبية، وغيرها الكثير من الامثلة التي لا تعد ولا تحصى.
4 ـ انهيار النظام في الدول:
فبرغم كل الجهود الدولية من المتوقع أن تتعرض بعض الدول لانهيار النظام العام فيها مما يؤثر سلبا على اوضاعها الداخلية ومن الممكن ان يكون لهذه الاضطرابات اذا حدثت امتدادات خارجية الامر الذي يهدد الامن والسلم الاقليميين لبعض المناطق المفترضة او المرشحة لهذه الانهيارات ، كما ان هناك دولا أخرى ربما لن تعانى من الانهيار، لكنها تتبنى اتجاهات قومية أو طائفية أو قبلية متطرفة تدفعها لأن تتورط في جرائم التطهير العرقي والمذابح الجماعية مما يؤدى إلى حروب أهلية داخل وخارج الدولة نفسها. فماذا فعلت في جنوب افرقيا سابقا ، وفي راوندا وبريتوريا والصومال وليبيريا، وماذا تفعل للشعب الفلسطيني وللشيشان في روسيا وللعراق حاليا، كثيرا من الانظمة تداعت ، وكثيرا من الانظمة المستبدة تهدد داخلها وخارجها ، فماذا فعلت تنفيذا لاستراتيجنها؟
5 ـ أعمال المخابرات المعادية:
وتتضمن التهديد الناتج من أنشطة التجسس المعادية وجمع المعلومات بكل اشكالها وأنواعها والتى تستهدف القوات المسلحة الأمريكية، والقطاع الاقتصادي والدبلوماسي والتكنولوجي والتجاري.ولهذا اعادت العمل بسياسة الاغتيالات بحجة ضرب الارهاب بعدما توقف العمل به منذ فترة السبعينيات.
6 ـ التهديدات البيئية والصحية:
حيث يمكن للكوارث البيئية والأزمات الصحية أن تقوض استقرار ورخاء المواطنين الأمريكيين. ومن الممكن أن يؤدى انتشار أوبئة مثل السل والطاعون والإيدز وغيرها إلى مقتل أعداد من المواطنين أكثر مما يمكن أن يحدث من جراء الحروب نفسها. وماذا فعلت في مجال البيئة حيث ما زالت ترفض التوقيع على معاهدة كيوتو للانخياس الحراري ، رغم انها الاولى في مجال استهلاك الطاقة، وكذلك من حيث انتاج ثاني اوكسيد الكربون ( اكثر من استراليا والبرازيل والهند وكندا وفرنسا والمانيا وايطاليا واندونيسيا والمكسيك وبريطانيا مجتمعين ) وكذلك الاولى في انتاج النفايات ( 720 كيلوغراما للفرد في السنة) والاولى في النفايات الصناعية( عشرين ضعف ما تخلفه المانيا المنافسة الاولى لها) وطبعا الاولى في استهلاك النفط والغاز الطبيعي والكهربا) .
ثالثا: دور القوة العسكرية فى تحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي
تركز الاستراتيجية الأمريكية على دور القوات المسلحة للولايات المتحدة، كمرتكز بالغ الأهمية في استراتيجية الأمن القومي، الى جانب الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والثقافية والتعليمية.
وتقوم هذه الاستراتيجية على أن الوجود العسكري البحري في أعالي البحار والأنشطة العسكرية في وقت السلم، تساعد في ردع العدوان وبناء التحالفات، كما تفيد أيضا في ضمان الاستقرار الإقليمي. وهى أداة رئيسة للدور الأمريكي على الساحة الدولية. وفى الوقت ذاته ، فإن الرادع النووي الأمريكي هو ضامن لردع العدوان ، وضمان المصداقية للالتزامات الأمنية الأمريكية للحلفاء، وإضعاف الدافع لدى أولئك الذين يسعون إلى تطوير أو امتلاك أسلحة دمار شامل ، مع الالتزام بالحفاظ على القيادة الأمريكية في الفضاء، والحفاظ على التفوق الأمريكي في مجال تكنولوجيا المعلومات. وقد ركزت استراتيجية الأمن القومي الأمريكى، قبل هجمات 11 ايلول / سبتمبر ، على أن أعداء الولايات المتحدة ربما يركزون على الأهداف المدنية داخل الولايات المتحدة باعتبارها الأكثر انكشافا وامكانية للوصول اليها ، ولتجنب المواجهة بشكل مباشر مع القوة العسكرية الأمريكية ؛ على اعتبار ان انتشار التكنولوجيا العسكرية المتقدمة قد أتاح لكثير من الدول والجماعات الإرهابية فرصة امتلاك قدرات تدميرية كبيرة أكثر ، في صورة صواريخ باليستية وأسلحة دمار شامل ووسائل حديثة للهجوم على البنية الأساسية المادية والمعلوماتية للولايات المتحدة بغرض تدميرها وإحداث اضطراب وفوضى مالية واقتصادية؛ وفى هذا الإطار، ركزت استراتيجية الأمن القومس الأمريكية على عدد من الوظائف الرئيسة للقوات المسلحة، بهدف مواجهة التهديدات أو حماية المصالح الحيوية، وتتمثل تحديدا في الدفاع ضد الصواريخ ، ومقاومة أنشطة التجسس الأجنبية في المجالات العسكرية والعلمية والتكنولوجية والاقتصادية، والاستعداد الداخلي لمواجهة أسلحة الدمار الشامل عبر الاستمرار في تطوير برنامج لمكافحة الإرهاب المحلي، وحماية منشآت البنية التحتية الحيوية، في مجالات الطاقة والاتصالات والنقل والمياه والبنوك ، ووضع خطة شاملة لحماية البنية المعلوماتية الأساسية، على أن يتم تنفيذها بالكامل في كانون الاول / ديسمبر 2003 الماضي، والتعامل مع حالات الطوارئ، وذلك بهدف حماية الأرواح والممتلكات، وتعبئة الأفراد والموارد والقدرات الضرورية، والتعامل مع الأزمات الخارجية، والاستعداد للتعامل مع طائفة واسعة من التهديدات في الخارج.
وتضع استراتيجية الأمن القومي الأمريكي قيودا على عملية استخدام القوات المسلحة، حيث يرتبط هذا الاستخدام بمستوى التهديد الذي تتعرض له المصالح الأمريكية ؛ ففي حالة تعرض المصالح الحيوية للخطر يكون استخدام القوة حاسما وبصورة منفردة إذا لزم الأمر دون اللجوء الى خيارات اخرى كالامم المتحدة ( كما حدث في غزوها للعراق مثلا)؛ أما في حالة تعرض مصالح أمريكية مهمة للخطر فسوف تستخدم القوة الأمريكية عند فشل الوسائل الأخرى غير العسكرية، وعندما تزيد قيمة تلك المصالح على المخاطر المتوقعة، مع ضمان النجاح في تنفيذ المهمة، وفى تلك الظروف سوف يحرص التحرك الأمريكي على أن يكون منسقا مع التحرك الدولي، بدون التردد عن القيام بعمل منفرد إذا كان ذلك ضروريا. أما إذا كانت المصالح المراد الحفاظ عليها أو دعمها أقل أهمية، أو ذات طابع إنساني، فسيتم الاستعانة بالقوات المسلحة لما تمتلكه من إمكانيات، وليس بسبب قدراتها القتالية شرط استنفاد الخيارات الأخرى، وعلى أن يكون الهدف واضحا، والتوقيت محددا، ولا تشكل خطرا كبيرا على أرواح الجنود الأمريكيين.
رابعا: تحولات استراتيجية الأمن القومي في ظل إدارة جورج بوش
جاءت إدارة جورج بوش، إلى السلطة فى بداية عام 2001، بأفكار جديدة في مجال الدفاع والأمن القومي، وركزت على إدخال تعديلات هامة على استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، حتى قبل وقوع هجمات 11 ايلول / سبتمبر. وتركزت التعديلات بخاصة على ثلاثة مجالات رئيسة هي: بناء القوات المسلحة، ودور القوة العسكرية في تحقيق أهداف الأمن القومي، وتحديد مصادر التهديد. وقد اندرجت معظم هذه التعديلات ضمن عملية المراجعة الدورية التي تتم كل أربع سنوات Quadrennial Review للسياسة الدفاعية الأمريكية، والتي كان النقاش السياسي والعسكري والعلمي قد اشتد بشأنها منذ أواخر التسعينات بعد انتفاء الحاجة لكثير من المرتكزات التي قامت عليها الايديولجيا الدفاعية الأميركية.
وقد استمدت هذه التعديلات قونها من عدة اعتبارات هامة، يأتي في مقدمتها : أن إدارة جورج بوش الجمهورية أعطت أولوية قصوى لقضايا الدفاع والأمن القومي، بدرجة أكبر من إدارة بيل كلينتون الديمقراطية السابقة، وعلى هذا الأساس، شهدت السياسة الدفاعية تحولات هامة، كمرتكز اساسي من مرتكزات استراتيجية الأمن القومي الأمريكي تمثلت فى:
1ـ التركيز على زيادة القدرات العملاتية للقوات المسلحة
من خلال بناء جيش أخف وإدخال أفكار ومفاهيم قتالية جديدة، حيث تبنى الرئيس جورج بوش موقفا يقوم على أن المؤسسة العسكرية الأمريكية مازالت منظمة بدرجة كبيرة لمواجهة تهديدات الحرب الباردة، أكثر من مواجهة تحديات قرن جديد، ولخوض عمليات عسكرية تعكس العصر الصناعي، أكثر من خوض معارك عصر المعلومات. ولذلك، ركزت السياسة الدفاعية في بداية عهد بوش على التعامل مع عالم سريع التغير، بما في ذلك تقليل الاستعداد لخوض حروب تقليدية، في مقابل التركيز على التعامل مع أوضاع أكثر تعقيدا، مثل الصراعات منخفضة الحدة كالدفاع عن تايوان في مواجهة حصار صيني مثلا، أو إبقاء مضيق هرمز مفتوحا أمام الملاحة الدولية . ورغم ذلك فقد خاضت الولايات المتحدة حربين خلال سنتين، الاولى في افغانستان والثانية في العراق وهي حروب تقليدية بكل معنى الكلمة ، رغم ما اثير من تساؤلات عن استعمال اسلحة غير تقليدية بمفاعيلها في كلا الحربين.
2ـ التركيز على برنامج الدفاع الصاروخي
حيث يأخذ هذا البرنامج الأهمية المركزية في السياسة الدفاعية لإدارة جورج بوش، بهدف مواجهة التهديدات والأخطار الناجمة عن اتساع نطاق الانتشار الصاروخي لدى الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة دولا "مارقة "، مثل كوريا الشمالية وإيران والعراق، وذلك في ظل قناعة بأن هذا التهديد يعتبر الأكثر خطورة على الأمن القومي الأمريكي في المستقبل القريب. ولذلك، فقد تبنت إدارة بوش منذ البداية موقفا طموحا للغاية من بناء نظام متكامل للدفاع الصاروخي، يقوم على الإسراع فورا في بناء نظام متعدد للدفاع الصاروخي دفعة واحدة، يكون مؤلفا من صواريخ اعتراضية منطلقة من البر ومن سفن بحرية أو قواعد بحرية، بالإضافة إلى أسلحة ليزر منطلقة من طائرات. وقد حصلت إدارة بوش من الكونغرس على مبالغ إضافية لسد العجز في الميزانية الدفاعية لعام 2001 تقدر بـ 5.9 بليون دولار، ذهب أغلبها لأغراض مواصلة برنامج الدفاع الصاروخي. وفي هذا المجال، ظهر خلاف شديد بين واشنطن وحلفائها في حلف الاطلسي حول اعادة مشروع الدرع الصاروخي ، لا سيما من الجانب الفرنسي والالماني حيث اعتبرتا ان مبرراته قد سقطتت وهو محاولة لاعادة سياق التسلح الى سابق عهده ، واذا كانت هذه الخلفيات المعلنة ففي الاسباب الحقيقية غير ذلك تماما، فبنظر الادارة الاميركية لا زالت التهديدات ضدها قوية من غير مكان في العالم ، وحتى واشنطن نفسها لا تنظر بعين الرضى والراحة الى مشروع الولايات المتحدة الاوروبية ، التي من الممكن ان تصبح منافسا لها على الصعيد الدولي ، وهي في مكان استراتيجي على مشارف الشرق الاوسط ، المنطقة الحيوية للمصالح النفطية الاميركية.
3ـ اعطاء اهمية متميزة لمسرح العمليات في آسيا
وهذا يعني حدوث تغير جذري في السياسة الدفاعية الأمريكية التي ظلت تركز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على مسرح العمليات الأوروبي بهدف منع اجتياح سوفياتي لدول غرب أوروبا أثناء الحرب الباردة. ويستند هذا التحول على أن هناك طائفة متنوعة من التهديدات والتحديات التي تواجه واشنطن في تلك المنطقة، يأتي في مقدمتها: النفوذ المتزايد لكل من الصين والهند، واحتمالات إعادة توحيد الكوريتين، والتوتر الهندي ـ الباكستاني، ووجود العديد من المنازعات الحدودية الإقليمية. وتركز السياسة الأمريكية الجديدة في آسيا على عنصرين رئيسيين هما: تطوير الوجود العسكري الأمريكي في آسيا، وبناء علاقات مشاركة شاملة مع الدول التي تمتلك قوات قادرة على التعامل مع الأزمات الإقليمية كالهند والباكستان وتركيا واسرائيل. وهناك أربعة مجالات رئيسية للتركيز الأمريكي على مسرح العمليات الآسيوي تتمثل في:
أ ـ احتواء الصين: فعلى الرغم من افتقار الصين نسبيا الى مقومات القوة العظمى ، إلا أن مكانتها المتزايدة تعتبر الهاجس الأكبر أمام الفكر الاستراتيجي الأمريكي ، باعتبارها الدولة المهيأة لأن تكون المنافس الأكبر على الصعيد الدولي في وقت لاحق للعديد من الاسباب الذاتية والموضوعية التي تحيط بالصين .
ب ـ الحاجة إلى الاقتراب من المنطقة من أجل مراقبة التطورات في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى، سواء من أجل احتواء أي صراعات محتملة في المنطقة او حتى استغلالها ، أو للتعامل مع احتمالات وصول نظم حكم قومية متطرفة في تلك الجمهوريات.
ج ـ الرغبة فى المشاركة فى عملية استغلال موارد بحر قزوين، الذي يثير قضايا عديدة بين الدول المطلة عليه، لاسيما تقاسم ثروات البحر النفطية، التي تحددها بعض التقديرات بحوالى 200 مليار برميل.
د ـ امتلاك القدرة على السيطرة على حركة التفاعلات الاستراتيجية في جنوب آسيا.

4 ـ تعديل السياسة النووية
حيث ركزت إدارة بوش على إدخال تعديلات على الاستراتيجية النووية الأمريكية، وبالذات من حيث الاستعداد لإجراء خفض من جانب واحد للترسانة النووية إلى أقل مستوى يمكن أن تسمح به اعتبارات الأمن القومي الأمريكي، بل وخفض عدد الرؤوس النووية الأمريكية حتى عن العدد الذي تحدده معاهدة "ستارت 2" ولكن مع إمكانية التراجع عن هذا الخفض إذا كان ذلك مطلوبا من منظور المصالح الأمريكية؛ وفي الوقت نفسه، تركز إدارة بوش على تحديث الترسانة النووية الأمريكية التي تدهورت بنيتها الأساسية، وأصبحت غير قادرة على إنتاج سلاح نووي جديد كما تصفها الوثيقة، كما تحتفظ إدارة بوش لنفسها بالحق في استئناف التجارب النووية الأمريكية، إذا احتاجت إلى ذلك من أجل تحديث أسلحتها النووية، ومن أجل التأكد من فعالية هذه الأسلحة. وأخيرا، فإن المؤسسة العسكرية الأمريكية اتجهت نحو تخفيض عدد الأهداف التي يمكن توجيه الرؤوس النووية الأمريكية إليها في حالة الحرب مع روسيا، وإضافة عدد صغير من الأهداف الجديدة في الصين.
5 ـ تعديل أسس بناء القوات المسلحة الأمريكية
إذ تم التراجع عن مبدأ خوض حربين أساسيتين في آن واحد، باعتبار أنه ـ حسب إعلان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد رسميا أمام الكونغرس الأمريكي في حزيران / يونيو 2001 ـ تسبب في حدوث ضغط عنيف على الإنفاق العسكري واستخدام القوات، كما أن القوات الأمريكية لا تمتلك أسطول نقل جوى قادر على خوض الحرب في مسرحَي قتال رئيسيين ( ولقد استلزم امر نقل قوات اميركية قبيل حربي الخليج الثانية والثالثة الى العراق حوالي اربعة اشهر في كل مرة ). أما المبدأ الجديد لبناء القوات فيركز على الانتصار بصورة حاسمة في حرب رئيسية واحدة، مع الاكتفاء بتنفيذ عدد من العمليات الأصغر في مناطق أخرى من العالم. وقد شكلت هذه التحولات الركيزة الأساسية لخطة الإصلاح العسكري التي بدأت إدارة بوش في تطبيقها، وتضمنت هذه الخطة تحولات جذرية في هيكل وحجم واستخدام القوات المسلحة الأمريكية بصورة غير مسبوقة منذ عقد الستينيات. وجرى التركيز فيها على إقامة هيكل جديد للقوة العسكرية يتجاوب مع التحديات والتهديدات الجديدة لعالم جديد، مع دفع التفوق التكنولوجي الأمريكي في المجال العسكري إلى مستويات جديدة لا تستطيع أي قوة دولية أخرى منافستها، الامر الذي يساعد على إبقاء مكانتها كقوة عظمى وحيدة على الساحة الدولية لأطول فترة ممكنة.
خامسا: انعكاسات أزمة ايلول / سبتمبر على أولويات الدفاع والأمن القومى
عندما وقعت هجمات 11 ايلول / سبتمبر، كانت خطة الإصلاح العسكري الأمريكي ما زالت في طور الإعداد، ولم يكن قد أعلن منها سوى الخطوط الرئيسية فقط ، وذلك في دراسة أعدتها مستشارة الامن القومي للبيت الابيض كونداليسا رايس عندما كانت مسؤولة عن حملته الانتخابية . وعلى الرغم من أن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب أدت إلى تراجع الحديث عن هذه الخطة، إلا أن العديد من المبادئ الجديدة في استراتيجية الأمن الجديدة كانت قد وجدت طريقها إلى التنفيذ في الحملة العسكرية الأمريكية على أفغانستان ولاحقا في العراق .
فقد أدت الهجمات إلى إعطاء الأولوية المطلقة لأغراض الدفاع والأمن القومي، بما في ذلك الاستعداد لخوض غمار حرب طويلة ضد الإرهاب، وأصبح الدفاع يفوق في أهميته أهداف الرفاهية الاقتصادية . وفى هذا الإطار، فإن هجمات 11 ايلول / سبتمبر أدت إلى إعادة تحديد الأمن القومي الأمريكي، ولاسيما في مجالات تعديل مصادر التهديد واتجاهاته، وبدا واضحا التركيز على اعتبارات الدفاع عن العمق الداخلي وصيانته ، ومراجعة أسس تشكيل القوات، والتأكيد على أهمية برنامج الدفاع المضاد للصواريخ ، وتظهر في الامور التالية :
1 ـ مصادر التهديد
فقد أدت هجمات 11 ايلول / سبتمبر إلى تعديل مصادر ونوعية التهديد الذي يواجه الأمن القومي الأمريكي، اذ أكدت على أن التهديدات التي يتعرض لها الأمن الداخلي للولايات المتحدة، من العمليات الإرهابية، تزيد في خطورتها عن التهديدات الخارجية. هذا التوجه الذي استجد مع هجمات 11 ايلول / سبتمبر ادى إلى اعطاء الإرهاب اهمية قصوى كمصدر للتهديد، وهو ما أوضحه الرئيس جورج بوش حين أعلن أن وقف الإرهاب ومحاسبة الدول التي ترعاه أصبحا التركيز الرئيس للإدارة الأمريكية، مما يشير إلى أن تلك الهجمات جعلت مكافحة الإرهاب بمثابة الموضوع الرئيس للسياسة الخارجية الأمريكية. وفي الوقت نفسه، اتجهت الإدارة الأمريكية نحو تنفيذ توجيه آلتها العسكرية نحو محاربة الجماعات الإرهابية، والدول التي تتهمها بمساندة الإرهاب، كما قامت بتنفيذ طائفة واسعة للغاية من الإجراءات الرامية إلى التصدي لأي عمليات إرهابية في المستقبل، وفى مقدمة ذلك الاهتمام بحماية البنية الأساسية للولايات المتحدة وتقوية نظام الدفاع المدني وتعزيز أجهزة الاستخبارات وفرض القانون، جنبا إلى جنب مع تعزيز دور قوات الحرس الوطني وقوات الاحتياط في مجال حماية الأمن الداخلي، وتوفير درجة أكبر من الحماية للحدود والسواحل ومنشآت البنية الأساسية الحيوية في الولايات المتحدة من خلال شبكة كثيفة للدفاع الجوي والصاروخي.
2 ـ بناء القوات وتطوير المفاهيم القتالية
ارتباطا بالنقطة السابقة، فإن التهديدات الإرهابية التي عكستها الهجمات أكدت الحاجة إلى بناء قوات أخف، وأكثر قدرة على الحركة، وأكثر قدرة على خوض هذه النوعية من الصراعات غير التقليدية. وتنبع أهمية هذه المسألة من أن القوات المسلحة للولايات المتحدة والدول الغربية ما تزال مبنية بالكامل بصورة تقليدية، بغرض الاستعداد لخوض الحروب النظامية التقليدية، وهو ما لا يتوافق مع طبيعة الحرب الجديدة ضد الإرهاب، والتي تعتبر حربا غير تقليدية، وتحتاج بالتالي إلى وسائل غير تقليدية لخوضها والانتصار فيها. ويرتبط بما سبق أيضا أن المفاهيم القتالية والعقائد العسكرية لتلك الدول كانت ما تزال غير قادرة على توفير استراتيجيات ملائمة للعمل العسكري في الصراع ضد الإرهاب. وخلال فترة ما قبل 11 ايلول /سبتمبر، كانت المؤسسة العسكرية الأمريكية قد بدأت بالفعل في تطوير العديد من الأفكار الخاصة بزيادة القدرات الحركية للقوات الأمريكية، ثم جاءت الحملة العسكرية الأمريكية في أفغانستان وحاليا في العراق فرصة مثالية لتطبيق العديد من الأفكار القتالية والنظم التسليحية الجديدة، بل أن هذه الحملة كانت بمثابة تطبيق نموذجي لما يعرف بـ الثورة في الشئون العسكرية، والتي ترتبط بالثورة الممتدة في تكنولوجيا المعلومات، والتي أثرت بصورة حاسمة على التكنولوجيا العسكرية والاستراتيجيات العسكرية.
3 ـ برنامج الدفاع الصاروخى
حيث أثارت الهجمات الجدل حول مدى ضرورات برنامج الدفاع الصاروخي ؛ فقد رأت أقلية أن البرنامج لن يكون فعالا في مواجهة العمليات الإرهابية، ودعت إلى زيادة الاهتمام بالجهود الرامية إلى التصدي للهجمات الإرهابية التي تستهدف العمق الداخلي للبلاد مستقبلا، فيما دافع آخرون، وكانوا الأكثر، عن البرنامج لاعتبارات عديدة، أبرزها أن الهجمات تؤكد من وجهة نظرهم على ضرورة بلورة سياسة شاملة لصيانة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة، وأن من الضروري أن تضع هذه السياسة في اعتبارها امتلاك القدرة على التصدي لجميع أنواع التهديد فى المستقبل، سواء بواسطة الطائرات الانتحارية أو الصواريخ الباليستية أو القوات التقليدية أو الهجمات الإرهابية، على أن يتم التحسب من احتمال أن تنجح الجماعات الإرهابية مستقبلا في امتلاك الصواريخ الباليستية، سواء من خلال شرائها أو تطويرها بالجهود الذاتية، لغرض استخدامها في الهجوم على الولايات المتحدة. وقد واصلت الإدارة الأمريكية اهتمامها ببرنامج الدفاع الصاروخي، وذلك عبر تنفيذ خطة للانتهاء من تطوير هذا البرنامج خلال أربع سنوات، ولو على الأقل تطوير نسخة بدائية منه بحلول عام 2005، مع إمكانية نشره للاستخدام العملياتي بحلول عام 2008. وقد أجريت بالفعل أول تجربة للدفاع الصاروخي في 14 تموز / يوليو 2001، حيث نجح الصاروخ الاعتراضي في إسقاط صاروخ باليستي مهاجم فوق المحيط الهادىء عقب 20 دقيقة من إطلاقـه، وهو ما قدم دعما قويا لخطط إدارة بوش الطموحة في مجال الدفاع الصاروخي. وفى الفترة اللاحقة، اضطرت إدارة بوش إلى إلغاء الشق البحري من هذا البرنامج، الذي يقوم على تطوير وإنتاج ونشر منظومات اعتراضية منطلقة من قواعد بحرية أو من سفن بحرية، وذلك بسبب الصعوبات الفنية وارتفاع التكلفة المادية، مع الاكتفاء بالمنظومات الاعتراضية التي تنطلق من القواعد البرية والمنظومات التى تنطلق من الطائرات.
4 ـ الانتشار العسكري الأمريكي في الخارج : حيث تخلت إدارة بوش عن السياسة التي سبق تطبيقها منذ مطلع التسعينات بإخلاء العديد من القواعد العسكرية لاسيما في بعض الدول الآسيوية كالفلبين وتايلاند وتخفيض عدد القوات الأمريكية كما حدث فى القواعد العسكرية في كوريا الجنوبية، وجرى تطبيق سياسة جديدة لبناء قواعد مختلفة لتمركز القوات الأمريكية انطلاقا من أفغانستان وعدد من دول آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وقرغيزيا، إضافة إلى التوسع في منح معدات عسكرية وقوات خاصة ومدربين عسكريين لعدد من الدول التي تقوم بمحاربة التنظيمات والجماعات الموسومة بالإرهاب ، وهو ما حدث فى كل من اليمن والفليبين وجورجيا ( وهذا ما سوف نركز عليه لاحقا ).
سادسا: الأمن الداخلي في الولايات المتحدة
ركزت الإدارة الأمريكية في آن معا على شن حرب واسعة على الإرهاب على الساحة الدولية، والقيام بسلسلة من الاجراءت الداخلية التي لم يشهد الوضع الداخلي مثيلا له ، وقد سعت جهود تعزيز الأمن الداخلي في الولايات المتحدة إلى تحقيق العديد من الأهداف، أبرزها الحيلولة دون وقوع المزيد من العمليات الإرهابية، باعتبار ذلك الهدف الأكثر إلحاحا أمام الإدارة ، ومعالجة الثغرات التي كشفت عنها الهجمات، بالإضافة إلى العمل على تحقيق هدف نفسي رئيسي يتمثل في توفير إحساس أكبر بالأمن للمواطن الأمريكي الذي فقد قدرا كبيرا من ثقته في قدرة حكومته على تحقيق الأمن.
1ـ هجمات 11 سبتمبر والأمن الداخلي الأمريكي
انطوت هذه الهجمات على العديد من الدلالات بالنسبة للأمن الداخلي في الولايات المتحدة، ويتمثل أهمها في:
أ - إن الولايات المتحدة لم تعد في مأمن من الهجمات الخارجية وعمليات الإرهاب الضخمة ، وذلك بعد أن ظلت لسنوات طويلة محصنة ضد أي اعتداءات خارجية على الأراضي الأمريكية، ومحاطة بمحيطين شاسعين وجارتين مسالمتين من الشمال والجنوب. ولذلك، فقد أدت الهجمات إلى حدوث صدمة عنيفة لدى الرأي العام الأمريكي، وازدياد الإحساس بعدم الأمن لدى المواطنين الأمريكيين، وباتت قضية الأمن الداخلي مطروحة بصورة أكبر بكثير من أي وقت مضى.
ب العجز عن الكشف المسبق عن العملية أثناء مرحلة التخطيط والإعداد، على الرغم من الإمكانات الضخمة لأجهزة الأمن والاستخبارات الأمريكية.
ج - ضعف قدرة أجهزة الأمن الأمريكية على التصدي السريع للعمليات الإرهابية فور وقوعها، حيث كشفت الهجمات عن وجود ثغرة هائلة في الدفاع الجوي حول المراكز الحيوية في الولايات المتحدة، وبدا ذلك واضحا في الهجوم على مقر وزارة الدفاع الأمريكية ، كما كشفت الهجمات عن ضعف فاعلية إجراءات الأمن على الرحلات الداخلية في المطارات الأمريكية. الامر الذي نتج عنه سجالات كثيرة شاركت فيه مختلف قطاعات المجتمع الاميريكي حول سبل حماية الداخل الاميريكي وأفضت الى تطوير استراتيجية الدفاع عن الأرض الأمريكية، مع التركيز على أربعة مجالات رئيسية هي: حماية البنية الأساسية للبلاد، وتقوية الدفاع المدني ضد الإرهاب، وتحسين قدرات أجهزة الاستخبارات ومؤسسات تطبيق القانون، وتطوير العمليات العسكرية في مجال محاربة الإرهاب.
2 ـ إجراءات تعزيز الأمن
تنوعت الإجراءات التي قامت بها الإدارة الأمريكية، عقب الهجمات بين نوعين رئيسيين:
- الأول يتمثل في الإجراءات الأمنية العاجلة المتعلقة بتسيير دوريات جوية وبحرية مكثفة، وتعزيز إجراءات الأمن في المطارات، وحماية البنية الأساسية الخاصة بالغذاء والمياه، وزيادة دوريات الشرطة حول خطوط البترول والغاز الطبيعي، وحماية البنية الأساسية في مجال المواصلات والطرق، وتخزين الأدوية والأمصال، وتأمين المنشآت الحيوية، ولاسيما المفاعلات النووية ومحطات الكهرباء الضخمة.
- الثاني يتعلق بالإجراءات طويلة المدى الخاصة بتعزيز الأمن الداخلي وزيادة قدرة أجهزة الأمن الأمريكية في مجال مكافحة الإرهاب، وهوا وتمثل فى تشكيل قيادة عسكرية جديدة للأمن الداخلي ، وقد تقرر بالفعل تشكيل هذه القيادة الجديدة بغرض تحقيق مجموعة من الأهداف، أبرزها:
أ - تشكيل قيادة عليا تتولى تنسيق جهود القوات المسلحة الأمريكية من أجل توزيع المهام المتعلقة بتعزيز الأمن الداخلي للولايات المتحدة.
ب - تعيين ضابط برتبة جنرال في موقع مسئول عن نشر قوات، بما في ذلك قوات برية وبحرية وجوية .
ج - تحقيق الانسياب في التسلسل القيادي، إذ أن إنشاء قيادة لأمريكا الشمالية سوف يجعل هيكل القيادة العسكرية الأمريكي أكثر تكاملا، وممتدا عبر الكرة الأرضية بالكامل .
ب ـ تعزيز قوانين مكافحة الإرهاب، حيث شرعت الإدارة الأمريكية فى سن حزمة من القوانين الجديدة الخاصة بالأمن ومكافحة الإرهاب، وكان من أبرزها قانون مكافحة الإرهاب، الذي صدر في تشرين الاول /أكتوبر 2001، بهدف تعزيز قدرة سلطات الأمن الأمريكية في مجال مكافحة الإرهاب. ومن أهم المواد التي يتضمنها هذا القانون:
1- إعطاء المدعى العام الأمريكي سلطة احتجاز الأجانب المشكوك فى قيامهم بأنشطة إرهابية لمدة سبعة أيام دون توجيه اتهام لهم.
2- إعطاء السلطات الفيدرالية الحق في التنصت على أجهزة التليفون المختلفة التي يستخدمها الإرهابيون المشتبه فيهم، بما في ذلك التنصت على التليفونات المحمولة والثابتة.
3- السماح لسلطات الأمن الحصول على تسجيلات الاتصالات عن طريق البريد الإليكتروني من الشركات التي تقدم خدمات الإنترنت.
4- مشاركة أجهزة البحث الجنائي وأجهزة المخابرات المشاركة فى المعلومات المتعلقة بالإرهابيين
5- السماح لوزارة الخزانة بسلطات أكبر لتتبع الأرصدة المالية التي يشتبه في أنها تستهدف تمويل عمليات إرهابية ورصد عمليات تبييض الأموال.
6- زيادة أعداد قوات حرس الحدود على الحدود الشمالية .
ويؤكد صدور هذا القانون على أن المجتمع الأمريكي وقع في حالة من الهوس الأمني في فترة ما بعد 11 ايلول/ سبتمبر، وأثرت هذه الحالة بالضرورة على طبيعة المجتمع الأمريكي وسلوكه كمجتمع ديمقراطي مفتوح. وعلى الرغم من أن العديد من الليبراليين ومنظمات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة وخارجها حذرت من أن تعزيز الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب يحب أن لا يكونا مبررا لانتهاك حقوق المشتبه فيهم، وشددت على ضرورة أن يتم ذلك بطرق تتفق مع القيم الأمريكية، ومن دون السماح للإرهابيين أن يغيروا انفتاح المجتمع الأمريكي أو احترام الحكومة للحريات المدنية، فإن أسلوب الإدارة الأمريكية في التعامل مع تداعيات 11 ايلول / سبتمبر على الصعيد الداخلي، انطوى على قدر كبير من العصف بمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية، سواء من حيث الاعتقال الواسع النطاق للعرب والمسلمين المشتبه فيهم في الولايات المتحدة ، حيث تم اعتقال اكثر من خمسة آلاف شهص في يوم واحد، أو من حيث شيوع خطاب سياسي يشجع على معاداة العرب والمسلمين.
3 ـ إنشاء مكتب للأمن الداخلي
أ ـ إنشاء جهاز للتنسيق الاستخباراتي وتحليل المعلومات
ب ـ ابتكار نظام جديد للإنذار بشأن احتمالات وقوع هجمات إرهابية .
ان الانعكاسات السلبية لهذه الاجراءات وان كانت ضرورية من وحهة النظر الامنية الاميركية، فقد اعادت بالوضع الداخلي الاميركي الى حقبة الاربعينيات والخمسينيات حيث كان الخوف والقمع في اشده تحت ستار محاربة الشيوعية ، وبروز ظاهرة المكارثية في معاجة مثل تلك المسائل ، كما ان توجيه الامور على الخوف الدائم من الارهاب قد غير وبدل في سلوك المجتمع الاميريكي مع كل حالة يمكن ان يتعرض لها ، وآخر مثال في هذا المضمار انقطاع الكهرباء عن نيويورك وبعض المقاطعات الاميركية الاخرى ، حيث كان من شبه المستحيل اقناع الشعب الاميريكي بأن ذلك لم يكن ناجما عن عمل ارهابي يصرف النظر عن صحة او عدم صحة التبريرات لذلك، وهذا ما يعتي رسوخ فكرة الانتقام الآتي من الخارج لدى الاميريكيين .

القسم الثالث
الانتشار العسكري الاميريكي واهدافه
لا شك بأن 11 ايلول/ سبتمبر كان مفصلا تاريخيا في حياة الولايات المتحدة الاميريكية او انه نظم ليكون كذلك، وتكفي قراءة خريطة الانتشار الاميركي في العالم بعد هذا التاريخ المفصلي مع أخذ كل الاجراءات الاستخبارية والامنية والمالية التي اتخذتها أميركا في الاعتبار، ليتبين ان عدة الحرب التي أعلنتها اميركا على الارهاب أقرب الى ان تكون عدة حرب عالمية ركيزتها الاساسية هذا الانتشار الذي لا مثيل له .
واذا كان الرئيس جورج بوش بدأ حربه على افغانستان لاسقاط نظام "طالبان" ومطاردة تنظيم "القاعدة" مرحلة أولى من الحرب، وحدد بعد ستة اشهر من 11 ايلول اهداف المرحلة الثانية بحرمان الارهابيين أي ملاذ في العالم، فان المرحلتين تداخلتا منذ البداية. وسار الاعداد لنشر قوات اميركية في مناطق مختلفة من العالم في موازاة الحرب على افغانستان وتحت عنوان ملاحقة قواعد "القاعدة" ومقاتليها اينما كانوا. ولما انجزت الترتيبات اصبح عنوان الانتشار رسميا "مهمات تدريب" في هذه الدولة او تلك لاعداد قوات فيها لمكافحة الارهاب.
وهكذا بعدما انتشرت القوات الاميركية في افغانستان وباكستان وآسيا الوسطى في اطار المرحلة الاولى من الحرب، انطلقت "مهمات التدريب" من الفيليبين الى كولومبيا ومن جورجيا الى اليمن، ومعها تدفق المال الاميركي والاسلحة في كل اتجاه لتثبيت قواعد جديدة في العالم. فهل هذا هدف في ذاته ام مجرد بداية؟ هل الغاية مكافحة الارهاب أم ترسيخ السيطرة الاميركية على العالم بتطويق قوى كبرى واقليمية؟ وهل الاسباب أمنية أم اقتصادية للتحكم بمصادر الطاقة؟ .
اولا : استعادة القواعد في جنوب شرق آسيا
كما اسلفنا نفذت واشنطن انتشارا عسكريا امتد من الفيليبين مرورا بجمهوريات وسط آسيا وصولا الى جورجيا ، وليتكامل الانتشار العسكري في الخليج انزلت قواتها في اليمن وغيرها، فكيف بدأت القصة مع كل انتشار وما هو خلفياته:
1 – الفيليبين والتدريب
في كانون الثاني 2002 بدأت مجموعة من 660 جنديا اميركيا بالوصول الى الفيليبين في اطار ما سمي "مهمة تدريب" مدتها ستة اشهر تنتهي منتصف حزيران "لتعزيز خبرات القوات الفيليبينية في مواجهة الارهاب"، وذلك وسط حملة من التصريحات الاميركية الرسمية والمقالات الصحافية التي ركزت على الخطر الداهم من "مجموعة ابو سياف" الفيليبينية المتطرفة وعلاقاتها بتنظيم "القاعدة" ، وسرعان ما اتخذت هذه المساعدة "التقنية" شكلا مختلفا. فقد انتشر 160 جنديا في جزيرة باسيلان الجنوبية حيث يتركز نشاط مجموعة ابو سياف، فيما انتشر 500 جندي في جزيرة زامبوانغا ، وسرعان ما تبين ايضا ان "مهمة التدريب" كانت التفافاً لغويا على الدستور الفيليبيني الذي يمنع انتشار قوات اجنبية فيها كما يمنع استخدامها أسلحة في هجمات ولا يسمح بها الا في حال الدفاع عن النفس؛ وقد وجدت حكومتا البلدين مخرجا لم تكتمه الصحف الاميركية اذ نشرت "النيويورك تايمز" في آذار 2002 ان "الضباط الاميركيين والفيليبينيين قالوا ان الجنود الاميركيين سيتعرضون حتما للنار مما يجعل مشاركتهم في الهجمات محتملة". ولم يمض وقت طويل حتى بدأ الحديث عن تمديد وجود هذه القوة لمدة ستة اشهر وكذلك قال قائد عسكري فيليبيني في نيسان ان بلاده ستطلب من اميركا ارسال 300 جندي اضافي.
وأثارالانتشار الاميركي في الفيليبين شكوكا كثيرة في النيات الحقيقية الكامنة وراءه. فهل يعقل مثلا حشد 660 جنديا اميركيا اضافة الى 3500 جندي فيليبيني مزودين اكثر الاسلحة تطورا لمطاردة "مجموعة ابو سياف" المتواضعة التجهيز والتسلح والتي حسب كل التقديرات الفيليبينية وغيرها لا يتجاوز عدد افرادها مئة رجل؟ وفعلا لقد كانت الشكوك في محلها. ففي أكثر من مناسبة قال خبراء ومسؤولون فيليبينيون بينهم ماكاباغال ارويو : ان لا دليل على علاقات بين "ابو سياف" و"القاعدة". وقالت مجلة "تايم" الاميركية في آذار 2002 ان الروابط بين المجموعتين "تلاشت" وان ضرب "ابو سياف" يفيد محليا بيد انه لا يقدم شيئا في الحرب على الارهاب.
ولكن اذا كان "ابو سياف" عنوان التدخل الاميريكي في الفيليبين، فان اميركا لم تشعر بحاجة الى تبرير مقنع، الامر الذي زاد الشكوك. فبالنسبة الى أميركا هناك ثلاثة أدلة على وجود علاقة بين "ابو سياف" و"القاعدة" هي:
- لقاء عقده مطلع التسعينات مؤسس المجموعة ويدعى عبد الرزاق جنجليني وصهر اسامة بن لادن ويدعى محمد جمال خليفة، بهدف اجراء تدريبات للمجموعة على يد رمزي يوسف المرتبط ببن لادن والذي دين عام 1993 في الهجوم على مركز التجارة العالمي، ومتابعة أعضاء من المجموعة تدريبات في افغانستان على يد "القاعدة".
- واكثر من ذلك، نشرت الصحف والمجلات الاميركية مقالات كثيرة عن أهداف تتجاوز حتى تلقين من اسنتهم أميركا مجموعات ارهابية درسا. وقالت "النيويورك تايمس" مطلع نيسان ان "الولايات المتحدة تحتاج الى الفيليبين للمدى البعيد، فإذا أمكن فرض استقرار في جنوب الفيليبين حيث الانفصاليون المسلمون ينشطون منذ زمن، فان الجزيرة قد تكون موقع تنصت مثاليا ونقطة انطلاق جيدة لحراسة المصالح الاميركية الكثيرة في منطقة الهادئ".
- موقع جزيرة باسيلان حيث نزل الجنود الاميركيون مقر "جبهة موروالاسلامية للتحرير" الانفصالية والتي تعتبر "مجموعة ابو سياف" فصيلا منشقا عنها ، وهي جزيرة بالغة الاهمية من الناحية الاستراتيجية .
2 - أندونيسيا والتعاون قبل الانتشار
ما شهدته أندونيسيا في موازاة ما كان يجري في الفيليبين يكمل المشهد. فقد زار مسؤولو وزارة الدفاع الاميركية "البنتاغون" ووزارة الخارجية ومكتب التحقيقات الفيديرالي اندونيسيا ومارسوا ضغوطا عليها لمطاردة المقاتلين الاسلاميين الاصوليين. كما زارت الرئيسة الاندونيسية ميغاواتي سوكارنو بوتري واشنطن، كما زارتها نظيرتها الفيليبينية، ثم تبعهما رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد. وتحركت ادارة بوش في اتجاهين: الاول الكونغرس ليرفع الحظر عن التعاون العسكري مع جاكرتا والذي كان فرضه عام 1999 بسبب قضية تيمور الشرقية، والاخر جاكرتا نفسها لاقناعها باعادة علاقات عسكرية وثيقة تشمل احتمال نشر قوات اميركية في اراضيها. وفي أجواء تسريبات صحافية شبه يومية في أميركا عن لجوء مقاتلين من "القاعدة" الى اندونيسيا، كتبت صحيفة "يو اس آي توداي" في آذار 2002 مقالا عنوانه "البنتاغون يريد ارسال جنود الى اندونيسيا". وبعد محادثات كثيرة توصلت واشنطن الى ان أي نشر فوري للجنود ستكون له نتائج عكسية بسبب رد الفعل الشعبي، واكتفت بالحديث عن احتمال معاودة التعاون العسكري في اطار مكافحة الارهاب ومكافحة المخدرات. وقال نائب وزير الدفاع الاميركي بول وولفوفيتز في نيسان ان الادارة تنوي في المدى القصير العمل عبر الشرطة واجهزة الاستخبارات الاندونيسية. والواقع ان اقناع اندونيسيا بالتعاون لم يخل من ابتزاز. ففي لقاء لميغاواتي والممثل التجاري الاميريكي روبرت زوليك ، مطلع نيسان 2002، خرج الاخير عن نطاق محادثاته ليشدد على اهمية التعاون الامني الاندونيسي مع اميريكا، مذكراً بأن المساعدات الاقتصادية الاميريكية لاندونيسيا على المحك.
وبين ما هو معلن وغير معلن من الفيليبين الى اندونيسيا وربما ابعد منها، ثمة اهداف لا يمكن تجاهلها كانت ولا تزال موضع جدل في واشنطن من حيث ضرورة العودة بوجود عسكري كثيف الى جنوب شرق آسيا بعدما اغلقت اميركا قاعدتيها العسكريتين في الفيليبين، سوبيك باي وكلارك عام 1992 ، ثم بعدما اجبر الرئيس الاندونيسي سوهارتو على الاستقالة عام 1998 .
والجدل كان قائماً قبل 11 ايلول / سبتمبر بكثير ولا علاقة له بمكافحة الارهاب. ففي ايار 2001 وجهت مجموعة من الاكاديميين ورؤساء الشركات الكبرى، في رعاية مجلس العلاقات الخارجية، مذكرة الى بوش فيها "انها اللحظة المناسبة لادارتكم للتركيز على منطقة غابت كثيراً عن شاشات راداراتنا وشكل ذلك خطراً علينا". وخلفية هذه الدعوة تستند الى الهزيمة الاميركية في فيتنام، ثم الى الانسحاب من الفيليبين واستقالة سوهارتو الذي كانت واشنطن تعتمد عليه كثيراً.
كما تستند الى وجوب عدم تجاهل منطقة ضخمة تضم 525 مليون نسمة يبلغ ناتجها القومي 700 مليار دولار وهي خامس اكبر شريك تجاري لاميركا وتحتل الاستثمارات الاميركية فيها المركز الثاني بعد اليابان. يضاف الى ذلك عاملان حاسمان، حسب المذكرة نفسها: الاول، مستويات انتاج النفط والغاز واحتياطهما في اندونيسيا وبروناي، خصوصاً ان اندونيسيا هي العضو الآسيوي الوحيد في منظمة البلدان المصدرة للنفط "اوبيك"، وان حقول نفط وغاز تكتشف حديثاً في الفيليبين وماليزيا وفيتنام، والثاني، تقاطع الخطوط البحرية العالمية حيث تمر نصف التجارة العالمية بما فيها امدادات النفط من الخليج الى اليابان وكوريا الجنوبية والصين وحيث اي اعاقة لوصول النفط تؤثر على اقتصادات شرق آسيا وتالياً على اقتصاد اميركا.
وهذا التوجه كانت عكسته بوضوح دراسة اعدتها عام 2000 مؤسسة راند المرتبطة بـ"البنتاغون" وبالصناعات العسكرية الاميريكية وبادارة جورج بوش نفسها، ذلك ان دونالد رامسفيلد كان رئيسها لفترة كما ان زلماي خليل زاد الذي عينه الرئيس جورج بوش موفداً له الى افغانستان كان الرجل الذي اشرف على الدراسة؛ وتحذر هذه الدراسة بوضوح من الخطر المتنامي للصين على مصالح اميريكا في جنوب شرق آسيا ومن احتمال ان تنافسها في غضون عشر سنين على السيطرة على المنطقة وترى ان لا مجال لحماية النمو الاقتصادي لدول المنطقة وحماية المصالح الاميركية الا بوجود اميركي فيها وبوصول لا محدود الى الخطوط البحرية وتقترح برنامجاً من المساعدات الامنية الضخمة لحلفاء اميركا هناك وخصوصاً الفيليبين واندونيسيا هدفه ردع الصين.
والواقع ان زيارة بوش للليابان هدفت بوضوح الى تعزيز سياسة "احتواء" الصين التي يعتبرها الرئيس الاميركي "منافساً استراتيجياً" لبلاده والى ضمان تعاون اليابان في الحرب على الارهاب. وقد رأى مجلس النواب الياباني ان لليابان دوراً حاسماً في هذه الحرب، فيما اعلن بوش ان القرن الحادي والعشرين هو "قرن الهادئ" تميزه القوة العسكرية والاقتصادية للتحالف الامني الاميركي - الياباني".
ومهما يكن من امر التبريرات ومدى قوة الاقتناع فيها، فإن كل تحركات الادارة الاميركية بعد 11 ايلول / سبتمبر في جنوب شرق آسيا صبت في اتجاه استجابة الدعوات الى وجود عسكري دائم. وكانت الفيليبين المدخل الاقوى الذي يرشحها لان تصبح قاعدة للعمليات الاميركية في المنطقة. وصارت نموذجاً تحتذيه اميركا لنشر "مهمات تدريب" اخرى في مناطق مختلفة من العالم ولاسباب مختلفة كما في كولومبيا وجورجيا واليمن.

3 - كولومبيا المخدرات والنفط

في اوائل شباط 2002 ، ظهرت عناصر من قوات اميركية خاصة الى جانب جنود كولومبيين في ما يسمى "المنطقة الآمنة" في كولومبيا وكان ذلك مؤشرا لتدخل اميركي مباشر ومختلف في هذه الدولة التي تشهد حربا اهلية منذ اربعة عقود. وعندما طلب المرشح للانتخابات الرئاسية عن الحزب الليبيرالي هوراسيو سيربا توضيحا من الحكومة لهذا الوجود الاميركي ، رد قائد الجيش بان القوات الخاصة الاميركية "جاءت بصفة مراقبين". اما المرشح اليميني للرئاسة الفارو يوريبي فيليز، فرحب بهذا الوجود واكد دعمه لارسال اميركا قوات هجومية الى كولومبيا بدل ان تقصر مساعداتها على التدريب.
وقصة التدخل الاميركي في كولومبيا معقدة بعض الشيء . فقد بدأ التدخل العسكري عمليا قبل سنتين عام 2000 عندما اقرت ادارة الرئيس بيل كلينتون سلة مساعدات عسكرية طارئة قيمتها 1.3 مليار دولار باسم "خطة كولومبيا" وكان هدفها المعلن "الحرب على المخدرات". وبعد 11 ايلول وتحت عنوان الحرب على الارهاب. ومع انهيار محادثات السلام بين الحكومة الكولومبية ومتمردي "القوات المسلحة الثورية في كولومبيا" (فاركا)، علقت واشنطن عمليا حربها على الارهاب وسارعت الى تقديم مساعدة في مكافحة الارهاب للجيش الكولومبي، ومن المتوقع ان يزداد تدفق "المراقبين" من القوات الاميركية الخاصة الى كولومبيا بعد ان وافق الكونغرس على مشروع قانون اقترحته ادارة بوش يسمح بمزيد من المساعدات للجيش الكولومبي. والاهم انه سمح للمرة الاولى باستخدام اموال واسلحة كان الكونغرس يحظر استخدامها سابقا لغير مكافحة المخدرات، في مواجهة المتمردين ولا سيما منهم "فاركا" و"جيش التحرير الوطني". ولكن ابعد من ذلك ايضا، ان القانون الذي درسه الكونغرس غير طبيعة التدخل الاميركي من خلال توفير مبالغ لتمويل انتشار قوات كولومبية خاصة يدربها ويديرها "البنتاغون" لحماية انابيب نفط اساسية تخدم شركتي النفط الاميركيتين "اوكسيدنتال" و"ريبسول". وفيما يقترح مجلس الشيوخ 3.5 ملايين دولار لهذه الغاية، يطالب البيت الابيض بستة ملايين.
والواقع ان اعادة توجيه الموارد العسكرية في اتجاه حماية انابيب النفط مؤشر لاهداف استراتيجية اميريكية تتجاوز بالتأكيد الحرب على المخدرات وكذلك الحرب على الارهاب ليضرب في عمق النفط... وفنزويلا، ذلك ان خطط جورج بوش لنشر "جنود الانابيب" تزامنت مع ظهور القوات الاميركية الخاصة في "المنطقة الآمنة" كذلك مع تهديدات واضحة للرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز الذي لم تأمن واشنطن يوما به. فقد كشف البيت الابيض في شباط خططه لانشاء "فرقة البنية التحتية المهمة" لتضم ما يراوح بين الفين واربعة الاف جندي من الجيش الكولومبي تنشر لحماية المنشآت النفطية الاميركية وخصوصا انابيب نفط طولها نحو 900 كيلومتر تنقل النفط من شمال شرق كولومبيا الى مرفأ كوفيناس الكاريبي. وطلب من الكونغرس الموافقة في موازنة 2003 على 98 مليون دولار لتدريب الجنود المكلفين حماية الانابيب وتسليحهم ومّدهم بدعم جوي اميركي.
ويصير هذا مفهوما في اطار اعتبار اميريكا لفنزويلا رهانا نفطيا اساسيا للمستقبل، علما ان كولومبيا وفنزويلا قادرتان على تزويد اميركا نفطا يفوق ما يضخ حاليا من الدول الخليجية مجتمعة، وان الشركات النفطية الاميركية الكبرى كانت تضغط على واشنطن لتصعيد تدخلها في المنطقة من اجل اشاعة مناخ افضل لاستخراج الاحتياطات في الدولتين. ولا شك في ان مثل هذه الاعتبارات كانت وراء الضلوع الاميريكي في الانقلاب الفاشل على الرئيس الفنزويلي .
في اي حال، تضخ واشنطن باسم مكافحة "الارهابيين" المتمردين ما امكنها من مساعدات مالية واسلحة وخبرات ومعلومات الى كولومبيا، بل انها باتت قادرة على ارسال ما تعتبره ضروريا من تعزيزات في حال حصول تصعيد كبير في المواجهات التي قد تعرض القوات الاميركية للخطر.
واذ راقبت الدول المجاورة مثل البرازيل والبيرو والاكوادور وفنزويلا بحذر التدخل الاميركي في كولومبيا خشية ان تصل الحملة على المتمردين الى حدودها، فان نتائج الانتخابات الرئاسية التي اجريت في 26 ايار 2002 بمثابة الحرب القاسية على المتمردين، خاصة وأن الفائز في الانتخابات هو الفارو يوريبي فيليز الذي خاض معركته على اساس برنامج تعهد فيه ضرب المتمردين اليساريين على عكس الرئيس اندريس باسترانا الذي فاز من قبل على اساس برنامج سلام وفشل في مفاوضاته مع المتمردين. وكما ان يوريبي لم يخف رغبته في انتشار قوات اميركية هجومية في بلاده، فان اميركا لم تخف سعادتها بفوزه.
4 - جورجيا موطئ القدم وتطويق روسيا
ما ان بدأت اميركا حربها على افغانستان حتى وضعت قدمها بقوة في آسيا الوسطى، هذه المنطقة التي طالما عملت للسيطرة عليها ان لموقعها الاستراتيجي بين روسيا والصين وايران او لكنوزها النفطية والغازية. وطبعا تضاءل حجم الجهود التي بذلتها الدول المحيطة بالمنطقة لمنع امتداد اليد الاميركية اليها امام هول احداث 11 ايلول والحرب على الارهاب وكذلك اقرار الجميع بأن آسيا الوسطى تحولت في السنوات الاخيرة ملاذا آمنا للمقاتلين الاسلاميين المتطرفين والمتعاونين احيانا كثيرة مع "القاعدة". وبدأت القوات الاميركية تصل الى اوزبكستان وقرغيزستان ولم يكن في امكان وروسيا والصين غير ابتلاع قلقهما من ان يتحول هذا الوجود وجودا دائما.
الا ان هذا لم يكن ليعني اميريكا. فقد شيدت قاعدتها الجوية ماناس قرب العاصمة القرغيزية بيشكك لتؤوي ثلاثة آلاف جندي وطائرات دعم للعمليات في افغانستان واقامت مركزا آخر في اوزبكستان يؤوي ايضا الفي جندي وعملت سريعا على تحسين الطرق والاضاءة وانظمة الاتصالات، تماما كما فعلت في باكستان حيث تجمع الآلاف من جنودها.
ولم يكن هذا ليدل على نية للانسحاب قريبا، بل ان مسؤولين دفاعيين كبارا قالوا ان هذا الوجود في آسيا الوسطى لا يهدف الى تنفيذ عمليات جوية فوق افغانستان فحسب، بل الى الحفاظ على وجود عسكري قوي في المنطقة بعد الحرب، يؤمن نقطة انطلاق لعمليات كمكافحة الارهاب في كل انحاء العالم العربي والاسلامي اذا اقتضى الامر. يضاف الى هذا تحسين العلاقات السياسية والامنية مع جمهوريات آسيا الوسطى التي ترغب في ذلك. فالقيادة القرغيزية مثلا اعتبرت الوجود الاميريكي في اراضيها منجم ذهب لأنه كلما هبطت طائرة في ماناس تدفع اميركا سبعة الاف دولار، فضلا عن ايجار القاعدة نفسها والمساحات المحيطة بها. كل المسألة . وتكفي الاشارة الى انه في شهري كانون الاول 2001 وكانون الثاني 2002 خلال اعداد القاعدة، أنفقت اميركا 4.5 ملايين دولار على الطعام والنقل والمحروقات.
واذا كان الوصول الى آسيا الوسطى نتيجة مباشرة للمرحلة الاولى من الحرب الاميركية على الارهاب، فان التمدد الاميريكي الى القوقاز كان في رأس اولويات ما سمي المرحلة الثانية. وتحت شعار "مهمة التدريب" نفسه كان الاتفاق بين واشنطن وتبيليسي على ارسال مئة خبير اميركي وقد يصل عددهم احيانا الى 150 خبيرا لتدريب الفي جندي جورجي من الوحدات الخاصة على مكافحة الارهاب. ووصلت طلائع الفريق الاميركي آخر نيسان، ثم اكتمل وصوله لينطلق البرنامج الذي تبلغ تكاليفه 64 مليون دولار وليبدأ رسميا في 27 ايار على ان يستمر 70 يوما. وما لبث ان بدأ الاميركيون اربعة برامج تدريب متتالية مدة كل منها مئة يوم لأربع وحدات جورجية خاصة. وستستمر "مهمة التدريب" هذه حتى 2004 وتشمل ايضا مد جيش جورجيا بأسلحة خفيفة وذخائر ومعدات اتصالات وغيرها.
وبدا من هذا التعاون ان ساحة جديدة للحرب على الارهاب ستفتح - ولو على نطاق أضيق - في منطقة بانكيسي جورجي التي تقع على حدود الشيشان حيث تدور حرب انفصالية شرسة مع القوات الروسية، خصوصا ان واشنطن وكذلك موسكو تحدثت عن تسلل عدد من مقاتلي "القاعدة" في افغانستان الى بانكيسي جورجي وتخفّيهم بين نحو سبعة آلاف لاجئ شيشاني. وفي حين حرصت جورجيا على نفي وجود اية قواعد لتنظيم "القاعدة" انذاك في بانكيسي ورجحت وجود مقاتلين فارين، ركز مسؤولون أمنيون روس على ما يجري في الشيشان واشاروا الى وجود ما يصل الى 1500 مقاتل تمولهم "القاعدة" يتدربون في معسكرات اقامتها لهم وجميعهم ارهابيون دوليون.
ومع رغبة روسيا في الانتهاء من وضع الشيشان، فان التدخل الاميركي في القوقاز أربكها كثيرا. فغداة تحذير غاضب وجهه وزير خارجيتها الى اميركا من ان انتشارها سيثير اضطرابات في المنطقة، اعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجأة انه لا يرى مأساة في المساعدة الاميركية لجورجيا في القضاء على مقاتلي "القاعدة" في بانكيسي جورجي و"اذا كانت دول آسيا الوسطى تفعل ذلك (تستضيف جنودا اميركيين) فلماذا لا تستطيع جورجيا ذلك ايضا؟". وأغرب ما في الامر ان بوتين قال انه تلقى تطمينات من شيفاردنادزه الى ان الوجود الاميركي في جورجيا لن يتجاوز "15 -20 جنديا".

ويبدو ان روسيا تجاهلت عمليا ما يدور في محيطها اميركيا وتركز على تعاونها مع الغرب ضد الارهاب وعلى توقيع اتفاقات مع اميركا وكأن بوتين سلّم بالامر الواقع. بل ان موسكو لا تزال حتى الان تعلن ثقتها بأن اميركا ستسحب جنودها من آسيا الوسطى فور انتهاء العمليات في افغانستان، ولا تعترض على الشراكة الاميركية - الجورجية مع ان خبراء كثيرين يعتقدون ان هدفها ليس المقاتلين الاسلاميين في بانكيسي بل اقامة قاعدة على حدود روسيا وقرب العراق.
5 - اليمن وقطر وتركيا .. والعقد يكتمل
وقرب العراق ايضا، وكذلك قرب كل دول مجلس التعاون الخليجي التي تستضيف قوات او قواعد اميركية، بدأت اميركا في اليمن على غرار ما فعلته في جورجيا "مهمة تدريب" لاعداد جنود يمنيين لمكافحة الارهاب. وقد وصل في آذار فريق أميركي متقدم من 20 جنديا للاعداد لبدء البرنامج، ووصلت في ايار مجموعة اخرى من 30 جنديا، على ان يكتمل عدد الفريق البالغ 150 جنديا في غضون اسبوعين وينطلق التدريب رسميا. وقال مسؤولون عسكريون أميركيون ان الفريق يضم خصوصا جنودا من الوحدات الخاصة، الى اختصاصيين في أمن المرافئ والمطارات. وقال رامسفيلد في نيسان ان هذا الفريق سيتعاون عن كثب مع القوات اليمنية بطرق عدة وان خبراء الامن البحري بدأوا بالفعل تدريب القوات اليمنية على حراسة الشاطئ الممتد مسافة 2400 كيلومتر. الا انه أكد ان اميركا لا تنوي العودة الى توقف سفنها في مرفأ عدن حيث تعرضت المدمرة "يو اس اس كول" لاعتداء في تشرين الاول 2000 .
ورغم السجالات التي جرت في اليمن وحولها حول طبيعة الانتشار الاميريكي ، الا انه لا يغير شيئا في "المهمة" الاميركية ولا يبقيها بالضرورة في حدود "التدريب". فقد كرر مسؤولون اميركيون بارزون ، ان برنامج التدريب قد يتوسع ليشمل مستشارين عسكريين اميركيين مما يفتح الطريق امام القوات الاميركية للتدخل مباشرة في الهجمات اليمنية على من تعتبرهم ارهابيين.
ولاحكام الطوق على العراق واكتمال عقد الانتشار بعد اليمن ، وتركيا ،اعادت واشنطن تموضع قواتها من جديد ونقلت احدى قواعدها العسكرية الاساسية في المملكة العربية السعودية الى قطر ، مما يؤشر لاحقا ان السعودية لن تكون بمنأى عن الاهداف الاميركية بعد العراق .
ولم تكتف واشنطن عند هذا الحد من الانتشار شرقا وغربا شمالا وجنوبا في آسيا ، بل امتد مشروعها ليشمل افريقيا ايضا في العام 2003 ، حيث اتخذ الرئيس جورج بوش من زبارته " الانسانية " لافريقيا وبحجة المساندة للتخلص من الفقر والايدز ، تسعى الى مزيد الاستثمارات النفطية في نيجيريا وانغولا، وترسيخا لذلك بدأت بانزال قوات لها في ليبيريا بعدما ابعدت رئيسها عن السلطة بعد سنوات طويلة من دعمه .
ونظرا الى المشهد العام لخريطة الانتشار الاميريكي في كافة ارجاء العالم بعد 11 ايلول ،والاهداف المعلنة وغير المعلنة التي تحقق من خلاله، فان عبارة "الحرب على الارهاب" تبدو الاكثر قبولا وربما الالطف لمد الهيمنة الاميركية على العالم وتمددها ان بنشر أساطيلها او حاملات طائراتها او اقامة قواعد عسكرية جديدة او نشر جنودها "خدمة" للدول المضيفة.
القسم الرابع
ملاحظات على استراتيحية الامن القومي
واثرها في النظام الدولي

ان التدقيق في تطبيقات استراتيجية الامن القومي الاميركية على الصعيدين الداخلي والخارجي ، تثبت بشكل قاطع وجود نوايا مبيتة لا تعد ولا تحصى تحاول واشنطن تنفيذها بصرف النظر عن آثارها السلبية وبخاصة على الصعيد الدولي وما يمكن ان يشكله من ظلال كثيفة على العلاقات الدولية والنظام العالمي الذي تحاول واشنطن صياغته وتركيزه.
اولا : ملاحظات على قيادة واشنطن للنظام العالمي وقضاياه
في الواقع ظهرت العديد من الشعارات الوردية في الكثير من الاستراتيجيات الاميركية التي نشرت في غير مناسبة ، وجميعها تضمنت اهداف مثالية ، كتسوية النزاعات الاقليمية والدولية بالطرق السلمية ، التضامن في وجه العدوان ، معاملة جميع الشعوب بالعدل ، خفض ترسانة الاسلحة ونزع اسلحة الدمار الشامل ، ومحاربة الارهاب والتنمية وغيرها .
ان القراءة المتأنية لوقائع الاحداث ومندرجاتها على الصعيد الدولي تعطي فكرة واضحة عن السياق العام الذي تعاملت به واشنطن مع هذه القضايا، ولسنا في معرض تعدادها والتعليق عليها فهي كثيرة ودامغة لجهة السلبية التي اظهرتها ومارستها وطبقتها في معايير واساليب مزدوجة ؛ الا ان سلسلة من الاستنتاجات المفيدة يمكن ان تستخلص وأبرزها:
- ان مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية لم يحترم البتة في معالجات واشنطن للقضابا الدولية ذات الاهتمام الدولي ، بل ان معظم الوسائل والمواقع ذات الصلة كانت مغيبة تماما بارادة اميركية واضحه كنموذج الامم المتحدة ، الا في حدود استثنائية جدا ، وفي المواقع التي تخدم مصالحها الاستراتيجية مباشرة ، وان استخدمت هذا الموقع فقد استخدم كيد طيعة ان كانت عسكريا او امنيا اواقتصاديا .
- وعطفا على ما سبق ، يلاحظ بوضوح مدى مشاركة واشنطن في خلق البؤر المناسبة للصراعات الاقليمية ، ومن ثم التدخل في ادارتها وصولا الى فرض الحلول المناسبة لها من الوجهة الامريكية البحتة .
- كما ان الصراعات والنزاعات على المستويات الاقليمية والدولية لم تتقلص وحتى لم تضيق اطر التحالفات والمحاور بشأن العديد منها ، بل ان عددها قد زاد ، ووجدت مظاهر وآفاق جديدة للنزاعات يصعب التحكم بها كنزاعات الهند والباكستان والمظاهر الانفصالية قي بعض الدول والحروب الاهلية في افريقيا وحروب بعض الدول في اوروبا وغيرها.
- لقد طبقت وفرضت اساليب جديدة لفرض مشيئة منطق القوة في السياسة الدولية ، وابتدعت مفاهيم ومصطلحات ظاهرها مختلف عن خلفياتها ومضمونها، وبررت اعمال بحجج واهية ليس لها أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد في القضايا التي تطرح من اجلها ، كنموذج العقوبات الذكية التي فرضت على العراق قبل غزوه!
- ان ايا من النزاعات ذات الشأن على الصعيد الدولي لم يحل في ظل النظام الآحادي الجانب ، بل ان بعضها اخمد مؤقتا ، او جرت حلول مجتزأة له بحيث يمكن اشعاله في اللحظة الدولية المناسية كبعض معاهدات السلام العربية - الاسرائيلية .
واذا كان الامر يبدو بهذه الصورة القاتمة للنزاعات ، فان المبدأين " التضامن في وجه العدوان" و" معاملة جميع الشعوب بعدل " لم يكونا بأفضل حال من المبدأ السابق ويمكن تسجيل الملاحظات التالية :
- لم يطبق التضامن في وجه العدوان الا في ظروف وحدود استثنائية ، فرغم تعددها وتنوعها ولزوم التضامن في وجهها لصيانة الأمن والسلم الدوليين ، فان التعامل الذي تمّ مع احد مظاهره (اجتياح العراق للكويت) لم تكن اهدافه المعلنة متطابقة ولا حتى متوافقة مع النتائج التي اوصلت اليها الامور فيما بعد ؛ وكذلك السياق الذي تتعامل به واشنطن مع القضية الفلسطينية بشكل عام .
- ان العديد من حالات التدخل بغطاءات مختلفة ومنها التضامن في وجه العدوان وحماية الاقليات ، كانت نتائجها ، زيادة الاحساس بكشف العديد من المواقع المتوترة في العالم وحدة خطورتها بدل الاطمئنان الى طبيعة الحلول المتوصل اليها كنموذج الحروب الاوروبية الحديثة .
- ان التضامن الذي جمع في هذه الحالات لم يكن في الواقع موجها الى المعتدي او المهدد الى السلم والامن الدوليين ، بل جل ما جمع من اجله ، جيّر ، وتم استثماره بأشكال مختلفة ومتنوعة وأبرزه ايجاد التكتلات والمحاور المتعادية والمتنافرة التي ستؤسس لحروب مستقبلية ، وهذا ما يتم الاستفادة منه عمليا في مرحلة التجييش التي قامت بها واشنطن وتقوم بها حاليا على العديد من الازمات الدولية.
- ان معاملة جميع الشعوب بعدل لم يكن مغيبا في وقت من الاوقات في مختلف الانظمة العالمية التي سادت عبر التاريخ كالذي نشهد تغييره الآن، فالشعوب والاقليات المقهورة والمحتلة اراضيها، لم تعامل لا بعدل ولا بمساواة ، بل ان العديد من المعايير المزدوجة تمّ التعامل بها مع نفس القضية او اطرافها، فان شهدت بعض المناطق عمليات مساعدة لبلورة اوضاعها ومستلزمات ظروفها القومية او غيرها، فالامر لا يعدو كونه تفتيتا للكيانات التي يمكن ان تساهم بشكل او بآخر في عرقلة المشاريع المراد فرضها.
- ان معاملة الشعوب والامم بعدل ، استغل بشكل سافر للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ، وحولّت القضايا ذات الصلة بها ، كحقوق الانسان وغيرها كمدخل سهل للضغط على الحكومات وتمرير ما يراد تمريره.
- وعلاوة على ذلك ، فقد استغل التضامن في وجه العدوان والمساواة في اظهار الطرف المهزوم دائما ، هزيمة لمن ينتمي من حيث القومية او الدين او غيره من المقاييس والمعايير ، وبالتالي فرض الشروط والحلول لمصلحة اطراف آخرين كنموذج حرب الخليج الثانية والصراع العربي – الاسرائيلي ، حيث اجبر العرب على دخول مؤتمر مدريد في ظل ظروف دولية غير مؤاتية للتفاوض ، وما يجرى الآن من ضغوط لاستثمار نتائج الغزو للعراق بنتائج سياسية لمصلحة اسرائيل.
اما لجهة التسلح ، فلا يبدو الامر مغايرا ، بل سجل في النظام العالمي ، العديد من المظاهر والوقائع السلبية اهمها:
- ظهور ميل واضح باتجاه الانفاق العسكري خصوصا في الدول التي تعتبر نفسها مستهدفة في النظام العالمي السائد، فكل المعاهد ومراكز الابحاث تشير الى ازدياد هذا الانفاق وبصورة نوعية عدا عن كميته ، ذلك يعود الى ازدياد بؤر التوتر واتساعها واتخاذها اشكالا جديدة .
- اتساع دائرة الدول المالكة للاسلحة غير التقليدية بمختلف انواعها لا سيما النووي منها ، وظهور بؤر التوتر الاقليمي ذات العلاقة بالتلسح النووي في بعض المناطق ، كنموذج الباكستان والهند .
- جهود بعض الدول المكثفة لامتلاك الاسلحة غير التقليدية ، وانصباب جهودها لانجاز هذا الملف في اوقات قياسية ، نتيجة الاحساس بالخطر ومحاولة اقامة توازن الرعب الذي يفرض في احيان كثيرة ، وليس كنتيجة خيارات ممكنة قابلة للتحقق باكلاف معقولة داخليا .
- احياء الولايات المتحدة مشروع الدرع الصاروخي "حرب النجوم" الذي كان من احد الاسباب الاساسية لانهيار الاتحاد السوفياتي .
- تعامل الولايات المتحدة بازدواجية فاضحة وسافرة في ملف الاسلحة غير التقليدية، ففي الوقت التي كشفت واشنطن بنفسها عن ان اسرائيل تمتلك ترسانة نووية تقدر بـ 400 رأس ، عدا عن ترسانتها الكيميائية والبيلوجية، ورغم عدم توقيعها على اتفاقيات وكالة الطاقة الذرية فانها لم تحرك ساكنا ، بل ساندت المشاريع الاستراتيجية الاسرائيلية في هذا المجال لجهة منع أي دولة في الشرق الاوسط من امتلاك او تطوير مثل هذه الاسلحة ، بل وبحجة امتلاك العراق لاسلحة غير تقليدية نفذت واشنطن غزوها للعراق ومحاولة استثمار الامر اسرائيليا لهذا الغزو جارية على قدم وساق.
- ان مجمل تلك المظاهر ، قد ساعدت في تأجيج العداء للولايات المتحدة الامريكية ، وجعلها في الموقع المسؤول عما جرى في ظل قيادتها للعالم ، قابله ، تأسيس الصراع الامريكي مع الآخرين على قاعدة محاربة الارهاب واجتثاث اصوله ومحاربة من يرعاه ويموله ويدعمه كما جرى في افغانستان وما سيجري في غير موقع من العالم .
- تهميش جميع القوى الاخرى في العالم وعزلها عمليا عن مواقع الحل والربط، وربطها بأزمات داخلية اقتصادية- مالية ذات صفة وخلفيات سياسية ، الامر الذي ادى الى غياب تام لتوازن القوى العالمي .
اما الجانب الاقتصادي فله كلام خاص وطويل، الا ان ابرز ما يسجل فيه ، هو الاعلان رسمبا عن جذوة النصر للرأسمالية الحديثة القادرة على عولمة ما يخطر ولا يخطر على البال , بدءا من حرية التجارة العالمية والغاء الحواجز الجمركية وفتح الاسواق المالية دون قيد داخلي مرورا في التدخل في السياسات العامة للدول عبر ظاهرة المديونية وسياسات التخصيصية وصندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات المالية ذات الهوية والمنشأ الرأسماليين ، وصولا الى تطويع دول العالم وفقا لمنظور معين من الصعب تخطيه او تجاهله ، بدءا من عالم الاتصالات والثقافة وصولا حتى الى سلوك البشر وامزجتها وتفكيرها .
ثانيا : شكل النظام العالمي في ظل الاستراتيجية الأميركية
ان التدقيق في حيثيات ما تم ويتم التحضير له ، يقودنا الى العديد من المظاهر ابرزها :
- ان النظام العالمي الذي يحتضر لم يلب طموحات من قاده، فان ابعدت بعض القوى الواعدة عن صياغة القرارات الدولية، فهي لم تتمكن من ازالة هواجسها المتصلة باستمرار القيادة المؤثرة ؛ وان تمكنت من التدخل في الشؤون الداخلية للدول ، بدءا بملفات حقوق الانسان ، مرورا بالسياسات الحكومية الداخلية (المالية والاقتصادية) للدول ، وانتهاءا بأثر هذه السياسات على القضايا الخارجية للدول وتأثيراتها في الازمات الاقليمية، فانها لم تتمكن حتى الآن من اخضاع الكثير من الدول السالفة الذكر تماما للوجهة الاميركية ؛ وان تمكّنت من صياغة بعض الحلول المجتزأة لبعض النزاعات الاقليمية ذات الشأن ، فأنها لم تتمكن من اقناع الكثيرين من المضي في الاتجاه الذي تراه صحيحا في حل هذه النزاعات ، ومن هنا تكمن الحاجة الاميركية الملحة الى اعادة النظر في النظام العالمي المحتضر والتأسيس لنظام عالمي يلبي طموحاتها ومن يدفعها .
- ان النظام العالمي القادم ليس بالضرورة ان يشهد الكثير من التغيرات الدراماتيكية ، بل سيكون على الارجح نسخة منقحة ومعدلة عن سلفه ، مع الاخذ بعين الاعتبار بعض التفاصيل الناشئة عن المتغيرات الحاصلة ، وبمعنى ان آحادية التوجه والقرار ستسود فترة من الزمن ، وسيمارس من خلاله مظاهر ستكون اشد قسوة على دول العالم ، بحيث ان التدخل سيطال الكثير من الاوجه التي لا تخطر على البال بذرائع وحجج متنوعة ومتعددة وستتعود المجتمعات والدول على الكثير من الامور التي ستصبح جزءا من حياتها واسلوب عيشها من خلال الوسائل التي تضخ في المجتمعات وخصوصا التكنولوجية منها .
- ان الكثير من المبادىء والقيّم التي قامت عليها مختلف الانظمة العالمية التي سادت عبر العصور ، ستشهد تغييرات كثيرة، بل ان بعضها سيكون ذات مفردات وتعابير جديدة تعكس الكثير من الاوجه المعاصرة ، فمن الناحية العملية لن يكون هناك سيادة للدول في ظل العولمة التي ستطال حتى السلوك الاجتماعي والامزجة؛ كما انه لن يكون هناك حرمة للحقوق الشخصية التي قامت عليها شرعة حقوق الانسان ، في ظل التشكيك بكل شيء ومحاولة معرفة كل شيء لتدارك ما يمكن ان يفعله أي انسان؛ ولن يكون الارهاب ذات صفة محلية خاضعة لمجموعة او دولة ، بل ان عولمة الارهاب ستكون الصفة الواضحة بهدف وضع اليد على كل صغيرة وكبيرة في العالم ، تحت نظام امني- معلوماتي دقيق ، أي بمعنى اذا كان النظام العالمي البائد قد رعى سياسات الدول ، فان القادم سيرعى افراد هذه الدول وسلوكها ؛ وليس من المستغرب بمكان بعد فترة وجيزة من الزمن سيكون لكل انسان" شيفرة خاصة ، رقما وموقعا " من خلال جهاز معين ، بحيث يكون من السهل جدا معرفة أي شيء يحدث وفي فترة الحدث عينها ، كل ذلك مبررا بمحاربة الارهاب والاتقاء من شروره .
- ان صراع الحضارات سيكون الابرز بين مجموعة القضايا المطروحة في ظل النظام العالمي القادم ، اذ سيكون اكثر حساسية وحدّة ، بحيث سيعيد الى الاذهان مجددا الصور السوداء لحروب القرون الوسطى وما آالت اليه من شروخ في النظرة الى الاديان والمعتقدات وما يستتبعها من قضايا متصلة بها .
- ان حل النزاعات والقضايا الاقليمية ذات البعد الدولي ستشهد مزيدا من حالات الابتزاز على قاعدة الغالب والمغلوب في النظام العالمي القادم ومن شارك فيه، أي بمعنى، ان كثيرا من مظاهر الحروب بين الدول المعنية في صراع ما سيزول، وسيحل مكانه صيغة قطف ثمار النصر المزعوم ليكرس اتفاقات غير عادلة بين اطراف غير متكافئة من الناحية العملية، كنموذج الصراع العربي – الاسرائيلي والنزاع الباكستاني – الهندي وغيره الكثير من القضايا التي لا زالت بدون حلول .
- ان ظهور المنظمات الاقليمية بمظهر المنافس للعولمة وآثارها والتي تعتبر من اسس النظام العالمي الحالي ، سيكون دورها محدودا وغير قادرة على احداث تغييرات ذات معنى جاد لصياغة النظام البديل ، ذلك يعود للعديد من الاسباب ابرزها ، عدم قدرتها على المنافسة بفعل تشرذم وتشتت مشاريعها ضمن المجموعة الواحدة ، وتمكن واشنطن بشكل او بآخر من ممارسة الضغوط على اطرافها الفاعلة وتسييرها في الاتجاه الذي يناسبها ، كنموذج الاتحاد الاوروبي ،او اتحادات شرق آسيا .
- ان دور المنظمات الاقليمية او الدولية يعتبر من الناحية العملية مهمشا الى اقصى الحدود ، الا في الحالات التي تستخدم فيها لمصلحة قائد النظام العالمي ، وقد اثبتت الوقائع ذلك ، ففي الحالات التي يمكن ان يسيّر ويجيّر عمل هذه المنظمات فيكون لها اليد الطولى ، والا كان العكس في مجرى الامور ؛ أي بمعنى آخر باتت هذه المنظمات وتحديدا الامم المتحدة الاداة الشرعية والمطوعة في يد واشنطن لجهة ادارتها للنظام العالمي ومتطلباته .
- ان مبدأ التضامن من اجل حماية السلم والامن الدوليين الذي لا يزال من الادبيات البارزة للنظام العالمي يحترم بدقة وفقا للكيفية التي تخدم مصالح القطب القيادي الاوحد ومن يدور في فلكه ، بينما لا يسجل أي اختراق له في الجهة المقابلة والنماذج كثيرة في هذا المجال ، لا سيما المتصل بالصراع العربي _ الاسرائيلي وغيره من قضايا العالم الثالث اينما وجد جغرافيا .
- ان قضايا التسلح وانتشار اسلحة الدمار الشامل وغيرها من القضايا الدولية كنظام الدرع الصاروخي اوحرب النجوم ، ستكون من القضايا الاساسية الى جانب الارهاب على مفكرة منظم النظام العالمي، وستشهد معايير مزدوجة وبأشكال اكثر قسوة في معالجاتها ، مع التركيز على مضي واشنطن في مشاريعها التسليحية لا سيما حرب النجوم للتأكيد مجددا ان المعطيات السائدة تستدعي التفوق النوعي غير المحدود لقيادة عالمية آمنة ومستقرة .
- ان السياسات التي ستعتمد من قبل واشنطن في مختلف بقاع العالم ، لن يساهم في حل الكثير من القضايا التي تخوض غمار الحرب ضدها الآن ، بل ان موجة العداء ستظهر بأشكال اكثر عنفا وربما اكثر عدوانية عند توفر ظروفها ومعطياتها.
- اما الجانب الاقتصادي – المالي على الصعيد الدولي، فسيكون له حيزا هاما مما يحضر له او على الاقل من نتائج ما ستؤول اليه الامور، فالركود الاقتصادي على المستوى الدولي وسلسلة ازمات النظام الرأسمالي القائم حاليا ، سيشهد نوعا من التحريك على قاعدة الانتاج العسكري وتصريفه وما يستتبع ذلك من تحريك قطاعات كثيرة وضخمة ؛ ولن يقتصر الامر على ذلك ، فستشهد الفترة المقبلة نوعا من اعادة توزيع الثروات ولو بطرق غير مشروعة .
ربما تكون هذه النظرة التشاؤمية مغالا فيها بعض الشيء ، الا انها من الصعب ان تخرج عن هذا السياق بشكل عام ، وهذا لا يعني بالضرورة استمرارها الى الابد ، فحياة الامم والشعوب متغيرة ، كما ان الدول والانظمة العالمية؛ فالتاريخ كما القديم ، الحديث والمعاصر شهد متغيرات كثيرة ومتسارعة وفي احيان كثيرة لم يقبلها العقل البشري بسهولة من انهيار امبراطوريات واحلاف ونظم لم يكن يتخيل احدا بأنها ستزول بهذه السرعة، عدا عن الايديولوجيات والمعتقدات ،التي كان لها نصيب وافر من هذه التغيرات الدراماتيكية .