16‏/02‏/2008

منظمة التجارة العالمية وعولمة الاقتصاد والمال

منظمة التجارة العالمية
وعولمة الاقتصاد والمال

د.خليل حسين
أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب


القسم الاول

التأسيس والهيكلية ، الاهداف وشروط العضوية

تعود نشأة منظمة التجارة العالمية الى الظروف الدولية التي نشأت في اعقاب الحرب العالمية الثانية كتعبير عن النية لبناء نظام عالمي جديد، عبر محورين اساسيين ؛ سياسي تمثل بانشاء هيئة الامم المتحدة ، واقتصادي تمثل بالاتفاق العام لالغاء التعرفة الجمركية والتجارة ( الغات) ،حيث دخلت هذه الاخيرة حيز التنفيذ في العام 1948 . واذ تعتبر منظمة التجارة العالمية من اقوى المنظمات الاقتصادية المنشأة في القرن العشرين، فقد اشرفت على حسن تنفيذ جولة أورغواي (1986-1994)، وهي آخر جولة وأهم الجولات التي أدت إلى إنشاء المنظمة، لما توصلت إلى نتائج إيجابية حول إلغاء القيود الكمية المفروضة على الواردات، ولم تقتصر على تنظيم تجارة السلع بل شملت تجارة الخدمات وحقوق الملكية الفكرية، كما أفرزت آليات جديدة تتعلق بفض المنازعات التجارية.
ثالثا : وظائف المنظمة وأهدافها
للمنظمة اهداف ووظائف متعددة حاولت تحقيقها خلال العقود المنصرمة وابرزها :
1 – ناد للمفاوضات المتعددة الطرف
من ابرز وظائف المنظمة جمع الدول في شبه منتدى أو ناد يتباحث فيه الأعضاء في شتى الأمور التجارية ويتفاوضون ضمن جولات متعددة الأطراف، فمن جهة تؤمن اجتماعات اللجان الفرعية الدورية في المنظمة فرصة للقاءات الدائمة بين ممثلي الأعضاء وتتيح المجال أمامهم لمناقشة المشاكل المهمة،
2 - تحقيق التنمية
تسعى المنظمة إلى رفع مستوى المعيشة للدول الأعضاء والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية لجميع الدول وبخاصة النامية التي يزيد عدد أعضائها في المنظمة عن 75% من عدد الأعضاء، وتلك التي تمر بمرحلة انتقالية إلى اقتصاد السوق، وتمنح المنظمة الدول النامية معاملة تفضيلية خاصة، فتعطيها فترات سماح أطول من تلك التي تمنحها للدول المتقدمة .
3- مراقبة اتفاقية اورغواي
أنيط بالمنظمة تنفيذ اتفاقية أورغواي، والتي تحتاج لحسن سير أعمالها إلى إطار مؤسساتي سليم وفعال من الناحية القانونية على خلاف الغات.
4 - حل الخلافات بين الدول
لم تكن آلية الغات كافية لفض المنازعات بين الدول الأعضاء التي قد تنشأ بسبب الاختلاف حول تفسير أحكام واتفاقيات جولة أورغواي نظرا لكثرتها وتشعبها وبسبب المشاكل التي عانت منها على مدى الخمسين عاما الماضية، لذلك كان من الضروري إنشاء آلية فعالة وذات قوة رادعة، تمثلت هذه الآلية في منظمة التجارة العالمية.
5 - اطار للتواصل بين الاعضاء
تلعب الشفافية دورا هاما في تسهيل المعاملات التجارية بين الدول، وبخاصة مع تعدد التشريعات وتنوع القطاعات التجارية والابتكارات، لذلك تفرض معظم اتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الدول الأعضاء إخطار غيرها بالتشريعات التجارية وغيرها من الأنظمة والأحكام ذات العلاقة ويخاصة المؤثرة في شؤون التجارة الدولية، كما تلعب الاتفاقية الخاصة بمراجعة السياسات التجارية للدول الأعضاء بشكل دوري دورا مهما في هذا المجال.
رابعا : شروط العضوية
ليست العضوية في المنظمة مفتوحة ، بل تخضع لشروط وقواعد تعتبر قاسية في بعض الاحيان على بعض الدول ام ابرز الشروط فهي :
1- تقديم تنازلات للتعرفات الجمركية
تشترط منظمة التجارة العالمية على الدولة الراغبة في الانضمام إليها تقديم جدول للتنازلات يحتوي على تعرفات جمركية تشكل التزامات لا يمكن رفعها من حيث المبدأ إلا في حالات خاصة.
2- تقديم التزامات في الخدمات
تقدم الدولة جدولا بالالتزامات التي ستتبعها في قطاع الخدمات يشتمل على قائمة بالحواجز والشروط التي تعترض القطاعات والنشاطات المهنية الخدماتية ووضع جدول زمني لإزالتها.
3- الالتزام باتفاقيات منظمة التجارة العالمية
تتعهد الدولة الراغبة في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بالتوقيع على بروتوكول انضمام يشمل الموافقة على تطبيق والتزام جميع اتفاقيات منظمة التجارة العالمية (ما عدا اتفاقية المناقصات الحكومية واتفاقية الطائرات المدنية فإنهما من الاتفاقيات الاختيارية) .
لقد واجهت الدول العربية اسئلة عدة حول اضمامها الى المنظمة وما هي الالتزامات التي يمكن ان تواجهها في ما يتعلق بالعلاقة مع عضوية إسرائيل في المنظمة؟ وهل تشترط منظمة التجارة العالمية التطبيع معها؟ وهو التخوف الذي راود بعض الدول العربية، فمن الناحية القانونية الصرفة أن وجود دولة ما في المنظمة لا يجبرها على التطبيع التجاري معها، وذلك استنادا إلى الاستثناء المذكور في المادة (13)من اتفاقية مراكش لتأسيس منظمة التجارة العالمية (المادة 33 من اتفاقية الغات السابقة)، الذي يسمح لدولة ما بـ "عدم تطبيق" الاتفاقية تجاه دولة أخرى شرط إبلاغها عن ذلك قبل موافقة المجلس العام (المؤتمر الوزاري) على الانضمام. وبالنسبة لمستقبل مكاتب المقاطعة، التي تثيرها الولايات المتحدة عند الحديث عن انضمام دولة عربية جديدة إلى المنظمة، فإن الرد على هذا التخوف يتمثل في سعي الدول العربية عن طريق هذه المكاتب إلى إجبار إسرائيل لتطبيق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967،على قاعدة ان تشريعات الأمم المتحدة تسمو على أي اتفاقيات اخرى تتعارض او تتناقض معها لجهة الالتزامات .
خامسا :المؤتمرات الوزارية
يعتبر المؤتمر الوزاري الذي يتألف من ممثلي جميع أعضاء منظمة التجارة العالمية رأس السلطة في المنظمة. ويجتمع المؤتمر الوزاري مرة كل سنتين على الأقل، فقد انعقد مؤتمره الاول في سنغافورة في الفترة من 9-13 كانون الأول 1996. وانعقد المؤتمر الثاني في جنيف بسويسرا في الفترة من 18-20 أيار 1998. وانعقد الثالث في سياتل بالولايات المتحدة الأميركية في الفترة من 30 تشرين الثاني إلى 3 كانون الأول 1999. والمؤتمر الوزاري الرابع في الدوحة عاصمة قطر في الفترة من 9-13 تشرين الثاني 2001.
المؤتمر الوزاري الأول في سنغافورة عام 1996المؤتمر الوزاري الثاني في جنيف بسويسرا 1998
المؤتمر الوزاري الثالث في سياتل بالولايات المتحدة عام 1999 :
المؤتمر الوزاري الرابع في الدوحة تشرين الثاني 2001




القسم الثاني
عولمة المال والاقتصاد والمنظمات المقابلة
تتمثل السمات الرئيسة للاقتصاد العالمي في وقتنا الراهن بحركة السلع والخدمات ورأس المال والمعلومات والايدي العاملة عبر الحدود الوطنية والدولية، وقد ساعد في ذلك التطور التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصالات بحيث بدا العالم قرية كونية يسهل فيها معرفة اي شيىء والوصول اليه بكلفة رمزية تكاد لا تقاس بما سبق. وتتماثل هذه السمات مع ما تدعو اليه منظمة التجارة العالمية ، كما تتناسق مع النظام الاقتصادي الدولي الذي ظهر فيه هيمنة النظام الرأسمالي الحر ومبادئه وقواعده بعد سلسلة التحولات السياسية الدولية في العقد الاخير من القرن العشرين والمتمثل في انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية والازدياد المتسارع لحركة رؤوس الاموال في الاسواق المالية العالمية وظهور التكتلات الاقتصادية الاقليمية الكبرى، وصولا الى تشكيل المثلث الاقتصادي للنظام الاقتصادي العالمي المتمثل بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي تعتبر الاداة والوسيلة الهامة لتنظيم وتشجيع التجارة العالمية وبالتالي اسهامها المباشر في عولمة الاقتصاد .(13)
اولا : تحولات الاقتصاد العالمي في ظل المنظمة
إن انشاء المنظمة بعد مفاوضات شاقة, جاءت نتيجة للأوضاع التي ميزت العالم منذ بداية التسعينيات كما اسلفنا، والمتمثلة في العولمة وتشابك الاقتصادات وارتباط مصالح العديد من الدول النامية بالدول المتقدمة والشركات الكبرى العابرة للقارات وازدياد دور المؤسسات الدولية في رسم مسار التنمية للدول النامية والتحكم فيه، هذا بالإضافة إلى سعي دول الشمال الغنية الاستحواذ على النصيب الأوفر من الاقتصاد العالمي لما تمتلك من شركات ضخمة لها فروعها المنتشرة في أنحاء العالم، والتي أصبحت تتحكم في جزء كبير ومتزايد من عمليات الإنتاج وتوزيع الدخل العالمي, وكذلك سعي تلك الدول لاستيعاب مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية ولو على حساب دول الجنوب. كل ذلك اضافة الى غيرها من الاسباب ساهم في ظهور العولمة باوجهها المختلفة الثقافية والسياسية والاقتصادية والمالية ، والتي يرى البعض قي الاخيرة ابرز مظاهر العولمة حيث زادت رؤؤس الاموال الدولية اضعاف المرات ما معدل نمو التجارة والدخل العالميين .(14)
1- مظاهر العولمة المالية
هناك العديد من هذه المظاهر اهمها :
- تعاظم دور رأس المال ، حيث صناعة الخدمات المالية بعناصره المصرفية وغير المصرفية ، وبحيث اصبح الاقتصاد العالمي تديره وتتحكم به رموز البورصات العالمية مثل داو جونز ، ناسدك، نيكاي، داكس وغيرها، والتي بواسطتها تنقل الاموال من مستثمر الى آخر داخل الدولة او بين الدول دون اي عوائق او صعوبات .
- ازدياد فوائض رؤوس الاموال الباحثة عن استثمارات بمعدلات ارباح عالية ، وهي بطبيعة الامر مدخرات غير مستثمرة في دولة المنشأ لرأس المال ، الامر الذي يدفعها للبحث عن استثمارات خارجية على المستوى الدولي .
- ظهور وسائل جديدة استقطبت اصحاب رؤوس الاموال،مثل المبادلات ( SWAPS) الخيارات (OPTIONS) المستقبليات FUTURES الى جانب الوسائل التقليدية في الاسواق المالية كالسندات والاسهم وغيرها .
- التقدم التكنولوجي الهائل بحيث يسمح للمستثمر من المتابعة الدقيقة لامواله وتحركاتها الاستثمارية لحظة بلحظة ، حيث جميع الاسواق المالية مرتبطة ببعضها البعض مما ييسر عملية الفعل ورد الفعل على اي عملية مالية مرغوب بها .
2- مزايا ومخاطر العولمة المالية
يرى انصار العولمة ان مزايا عديدة يمكن ان تتحقق للدول النامية والمتقدمة على السواء وابرزها :
- بالنسبة للدول النامية
تسطيع الدول النامية من خلال الانفتاح المالي الوصول إلى الأسواق المالية الدولية بهدف الحصول على ما تحتاجه من أموال لسد العجز في الموارد المحلية، أي قصور المدخرات عن تمويل الاستثمارات المحلية, الامر الذي سيؤدي إلى زيادة الاستثمار المحلي وبالتالي معدل النمو الاقتصادي. كما يفسح المجال في تخفيف تكلفة التمويل بسبب المنافسة بين الوكلاء الاقتصاديين. اضافة الى ذلك تؤدي الإجراءات التي يمكن ان تتخذ لتحرير وتحديث النظم المصرفية والمالية ، وخلق بيئة مشجعة لنشاط القطاع الخاص وكذلك الحد من ظاهرة هروب رؤوس الأموال الوطنية إلى الخارج، كما تساهم الاستثمارات الأجنبية على تحويل التكنولوجيا الى الدول المستثمر فيها. (15)
- بالنسبة للدول المتقدمة
تسمح العولمة المالية للبلدان المصدرة لرؤوس الأموال (وهي في الغالب الدول الصناعية الكبرى) بخلق فرص استثمارية واسعة أكثر ربحية أمام فوائضها المتراكمة، وتوفر ضمانات لأصحاب هذه الأموال وتنويعا ضد كثير من المخاطر من خلال الآليات التي توفرها الأدوات المالية .
اما مخاطر العولمة المالية فتبدو في مظاهر كثيرة ابرزها :التقلبات المفاجئة للاستثمارات الأجنبية (خصوصا قصيرة الأجل مثل استثمارات الحافظة المالية). والتعرض لهجمات المضاربة القوية التي من الصعب مواجهتها ؛ وهروب الأموال الوطنية الى الخارج؛ ودخول الأموال القذرة (غسل الأموال) ؛ وإضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة المالية والنقدية. (16)
ان دور الاستثمارات الأجنبية الخاصة في الدول النامية تأتي لخدمة التجارة الخارجية على خلفية تحقيق ربح كبير وسريع، فهي تعمل على تدعيم التقسيم الدولي القائم ولا تغيره لصالح الدول النامية، إذ إن رأي أنصار منظمة التجارة العالمية والمؤسسات الدولية الأخرى بأن تحرير التجارة والاستثمارات الأجنبية يسهم بشكل فاعل في تحقيق النمو الاقتصادي للدول تواجهه تحفظات كثيرة، فغالبا ما يكون النمو الجيد للاقتصاد هو الذي يأتي بالاستثمارات الأجنبية الخاصة وليس العكس, حيث إن هذه الاستثمارات شأنها في ذلك شأن القروض الخارجية الممنوحة من طرف المؤسسات المالية الدولية ، تذهب إلى الدول التي نجحت بالفعل في رفع معدلات نموها أكثر مما تذهب إلى الدول التي تحتاج إلى هذه الأموال لرفع معدل نموها, كما يشهد بذلك توزيع هذه الاستثمارات بين مناطق العالم.(17)
وإذا نظرنا إلى تركيبة هذه الأموال فإننا نلاحظ المكانة الكبرى للاستثمارات الأجنبية المباشرة والتزايد المطرد للاستثمار في الحافظة المالية على حساب القروض التجارية الأخرى (18)، وهو ما يعكس رغبة الدول المستقطبة لهذه الأموال في مثل النوعين الأولين لكونهما يخلقان فرصا جديدة للتمويل والتشغيل دون إثقال الديون الخارجية للدول.
ثانيا:التدابير الواجبة للاستفادة من اوضاع الاقتصاد العالمي
ان تصنيف الدول النامية ووضعها في فئة معينة لا يعني بالضرورة ان جميعها تعاني من نفس المشاكل وبالتالي وجوب تعميم الاجراءات الواجب اتخاذها لتحسين اوضاعها ، او الاستفادة من الفرص المتاحة والتي يمكن استغلالها ببعض التدابير ؛ بل ان لكل دولة خصائص معينة لجهة المشاكل التي يعانيها وضعها الاقتصادي والمالي وبالتالي ما يصلح لدولة ما لا يصلح بنفس النسبة لاخرى، الا انه يمكن استخلاص نقاط مشتركة تساعد هذه الدول على تجاوز بعض مشاكلها وتؤمن لها بيئة ملائمة للاستفادة من الامكانات المتاحة لها وابرزها:(19) 1- العمل على توفير سياسة عامة مستقرة وهادفة الى احتواء ازماتها الاقتصادية قدر الامكان ، الامر الذي يتيح اجواء من الثقة بجدوى الحلول الممكنة والمتاحة مما يشجع الاطراف الخارجية على الدعم المطلوب.
2- ادارة المؤسسات العامة والمرافق الحكومية بكفاءة عالية الامر الذي يتيح اجواء الثقة للشركات الداخلية والخارجية لتحريك استثماراتها ، ومحاولة ايجاد عناصر اضافية وحوافز مشجعة لذلك منها على سبيل المثال: بيئة قانونية مناسبة عبر تشريعات تواكب ما يتطابه الاقتصاد كتشريعات تخصيص بعض المرافق التي تشكل ضغطا مستمرا على مالية الدولة وكذلك ايجاد تشريعات تشجع على المنافسة، والعمل على ضمان شفافية المؤسسات المالية والاقتصادية ، ومحاربة الفساد والرشوة.
3- العمل على دعم القطاع المصرفي من خلال تشريعات مناسبة تتيح له مرونة العمل في الداخل والخارج ، اذ ان التجارب اثبتت ان الدول التي اهتمت بهذا القطاع تمكنت من تجاوز العديد من التغيرات الفجائية التي واجهتها بأكلاف معقولة .(20)
4- ان اجراء اصلاحات سياسية ضمن سياسة عامة واضحة ومحددة امر من شأنه المساعدة على الغاء الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في الدولة ويعتبر عاملا اساسيا في عملية التنمية، اضافة الى ذلك ان عملية اشراك الفئات الاجتماعية والاقتصادية المختلفة في صناعة القرارات في الدولة امر يسهم في التخفيف من المعارضة الداخلية لاي سياسة عامة فيما يتعلق بالاستثمارات الخارجية وهذا ما تعاني منه غالبية الدول النامية خوفا وتوجسا, من الانعكاسات السلبية لعولمة المال والاقتصاد .(21)
5 – ان مسيرة التنمية في الدول النامية مرتبطة بتحقيق معدلات نمو اقتصادية مرتفعة تفوق معدلات النمو الديمغرافي لتضييق الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة، الأمر الذي يتطلب تحقيق تطوير الكفاءات والكوادر (رأس المال البشري) القادرة على توليد التقانة الأكثر ملاءمة لظروف هذه الدول، وذلك من خلال التركيز على عنصري التعليم والبحث العلمي.
ثالثا: التكتلات الاقليمية في مواجهة المنظة والعولمة
بصرف النظر عما اذا كان من بين اهداف انشاء التجمعات الاقليمية، مواجهة منظمة التجارة العالمية او عولمة الاقتصاد والمال ، فان العديد من بين هذه التجمعات قد لعبت دورا بشكل او بآخر في تحرير التجارة والعولمة في مختلف مجالاتها على الاقل في محيطها الاقليمي ، وأسست عبر علاقاتها مع الغير ان كان من اعضاء المنظمة او غيرها البيئة التي ستساعد على المزيد من التحرير التجاري وتحرك رؤوس الاموال ، وان كان لكل تجمع ظروفه الخاصة واهدافه المختلفة عن غيره من التجمعات .
1- الاتحاد الاوروبي
يشتمل مشروع الوحدة الاوروبية على كامل عناضر الوحدة الاقتضصادية ، من التبادل التجاري بين الدول المنضوية تحت الاتحاد مرورا بالعملة الموحدة ، وتوحيد السياسات المالية والضريبة والنقدية والاجتماعية وغيرها، وقد تمكن الاتحاد من الذهاب بعيدا في مشروع الاتحاد بصرف النظر عن مستوى الآمال المحققة ؛ الا ان النقطة الجوهرية في هذا المجال تكمن في هل ان الاتحاد تمكن من اخذ الموقع المتمايز في النطاق الدولي ومواجهة التحديات التي تواجهه ، او تنتظر منه الاجابة عليها؟ ففي الجانب الاقتصادي وان تمكن من انجاز بعض الملفات الهامة كتوحيد العملة وغيرها، الا ان الكثير من الصعوبات لا زالت تواجهه على الصعيد الداخلي للاتحاد ، كمستوى النمو والدخل وغيرها في كل دولة ، اضافة الى التباين الحاد بين اقطابه على الكثير من المسائل الدولية الاقتصادية والسياسية ، الامر الذي حد من اتخاذه الموقع الموازي لحجم قوته بمواجهة تحديات النظام الاقتصادي والسياسي العالمي.(22) . ولقد حاول الاتحاد الأوروبي السعي لربط شبكات من التعاون أو الشراكة مع أطراف أقل نموا، وفي هذا المجال نلاحظ محاولات الاتحاد الأوروبي التوسع نحو الجنوب (بلدان أوروبا الشرقية والوسطى ودول جنوب حوض البحر الأبيض المتوسط..) (23) واتفاقية التبادل الحر لأميركا الشمالية، ذلك في اطار محاولاته التأثير قدر الامكان على السياسات الاقتصادية الدولية المتنامية في اطار المنظمات المالية الدولية التي ليس له اليد الطولى فيها .
2- تكتل النافتا
تأسس هذا التجمع الاقتصادي سنة 1994، وضم الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك ، والملاحظ ان أطرافه غير متكافئة، فنجد فيه المكسيك كبلد نام إلى جانب أقوى اقتصاد عالمي (الولايات المتحدة)، الامر الذي يخفي اختلاف الأهداف المرجوة من اتفاق تحرير التبادل.
فبالنسبة للمكسيك، تهدف الشراكة مع أطراف شمالية قوية إلى الرغبة في تحقيق أهداف داخلية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والوصول إلى أسواق الدول الشريكة وجلب الاستثمار والتكنولوجيا، وبالتالي تحسين معدل النمو الاقتصادي. فيما بالنسبة الولايات المتحدة تطلعت من خلال هذا الاتفاق إلى مواصلة سياساتها التجارية الدولية ومحاولة إقامة تكتل مواز للقوة الصاعدة للأوروبيين, بالإضافة إلى الرغبة في الاستفادة من اليد العاملة المتواضعة في المكسيك بشكل خاص(24)؛ لكن احد الاهداف الحقيقية هو محاولة تقديم المكسيك كنموذج في الانفتاح الخارجي للدول النامية، وبالتالي جذب أطراف أخرى إلى فتح أسواقها أمام السلع والخدمات، وبالتالي الدخول في منظمة التجارة العالمية.
وأخيرا بالنسبة لكندا، فقد سعت ألا تبقى معزولة في محيطها القريب (اميركا الشمالية) والاستفادة من ميزاتها النسبية في بعض المجالات (الاتصالات, النقل, التكنولوجيات الحديثة..).
أن تجربة هذا التكتل تعتبر حديثة العهد نسبيا مقارنة بتجربة الاتحاد الأوروبي مما يعوق تحليل انعكاساته, لكن يلاحظ أن هذا الاتفاق يهتم بالجانب التجاري فقط, حيث لا يفترض وجود تنسيق للسياسات الأخرى (المالية والنقدية) بين الدول الأعضاء عكس الاتحاد الأوروبي حيث التكامل على جميع الأصعدة.
3- تكتل آسيان
يهدف تكتل رابطة دول جنوب شرق آسيا إلى بناء اقتصاد متكامل يرتكز أساسا على تشجيع الصادرات وزيادة التبادل التجاري بين دول المنطقة. وقد نجح هذا التكتل في الرقي باقتصادات المنطقة إلى صفوف الدول المصنعة حديثا أو الناشئة، ويعود ذلك إلى سياسة هذا التجمع الموجهة إلى الخارج والجاذبة لرأس المال الأجنبي .
فقد ارتفع متوسط نصيب الفرد في منطقة شرق آسيا بالأسعار الحقيقية بنسبة تراوحت من 4% إلي 6% سنوياً منذ الستينات ، ففي المدة من 1960 إلي 1990 حققت أعلي ثمانية اقتصادات آسيوية معدلات نمو كانت أسرع ثلاث مرات من معدلات نمو اقتصادات أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا، وأسرع خمس مرات من معدلات نمو اقتصادات أفريقيا جنوبي الصحراء.
وقد ساعد هذا النمو الاقتصادي القوي إلي قفزات في ارتفاع مستويات المعيشة، فعلي سبيل المثال كانت أوضاع كوريا الجنوبية في الستينات شبيهة بأوضاع العديد من بلدان غرب افريقيا من حيث درجة التنمية الاقتصادية، أما اليوم فإن مواطني كوريا الجنوبية يتمتعون بدخل يتكافأ في المتوسط مع متوسط دخل سكان البلدان الأوربية. وشهدت سنغافورة تحولاً كبيرا حتى أصبحت مركزاً هاماً من مراكز الثقل في عالم التجارة والتكنولوجيا. وفي الصين حقق متوسط نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي زيادة قدرها أربعة أمثال تقريباً في غضون 20 عاماً فقط، ونتيجة لذلك خرج ما يقرب من 160 مليون نسمة من سكان الصين من شريحة الفقر المطلق الذي يحدد بالمستوي الذي يكون فيه متوسط دخل الفرد أقل من دولار واحد يومياً. وفي إندونيسيا ارتفع متوسط نصيب الفرد من استهلاك المواد الغذائية من أقل من 2100 سعر حراري إلي أكثر من 2800 سعر حراري يومياً في المدة من عام 1970، كذلك فإن عدد الفقراء في إندونيسيا – حسب البيانات الحكومية – كان يبلغ ما يقرب من 68 مليون نسمة في عام 1972، ومع حلول عام 1982 انخفض الرقم إلي 30 مليون نسمة، أي بنسبة 56%. وفي جميع بلدان ساحل المحيط الهادي أدي الاندماج النشط في الأسواق العالمية والانفتاح أمام الاستثمارات الأجنبية إلي حدوث تحسن هائل في مستويات معيشة مئات الملايين من سكان تلك المنطقة.(25)

وعلى الرغم من النجاح المحقق الا ان بعض دولها سرعان ما عانى من ازمات الانتاج والتصريف ، مما أثار التساؤلات حول جدية النجاحات السريعة والهبوط السريع عند تعرضها لازمات بسيطة مقارنة مع وصلت اليه.
4- منطقة التجارة العربية الحرة
يعتبرالتعاون الاقتصادي العربي من الضرورات الملحة التي تمليها تحديات النظام العالمي الجديد المبني على تحرير المبادلات التجارية والتكتلات الإقليمية . وفي السنوات الأخيرة يرزت بوادر إيجابية بهذا الصدد تمثلت بإنشاء منطقة التجارة الحرة، الا ان نجاح هذه المنطقة يتوقف على عوامل كثيرة، كما أنها غير قادرة على الدفاع عن مصالح وحقوق أعضائها في المحافل الدولية، لذا يجب تطويرها لتصبح منطقة اتحاد جمركي على سبيل المثال.
وكانت الدول العربية قد بدأت بتقليص الرسوم الجمركية المفروضة على تجارتها البينية في إطار منطقة التبادل الحر وفي اطار قواعد منظمة التجارة العالمية التي تنظم الاستثناءات الواردة على مبدأ الدولة الأولى بالرعاية. وحسب هذه القواعد يتعين أن ينصرف تحرير التجارة إلى الجزء الأكبر من المبادلات الخارجية للبلدان المعنية، أي لا يجوز أن تقتصر المنطقة على سلع وخدمات معينة أو على قطاع اقتصادي دون آخر، ويمكن من خلال هذه النظرة الشمولية استثناء بعض السلع أو الخدمات من التبادل الحر لأسباب تتعلق بتوازن ميزان المدفوعات أو بالمصالح العليا للدولة أو بالاعتبارات الأخلاقية والصحية والدينية للمجتمع. كما يسمح النظام العالمي بفترة انتقالية لتحقيق منطقة التبادل الحر على أن يتفق الأعضاء على برنامج تنفيذي يحدد مدة معقولة لهذه الفترة.
وانطلاقا من هذه المعطيات وافق المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لجامعة الدول العربية على البرنامج التنفيذي لاتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية لعام 1981 (26) ويتناول البرنامج إقامة "منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى" حسب جدول زمني محدد يفضي إلى إلغاء الرسوم الجمركية والحواجز الكمية. وقد أبدت 14 دولة رغبتها في الانضمام، وبلغ حجم تجارتها البينية 25.7 مليار دولار أي بنسبة 94.5% من التجارة العربية البينية.
اما على الصعيد العالمي ومقارنته بالتجارة العربية، فمن الملاحظ ان بين العام 1980 و1998 ارتفعت التجارة الخارجية العالمية (الصادرات والواردات السلعية) من 3802 مليار دولار إلى 10635 مليارا، أي بنسبة 180%، في حين هبطت التجارة الخارجية العربية خلال الفترة نفسها من 347 مليار دولار إلى 290 مليارا أي بنسبة سلبية قدرها 16%؛ وبعملية حسابية بسيطة يمكن الاستنتاج أن حصة التجارة العربية انتقلت من 9.1% إلى 2.7% من التجارة العالمية. في بداية هذه الفترة كانت الصادرات العربية تشكل 12.5% من الصادرات العالمية فأصبحت في نهايتها لا تتعدى 2.5% منها. كما انخفضت أهمية الواردات العربية من 5.8% إلى 2.7% من الواردات العالمية. كما كانت الموازين التجارية العربية تسجل فائضا وصل الى 123 مليار دولار عام 1980 وأصبحت تتحمل عجزا قدره ستة مليارات دولار عام 1998؛ وتعود اسباب هذا التباطؤ رغم تحرير التجارة العالمية من القيود الكمية والرسوم الجمركية ورغم الاتفاقات التفضيلية التي عقدت في التسعينيات إلى عوامل عديدة، ابرزها:
- ازدهار المبادلات الأوروبية والأميركية والآسيوية بمعدلات عالية جدا، في حين شهدت اسواق النفط انخفاضا كبيرا في الاسعار مما أثر بشدة في صادرات وواردات البلدان النفطية.
- ان خوض بعض الدول العربية نزاعات عسكرية قد ادى إلى تردي أجهزتها الإنتاجية فانعكس الأمر على تجارتها الخارجية وأدت إلى تفاقم مديونيتها.
- أضافة إلى ذلك فقد تحسنت مستويات التجارة البينية للتجمعات الإقليمية في حين سجلت التجارة العربية البينية تراجعا واضحا.
وفي عام 1999 قدر حجم التجارة العربية البينية بنحو 27.1 مليار دولار أي 8.6% فقط من التجارة الخارجية الكلية(27) ، فبالنسبة الى الأردن فقدد اعتمد على التجارة العربية التي تستحوذ على ربع تجارته الخارجية، ولم يطرأ تغيير مهم على هذه النسبة منذ عدة سنوات. وتراجعت حصة التجارة الأردنية البينية مقارنة بالتجارة العربية البينية من 10.9% عام 1989 إلى 5.2% عام 1999 بسبب المقاطعة المفروضة على العراق وضعف القاعدة الإنتاجية، وفي الوقت الحاضر ترتكز الصادرات والواردات البينية على المملكة العربية السعودية والعراق.
كما يلاحظ أن صادرات العراق الكلية أكبر بكثير من وارداته الكلية رغم حاجته لمختلف المواد المستوردة، والسبب هو خضوع الواردات لقرارات مجلس الأمن (النفط مقابل الغذاء والدواء) ولموافقة لجنة العقوبات ، كما ان هنالك عقود كثيرة لم تنفذ بموجب مذكرات التفاهم وبالتالي لم يستطع العراق الحصول على عدد كبير من المواد، أضف إلى ذلك استقطاع ثلث قيمة الصادرات للتعويضات. أما تجارة العراق البينية فقد عرفت تطورا مهما في الآونة الأخيرة حيث وقع على اتفاقات للتبادل الحر بين تونس ومصر وسوريا والأردن.
اما لبنان فيعاني الميزان التجاري من عجز مزمن تفاقم بسبب تدهور الأنشطة الاقتصادية الناجم عن الاعتداءات الإسرائيلية، ويعتمد لبنان على الأسواق السعودية والإماراتية في صادراته التي تتألف حسب أهميتها من الورق والملابس الجاهزة والفواكه، أما وارداته البينية التي تتكون من مواد الطاقة ، فتأتي من سوريا والمملكة العربية السعودية. ومن المتوقع أن يرتفع حجم التبادل التجاري مع سوريا نتيجة الاتفاق على الإلغاء التدريجي للرسوم الجمركية المفروضة على تجارة البلدين، حيث بدأ الإلغاء عام 1999 على أن تتحرر التجارة كليا بينهما بعد أربع سنوات.
أما التجارة العربية لدول مجلس التعاون الخليجي فتصل إلى 16217 مليون دولار، ويلاحظ هنا الأهمية القصوى للمملكة العربية السعودية حيث بلغت تجارتها البينية 6804 ملايين دولار أي 25.1% من مجموع التجارة العربية البينية، وتشمل صادراتها اضافة الى النفط المواد الصناعية والمنتجات الزراعية. وتحتل السعودية المرتبة العربية الأولى في تجارتها (صادرات وواردات) مع الإمارات والبحرين والكويت ولبنان ومصر والسودان، وهي كذلك المصدر العربي الأول لقطر والمغرب واليمن والمستورد العربي الأول من الأردن. كما تعود المرتبتان الثانية والثالثة للإمارات وعمان. وانطلاقا من هذه المعطيات يتضح أن أي تكتل عربي سواء في ظل منطقة حرة أو اتحاد جمركي أو سوق مشتركة لا يمكن أن يكون فاعلا ولا يكتب له النجاح إلا بمشاركة دول المجلس التي تمثل ثقل الانتاج والتبادل التجاري.
اما التجارة العربية البينية لدول اتحاد المغرب العربي فتصل الى 3447 مليون دولار أي ما يعادل 5.1% من تجارتها الخارجية و12.7% من التجارة العربية البينية، وتجري العمليات داخل الاتحاد باستثناء بعض المبادلات كالواردات النفطية المغربية من المملكة العربية السعودية.



القسم الثالث
واقع المنظمة والانتقادات الموجهة اليها

لقد ادى التحرير الاقتصادي المتسارع لأسواق السلع والخدمات، ورؤوس الأموال والتقنيات ، الذي شهد نقلة نوعية مع ميلاد منظمة التجارة العالمية، إلى تغير في مفاهيم التنمية، والثروة والموارد الإنتاجية والندرة والعمل ودور الدولة الرعائية وكذلك مفاهيم كالسيادة الوطنية وغيرها. وعلى الرغم من الجهود المضنية والشاقة من المفاوضات بين 120 دولة بمختلف انتماءاتها السياسية ومستوياتها المالية والاقتصادية إلا أن انتقادات كثيرة وجهت اليها من دول غنية وفقيرة، نامية ومتقدمة، وسواء أكانت هذه الانتقادات تكتيكية أو مناورات أو حقيقية عندما تتضرر المصالح فإنها متعددة؛ فمنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو إيكولوجي (بيئي)، ومنها ما هو صحي- أمني، ومنها انتقادات اجتماعية كما ان هناك انتقادات جوهرية تهدد مستقبل المنظمة وهي المتعلقة بنشاط المنظمة والمشاركة في رسم سياساتها وسير عملها وآليات التفاوض فيها.
اولا : الجانب الاقتصادي
من الانتقادات الموجهة الى منظمة التجارة العالمية من الوجهة الاقتصادية ان المنظمة تعير مصلحة التجارة على حساب التنمية، والتبادل الحر بصرف النظر عن اثمانه، وتحرير الاستثمار لمصلحة شركات الدول عوضا على المصلحة الوطنية للدولة ، اضافة الى العديد من القضايا ابرزها :
1- التجارة والتنمية
يرى البعض أن منظمة التجارة العالمية تهدر التنمية أو التغيير الهيكلي للاقتصاد مقابل المصالح التجارية وتعمد إلى عدم التمييز بين أثر تحرير التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية في رفع معدل النمو، وأثره في تغيير هيكل الناتج القومي، إذ من الممكن جدا أن يكون أثر هذا التحرير إيجابيا فيما يتعلق بمعدل النمو، وسلبيا فيما يتعلق بالتنمية.
إن التخوف الأساسي في هذا المجال يكمن في أن منظمة التجارة العالمية تحث على حرية التبادل التجاري وبالتالي رفع الحماية لكن رفع الحماية قد يؤدي إلى انخفاض معدل التصنيع ويعرض الصناعات الناشئة إلى منافسة قوية من جانب الشركات المتعددة الجنسيات أو الشركات عابـرات الـدول والـقـارات ، كما أن الزيادة الحاصلة في نمو الناتج القومي إثر تحرير التجارة قد تكون مؤقتة ولا تؤدي إلى تغيير الهياكل الانتاجية، وهذا ما تتبناه الدول العربية والدول النامية بشكل عام (28)، باعتبار ان الصناعات في معظم هذه الدول هي صناعات ناشئة والافضل عدم تعريضها للآثار السلبية التي قد تنجم عن تحرير التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية الخاصة الذي وصل إلى درجة غير مسبوقة في تاريخ الاتفاقيات الدولية المتعددة الأطراف.
الا ان الوجهة المقابلة والتي تتبناها المنظمة (29) تعتبر بان قوانينها لحرية التبادل التجاري تأخذ بعين الاعتبار المصالح التنموية؛ كما ترى أيضا أن نظامها التجاري قائم على كون التبادل الحر يهيئ المناخ المناسب للنمو والتنمية. والسؤال الذي يثار حول ما إذا كانت الدول النامية بمقدورها الاستفادة بما فيه الكفاية من هذا النظام ، فإن ذلك محل حوار ونقاش مستمر في المنظمة ، وهذا لا يعني بالضرورة أن نظام التبادل الحر لا يوفر شيئا لهذه الدول، بل ان الاتفاقيات تحوي على الكثير من القوانين التي تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول النامية، اضافة الى ذلك ، فهذه الدول تتمتع بفترة تمديد قبل أن تبدأ في تطبيق اتفاقيات منظمة التجارة العالمية، اما فيما يتعلق بالدول الأقل نموا فتتمتع بمعاملة خاصة اذ تعفى من الكثير من الالتزامات، فالإشكاليات المتعلقة بالتنمية تثار غالبا بهدف تبرير إجراءات من المفروض عدم قبولها حسب الاتفاقيات ومن الأمثلة على ذلك منح بعض الحكومات بعض الدعم. كما ان المنظمة تعتبر التنمية المستدامة هدفا أساسيا بالنسبة لها.
ان الموضوعية تقتضي النظر الى الانتقاد السالف الذكر بتجرد ، فلا بد من تسجيل الوجه الايجابي لجهة مراعاة المنظمة لخصوصيات بعض الدول وتفهم بعض ظروفها بصرف النظر عن خلفيات هذه الراعاة ، وكذلك لهدف التنمية المستدامة التي تسعى له المنظمة ، إلا أننا في المقابل مدعوون للتأكد والتحقق من ثلاثة مسائل اساسية ، تتمثل الأولى في ضرورة التمييز بين تحرير التجارة الدولية الذي يقتصر تأثيره فقط على نمو الناتج القومي، وبين حرية التبادل التجاري التي تتعدى إلى تغيير هيكليات الإنتاج وتؤدي إلى تنمية اقتصادية مستدامة مبنية على زيادة في معدل التصنيع. اما المسألة الثانية فتتعلق بضرورة عدم التسرع فيما يتعلق بالنتائج المتوقعة من الاستثمارات وتحرير التجارة الدولية دون التمييز الكافي بين دولة وأخرى من الدول التي تقوم بهذا التحرير. فنوع النتيجة النهائية لابد أن يتوقف ليس فقط على مرحلة النمو التي بلغتها الدولة ومدى توافر الظروف المواتية لدفع عجلة التصنيع فيها، بل لابد أن يتأثر أيضا بطبيعة الطرف أو الأطراف الأخرى التي يجري تحرير التجارة والاستثمارات إزائها إذ لابد أن تتغير النتيجة بحسب مرحلة النمو التي بلغتها الأطراف الأكثر نموا وطبيعة السلع والخدمات التي نحتاج إلى تصريفها. المسألة الثالثة هي الاعتقاد بأن تحرير التجارة أو الاستثمارات الأجنبية يمكن أن تحدث النتائج المرغوب فيها في الدولة الأقل نموا دون تدخل إيجابي من هذه الدولة، باعتبار أنه حتى في الحالات التي تحمل فيها التجارة الخارجية أو الاستثمارات الأجنبية فرص الإسراع بمعدل التصنيع وتغيير الهياكل الاقتصادية في الاتجاه المنشود، من الصعب أن نتصور تحقيق ذلك دون اتخاذ حد أدنى من التوجيه والتدخل من قبل الدولة.
2- تحرير الاستثمار لمصلحة شركات الدول على مصلحة الدولة الوطنية :
تعتبر الدول النامية أن اجحافا قد لحق بها جراء حرمانها من وضع قيود على الاستثمارات الأجنبية دون إلزام الشركات متعددة الجنسيات بالامتناع عن التلاعب بالأسعار، وفرض اسعار احتكارية على السلع التي تتعاطى بها؛ كما تعتبر الدول النامية ايضا أن إلغاء القيود على الاستثمارات مطلب موجه إليها دون غيرها؛ ولذلك تطالب بإعادة النظرفي صياغة اتفاقية إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة.
ان مخاوف الدول النامية تنطلق من أن عولمة الأسواق المالية وتحرير الاستثمارات يمكن ان تترافق مع مخاطر كثيرة وأزمات ماليـة مكلفة ، مثال أزمة المكسيك عام 1994 ، ودول جنوب شرق آسيا 1997 والبرازيل وروسيا وآسيا 1999 ، ويمكن رصد ابرز المخاطر في التالي :
- المخاطر الناجمة عن تقلبات رأس المال بشكل مفاجىء .
- مخاطر تعرض البنوك للأزمات كالافلاسات وغيرها.
- مخاطر التعرض للمضاربات القاسية التي يصعب مواجهتها.
- مخاطر هروب الأموال الوطنية للخارج وهو امر مألوف في الدول النامية.
- إضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة التقدية والمالية عبر التلاعب باسعار العملة الوطنية.
- مخاطر دخول الأموال القذرة (غسيل الأموال) ، وهي مخاطر تدخل عبر آليات تحرير رأس المال المحلي والدولي.
إن ما يقابل هذه المخاطر من وجهة نظر المنظمة تكمن في مجموعة المزايا التي يتيحها تحرير الاستثمارات، والتي تتمثل في سد الحاجة الماسة لرأس المال في الدول النامية، وزيادة رصيد العملات الأجنبية في اسواقها المالية، وتوفيرالتكنولوجيا الحديثة،وجذب الكفاءات الإدارية والتقنية اللازمة لاي عملية تنمية، وتوفير فرص عمل بشكل مستمر مع زيادة الاستثمارات وبالتالي تخفيض نسبة البطالة العالية والمزمنة في هذه الدول، وزيادة إيرادات الدولة .
أن للدول النامية ما يبرر هواجسها من ضرورة الإحاطة بالمخاطر الناجمة عن تحرير الاستثمارات وعدم التوقف فقط عند المزايا المتوقعة او المرجوة ؛ اذ ان تحرير الاستثمارات ليس امرا يؤخذ كله أو يترك كله. ولهذا فقط خلص الاقتصادي رمزي زكي إلى نتيجتين مهمتين في شأن العولمة المالية(30):
- النتيجة الأولى: أن العولمة المالية وما يصاحبها من تحرير الاستثمارات الدولية، يؤدي إلى حدوث تدفقات كبيرة ومفاجئة ومتقلبة لرؤوس الأموال قصيرة الأجل الباحثة عن الربح السريع والتي تحدث أثارا ضارة بالاستقرار الاقتصادي، هي أمر غير مرغوب ويتعين تحصين الاقتصاد الوطني لمنع حدوثها. كذلك يجب تأمين الاقتصاد الوطني ضد مخاطر تدويل مدخراته الوطنية وعدم السماح للعولمة المالية بتجريفها نحو الخارج، والتصدي بحزم للمضاربات المالية، سواء من جانب المستثمرين المحليين أو الأجانب كي لا تتحول إلى نشاط مهيمن.
- النتيجة الثانية: فتخلص إلى أن العولمة المالية التي تؤدي إلى حدوث تدفقات كثيرة لرؤوس الأموال طويلة الآجل هي أمر مرغوب فيه، يجب البحث عن السياسات والإجراءات الفاعلة لجذب هذه الاستثمارات. ولهذا وبناء على أن الاستثمارات الأجنبية غالبا ما تتم من خلال شركات متعددة الجنسيات فإنه من المهم أن تفرض الدول النامية ضوابط أثناء مراجعتها للاتفاقيات المتعلقة بتحرير الاستثمار .
3- التبادل الحر بأي ثمن
وتظهر الانعكاسات السلبية هنا بشكل صارخ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: (31)
- ان إلغاء الدعم الذي كانت تمنحه بعض الدول المتقدمة للسلع الزراعية قد رتب نتائج سلبية كبيرة على للدول التي تتكل على الواردات الزراعية لسد حاجاتها .
- كما ادى تحرير تبادل السلع الى انخفاض كبير في ايرادات الرسوم الجمركية وخصوصا بالنسبة للدول النامية التي تشكل هذه الرسوم نسبة كبيرة من مجموع إيراداتها.
- كما أدى تحرير السلع إلى تعريض الصناعات الناشئة للدول النامية إلى منافسة قوية يصعب مواجهتها .
- أن السلع التي تتمتع فيها الدول النامية بقدرة تنافسية عالية، كسلع المنسوجات، مازالت الدول المتقدمة غير متحمسة لتحريرها بالمقارنة مع سلع أخرى لا تعتبر ذات أهمية بالنسبة للدول النامية.
أما لجهة الخدمات فلم تراع منظمة التجارة العالمية انعدام الهوة الكبيرة في حجم قطاعات الخدمات في الدول الغنية وحجمه في الدول الفقيرة. ولم تراع المنظمة أيضا ارتباط بعض قطاعات الخدمات في الدول النامية بمصالحها الإستراتيجية مما نجم عن ذلك مجموعة من الهواجس، التي عبرت عنها الدول النامية ومنها الدول العربية ، وقد اثيرت في العديد من المناسبات ، وتتمثل هذه الهواجس والمخاوف في عدة وجوه ابرزها :
- إن مـزايـا الحـجـم الكـبـيرالذي تتميز به الشركات العملاقة في الدول الغنية يجعل الدول النامية غير قادرة على المنافسة مهما بذلت من جهود ، فمن الملاحظ ان الاندماج في شركات البنوك ومؤسسات التأمين العملاقة، من الصعب النظر اليها خارج اطار إستراتيجيات السيطرة على قطاع الخدمات على المستوى العالمي .
- الهوة الكبيرة بين حجم الخدمات المقدمة من طرف الدول الغنية وحجم الخدمات في الدول النامية، واتساع هذه الهوة بصفة مطردة لصالح الدول الصناعية.
- أن تحرير بعض الخدمات قد يعرض بعض التوجهات والمصالح الإستراتيجية للبلدان النامية إلى خطر كبير.
- إن اتفاقية تحرير الخدمات تساوي بين مقدم الخدمة الاجنبية ومقدمها الوطني، الامر الذي يفوت الفرصة التي تمكن من حماية المشروعات الوطنية للخدمات.
وفي مقابل ذلك، ترى منظمة التجارة العالمية (32) أن ما يتم وفق مبدأ تحرير التبادل من سلع أو خدمات يتعلق في الحقيقة بما ترغب كل دولة من الدول أن تتفاوض فيه، وهو امر متروك بالتالي للدولة التي تريد الانضمام للمنظمة وهي ليست مكرهة على فعل امر لا ترغب به، كما أنه من أحد مبادئ منظمة التجارة العالمية تقليص العقبات الحمائية وتحرير التبادل، غير ان الاستفادة من التبادل التجاري ستطال الجميع. وفيما يتعلق بحجم تقليص ورفع الحواجز فإنه أمر يتوقف على الدول الأعضاء المتفاوضة ايضا.
إن الوضعية التفاوضية ترتبط بإرادة تقليص الحواجز وبما ترغب الدول الحصول عليه من الأطراف الأخرى.وفي هذا المجال يعتبر دور منظمة التجارة العالمية هو توفير إطار مؤسساتي للتفاوض لتحرير التبادل، كما أن المتظمة تضع القواعد التي تحكم تحرير التجارة، وستسهم هذه القواعد من التقليص التدريجي للحواجز حتى يتمكن المنتجون الوطنيون من التأقلم مع الاجراءات التي يتم التوصل اليها؛ كما أن اتفاقيات المنظمة تحتوي على بنود خاصة تأخذ بعين الاعتبار الدول النامية وتوضح أيضا متى وكيف يمكن للحكومات أن تحمي المنتجين الوطنيين، على سبيل المثال ضد واردات تتمتع بدعم أو تشكل حالة من حالات الإغراق، ففي هذه الحالة فإن الهدف هو إقامة تجارة عادلة منصفة. وهناك أيضا مبادئ أخرى مهمة في نظام منظمة التجارة العالمية بل ربما أكثر أهمية من مبدأ حرية التبادل التجاري مثال: مبدأ عدم التمييز، ووضع شروط ثابتة وشفافة للتجارة. كما نضيف أيضا أن بعض الكتاب يطمئن الدول العربية ويؤكد على نفس الحجج السابقة الذكر معتبرا أن ما تبديه هذه الدول من مخاوف ومحاذير لا يستند في الواقع على أسس قوية وخصوصا فيما يتعلق بتحرير الخدمات وأنها محدودة الأثر لمدة طويلة. ويدافع آخرون عن اتفاقية تحرير الخدمات بأنها تعتبر عاملا محفزا من شأنه رفع كفاءة إنتاج الخدمات في الدول النامية.
ثانيا : الجانب الاجتماعي
توجه الانتقادات الى المنظمة من وجهة اجتماعية على قاعدة الاسهام الكبير للمنظمة منذ تأسيسها على تركيز الثروة العالمية بين عدد قليل من الاثرياء، فيما رقعة الفقر والجهل في ازدياد ملحوظ، وارتفاع واضح ومضطرد في نسبة البطالة على المستوى الدولي ، اضافة الى التوابع السلبية الناجمة عن تلك المظاهر .اما الجهات التي تقف وراء تلك الانتقادات فتتركز في المنظمات غير الحكومية ، حيث ركزت نشاطاتها واطلقت حملات واسعة عبر ناشطيها في مختلف دول العالم، اذ ان كل مؤتمر وزاري للمنظمة كانت ترافقة حملات دعائية مركزة ومفندة علميا بالاحصاءات والارقام التي تدعم وجهة نظرها (33). فعلى سبيل المثال انطلقت مظاهرات كبيرة في مدينة سياتل بالولايات المتحدة الأميركية وفي باريس وجنيف لتبرزمجموعة من الانتقادات الاجتماعية وغيرها؛ فقد وزع بيان وقعته 1200 منظمة من 87 دولة تندد باتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء مما أدى إلى انتشار الفقر والمجاعة والتهميش والبطالة، واظهر البيان أن اتفاقات منظمة التجارة العالمية التي أبرمت في دورة الأورغواي قد استهدفت فتح أسواق جديدة للشركات عابرات الدول والقارات على حساب الاقتصاد الوطني والعديد من الفئات الاجتماعية، كما انتقدت آليات وإجراءات المنظمة باعتبارها معادية للديمقراطية وتفتقر للشفافية، فيما دول الشمال تسلك سلوكا حمائيا لمنتجاتها وأن هذه الإجراءات كلفت الدول الفقيرة سبعمائة مليار دولار سنويا وهو ما يعادل أربع عشرة مرة قيمة المساعدات التي تحصل عليها هذه الدول الفقيرة في إطار مساعدات التنمية ومن بين المنظمات غير الحكومية نجد المنظمات الأميركية التي اتهمت الرئيس الأميركي ، جورج بوش بازدواجية المعايير، ففي الوقت الذي يطالب بعولمة ذات بعد إنساني يساند ويوجه رجال الأعمال في ايجاد البيئة القانونية والظروف الملائمة لنشاطاتهم في الداخل والخارج. أما في فرنسا فقد رفضت المنظمة الفرنسية للمنظمات غير الحكومية الاعتراف بمنظمة التجارة العالمية وطالبت بفرض ضرائب لمساعدة فقراء العالم. وفي اليابان وكوريا طالبت المنظمات غير الحكومية منظمة التجارة العالمية بالعمل على إيجاد قواعد جديدة لضمان الحفاظ على الأمن الغذائي وتوقف هجرات المزارعين باعتبارها ستولد ازمات كبيرة لا حدود لها ومن الصعب السيطرة عليها.
أما الموضوع من وجهة نظر منظمة التجارة العالمية فترى أن الادعاء بأن اتفاقياتها تقلص فرص العمل وتوسع الهوة بين الأغنياء والفقراء هو إدعاء مبسط ولا يستند الى وقائع موضوعية، فالتجارة يمكن أن تشكل قوة دافعة لخلق فرص العمل ومكافحة الفقر ، إلا أنه في بعض الأحيان تكون هناك حاجة ماسة إلى تقليص العمال وبالتالي تسريح بعضهم، وفي هذه الحالة فإن الوضعية تكون صعبة على المستوى الاجتماعي، لكن في كل الحالات الحمائية لا تعتبر حلا.
إن العلاقة بين التجارة والعمل علاقة معقدة. فالتجارة الحرة في بيئة مستقرة توفر المناخ الملائم للنمو الاقتصادي، الامرالذي يمهد لايجاد فرص للعمل وبالتالي الاسهام في تقليص هامش الفقر. والملاحظ ان المنظمة تتطرق الى هذه القضايا باسلوب التدرج؛ فهي تنادي بتحرير متدرج يعطي فرصة زمنية للتكيف اللازم، وتعتبر أن هناك العديد العوامل الأخرى لا سلطة لها عليها ولا هي من صلاحياتها، وهذه العوامل هي المسؤولة عن التغيرات الحاصلة على مستوى المداخيل أو الرواتب وكذلك على معدل البطالة. فالاقتصاديات المتقدمة تعتمد على تكنولوجيا تتطلب يدا عاملة ماهرة وذات كفاءة عالية لذلك فالتغيرات التي تطال مستوى الأجور تعود إلى التغيرات التكنولوجية وتسارعها اضافة الى عوامل اخرى متعلقة بها كالعرض والطلب على تلك الخدمات. واخيرا تعتبر المنظمة أنه إذا كان هنالك مليار ونصف من البشر يعيشون في حالة فقر، فإن تحرير التبادل التجاري ابتداء من الحرب العالمية الثانية قد اسهم في انتشال ثلاثة مليارات من البشر من حالة الفقر.
ان التدقيق في بعض الارقام تدحض مزاعم المنظمة والخلفية التي تدافع منها، فبعض الدراسات (34) تؤكد أن الدول الأكثر فقرا في العالم تسخر ما بين 162 مليارا إلى 265 مليار دولار من عائدات التصدير نتيجة لتطبيق اتفاقيات جولة الأورغواي، في حين أنها تدفع ما يتراوح بين 145 مليارا و292 مليارا نتيجة الزيادة في تكلفة فاتورة الغذاء وهو ما يعني زيادة تهميشها في الاقتصاد العالمي، مما سينعكس سلبا على الشرائح الاجتماعية ذات المداخيل المتواضعة. وهناك مؤشرات أخرى خطيرة على المستوى الاجتماعي تتمثل في تركيز الثروة لدى عدد محدود من الشركات عابرة الحدود والقارات، إذ توجد 200 شركة عملاقة من هذا الصنف تتصدر قائمة هذه الشركات تقوم بتنفيذ وممارسة ربع النشاط الاقتصادي العالمي ، ورغم ذلك لا تستخدم سوى 0.075 % من القوى العاملة مما يدل على أن النظام الرأسمالي لا يعير أي اهتمام للعمل والقضايا الاجتماعية في فلسفته الاقتصادية .
ثالثا : الجانب الصحي
يتركز هذا الجانب من الانتقادات بين الكبار في المنظمة لا سيما الدول الاوروبية والولايالت المتحدة الاميركية ، حيث لا تسمح هذه الاخيرة فتح اسواقها لمنتجات الزراعية على قاعدة وجوب تأمين مواصفات صحية وبيئية عالية للمواد الزراعية ، وخوفا من دخول مواد لا تتطابق مع المواصفات الاميركية .(35)
بينما ترى منظمة التجارة العالمية أن هناك بنودا أساسية من الاتفاقيات تتيح للحكومات القيام بالإجراءات الضرورية لحماية صحة وحياة الأفراد والحيوانات وصيانة النباتات؛ كما ان هناك اتفاقيات تدرس بصفة مفصلة معايير للسلع الغذائية والمنتجات الزراعية ومصادر أخرى ذات طبيعة حيوانية ونباتية، وذلك انطلاقا من المعايير المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة وكذلك المنظمة العالمية للصحة.
ان الناحية العملية والفعلية للانتقادات الصحية المرتبطة بالغذاء والانتناج الزراعي والحيواني ، هو في حقيقة الامر مرتبط بشكل فعلي مع الدول النامية وغيرها من الدول ان كانت اوروبية او اميركية، وليس الخلاف بين الدول المتقدمة فقط، باعتبار ان المنافسة التجارية في مجال التبادل التجاري وفتح الاسواق سيكون شبه معدوم بين الدول النامية والمتقدمة، وستظل الدول الفقيرة المكان الاسهل لتصريف المنتجات غير عالية الجودة ان لم نقل التي لا تنطبق عليها المواصفات والشروط العلمية المقبولة .
كما ان الامر مرتبط الى حد بعيد بالتقدم التكنولوجي الهائل المستخدم في الهندسة الزراعية ، وحتى هندسة الوراثة الانسانية وحاليا قضايا الاستنساخ وما سيستتبعها، كل تلك الامور لا تمتلكها سوى الدول المتقدمة التي ستصول وتجول في عالم الدول النامية تصريفا للمنتجات ومجالا للاختبارات، كل ذلك طبعا في ظل عدم توفر امكانات الرقابة الفعلية في هذه الدول وعدم قدرتها اصلا على امتلاك مثل هذه التكنولوجيا للعديد من الاسباب والاعتبارات المادية او غير المادية .
رابعا : الجانب البيئي
ينطلق هذا الجانب من اعتبار مسؤولية المنظمة عن اسهامها في فتح الاسواق امام الشركات المتعددة الجنسية التي ساهمت بدورها في تدمير البيئة الطبيعية للارض، بفعل توسع نشاطاتها وانتاجها دون احترام مواصفات معينة للحد من التأثير على البيئة، على قاعدة ان المهم الانتاج والربح والتوسع ؛ وقد اخذ هذا الجانب حيزا كبيرا من نشاط المنظمات غير الحكومية اثناء انعقاد مؤتمري سياتل والدوحة .
اما في رد منظمة التجارة العالمية ، فأن كثيرا من بنودها يأخذ بعين الاعتبار المخاوف المتعلقة بالبيئة، فديباجة اتفاق مراكش المؤسس لمنظمة التجارة العالمية الذي رسم أهداف المنظمة تحدث بالتحديد عن الاستخدام الأمثل للموارد وكذلك عن التنمية المستدامة وحماية البيئة؛ ومن بين أهم المواد في هذا الشأن المادة (20 ) من الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة التي تطالب الدول الأعضاء باتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية حياة الأفراد والحيوانات وصيانة النباتات ، وكذلك اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على المصادر الطبيعية القابلة للنفاد اضافة الى ذلك، هناك اتفاقيات خاصة تأخذ بعين الاعتبار المشاكل المتعلقة بالبيئة، كما تستند في دعواها هذه الى عدم اختصاصها في هذه الامور وان الامر متعلق بالمنظمات ذات الاختصاص البيئي على الصعيد الدولي والمحلي .
ربما يكون من السهل على المنظمة تبرير اي انتقاد يوجه اليها ، الا انه من الصعب ان تجد التبريرات المقنعة للكثير من الامور المتعلقة في المجال البيئي، صحيح انه من الناحية العملية ليس للمنظمة علاقة بالبيئة كمجال تخصص ، الا ان اختصاصها مرتبط مباشرة بالدول التي تشكل خطرا حقيقيا على البيئة، لا سيما الدول المتقدمة علميا وعمليا في مجال الصناعات الكبيرة المتنوعة والتي تحتاج الى اختبارات واسعة ومستمرة ، بدءا من انبعاث ثاني اكسيد الكربون جراء الصناعات ، وانتهاءا بالتجارب النووية وغيرها. حتى ان الولايات المتحدة لم توقع على اتفاق كيوتو للانحباس الحراري للكرة الارضية وهو امر حيوي ليس للبيئة بشكل محدد وانما يهدد وجود البشرية ومستقبل بقائها.
خامسا :الجانب التنظيمي وسير العمل للمنظمة
وجه للمنظمة العديد من الاتقادات المتعلقة بأنظمتها وسير عملها وأدائها في معاجلة العديد من القضايا، وفي محاولة لقراءة ما تم التداول به خلال اجتماعاتها الوزارية الاربعة (سنغافور 1996وجنيف 1998 وسياتل 1999 والدوحة2001 ) يمكن رصد العديد من النقاط ابرزها :
- المنظمة تقوم بضغوط كبيرة على الدول الاعضاء لاملاء سياسات اقتصادية عليها بصرف النظر عما اذا كانت ملائمة ام لا.
- المنظمة اداة ووسيلة بيد مجموعات الضغط الاقتصادية الدولية .
- الدول ذات الاقتصاد المتواضع مجبرة على الانضمام اليها .
- تهميش الدول الصغيرة فيها، اذ لا وزن لها في اتخاذ القرارات الهامة.
-لا ديموقراطية المنظمة في عملية صنع القرار واتخاذة .

ان مناقشة هذه المسائل والقاء الضوء عليها والردود الموجهة اليها من قبل المنظمة ، تعطي فكرة واضحة عن صحة او عدم صحة تلك المسائل .
1- الدول الصغيرة مجبرة على الانضمام اليها :
ترى الدول النامية أن تاريخ 15/12/1993 تاريخ نهاية الولاية التي حددها الكونغرس الاميركي للرئيس الأميركي للتفاوض حول نتائج جولة أوروغواي من دون الرجوع إليه. كان بمثابة السيف المسلط على رقاب الجميع، وخصوصا الدول النامية المتضررة التي كانت تبحث عن ضمانات ومنغمسة في التفاوض مما يعني أن عامل الوقت كان حاسما دون الأخذ في الاعتبار مصالح الدول النامية.
فالدول النامية وقعت على اتفاقيات منظمة التجارة العالمية في نيسان/ابريل 1994 تحت التهديد حينا بتحميلها مسؤولية فشل المنظمة وما سيستتبع ذلك من تداعيات وإمكانية نشوب حروب بين الأقطاب الاقتصادية العالمية، وكذلك فيما بين هذه الأقطاب والدول النامية؛ وبالإغراء أحيانا أخرى عبرالوعود التي تقدمت بها الدول الصناعية لمساعدة الدول النامية والتغلب على المشاكل التي ستواجهها.
اما وجهة نظر المنظمة فتنطلق من حاجة الغير لها، فتعتبر أنه من الافضل للدول النامية أن تكون جزءا من المنظمة بدلا من أن تكون خارج النظام التجاري الدولي (36)، ولذلك يوجد في لائحة الدول المتفاوضة دولا عظمى ودولا صغيرة وأسباب ذلك إيجابية أكثر منها سلبية. هذه الايجابيات تجد مبرراتها في المبادئ الأساسية لمنظمة التجارة العالمية، كمبدأ عدم التمييز ومبدأ الشفافية، وبالانضمام الى المنظمة فإن البلد الصغير يستفيد بصفة آلية من المزايا التي يتفق عليها أعضاء المنظمة فيما بينهم. وتعتبر المنظمة أن لجوء الدول الضعيفة إلى الاتفاقيات التجارية الثنائية ليس في صالحها ويتطلب منها التفاوض مع كل طرف وتجديد التفاوض بصفة دورية مما يكلفها اعباء اضافية، كما أن العضوية في المنظمة تمكّن الدول الصغيرة من التكتل الامر الذي يقوي من قدرتها التفاوضية، كما ان العضوية تفسح المجال لها القيام بتحالفات مع الدول التي تتقاطع معها في المصالح المشتركة.
ان امر الانضمام الى المنظمة بات بنظر الكثيرين من المحللين الاقتصاديين والمراقبين في مجالات العلاقات الدولية امرا لا مفر منه ، وبات من الصعب على اي دولة الابتعاد عنها ، بل يعتبر الانضمام امرا محتوما كخيار ليس للدولة اليد الطولى فيه، فمجموعة الاغراءات التي تقدم - رغم التشكيك بقدرة الدول النامية الاستفادة منها بشكل فعلي-جعلت من بريقها وهجا لا يقاوم لحل مشاكلها المتراكمة ، بل باتت الدول تسعى بشكل جاهد وتقدم كل ما يطلب منها للقبول ، حتى ان دولة كبرى كالصين امضت عشر سنوات من المفاوضات للدخول في عضوية المنظمة، واللائحة تطول باسماء الدول التي تنتظر جنة منظمة التجارة العالمية !.
ربما يكون الخيار المتاح للدول النامية للتعامل مع المنظمة ضعيفا ان لم يكن معدوما، الا ان ضعف الخيارات لا يمكن ان يمنع الدول من مقاومة السلبيات التي تراها مضرة بها، رغم محدودية امكاناتها بمواجهة عولمة جارفة لا ترحم الضعيف.
2- تهميش الدول الصغيرة وعدم فعاليتها في اتخاذ القرارات
من الواضح ان التفاوض يستلزم العديد من المزايا منها القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للدولة ، وبالتالي هيبتها على المستوى الدولي ، اضافة الى نوعية المفاوض وتصنيفه كخبير قادر وعالم في خفايا الامور ، واحيانا كثيرة يلعب عدد الخبراء المشاركين دورا هاما في توجيه طرق التفاوض وصولا الى نتائج وفقا للكيفية المرغوب بها.
وبما ان اهم آليات منظمة التجارة العالمية في تحديد الاتفاقات وتنفيذها لاحقا ، المفاوضات بين الاطراف، فان هذه الآلية تلعب دورا سلبيا للدول النامية، فالولايات المتحدة على سبيل المثال حضرت مؤتمر سياتل بوفد مؤلف من 260 خبيرا ، فيما سجل نقص في عدد خبراء الدول النامية التي حضرت المؤتمر، ذلك يعود ليس لعدم توفر الخبراء بشكل كاف، وانما ربما المسألة تطال حتى كلفة اقاماتهم وقت التفاوض؛ اضافة الى ذلك فقد سجل العديد من الملاحظات على آلية التفاوض وما نتج عنها، فعلى سبيل المثال فقد تمّ الطلب الى احدى الدول بتغيير مفاوضيها على قاعدة عرقلة اعمال المؤتمر ، فيما كان المطلوب ابدالهم بسبب مدافعتهم الشرسة عن مصالح بلدهم ؛ وحتى الامر لا يقتصر على ذلك ، فلو مررت الاتفاقيات وفقا للوجهة المطلوبة فان عقبات كثيرة سوف تعترض بعض الدول عند تنفيذها .
اما وجهة نظر المنظمة فتعتبر أن الدول الصغيرة ستكون أضعف في غياب المنظمة، وأن المنظمة ستضاعف من قدراتها التفاوضية في النظام التجاري للمنظمة؛ فالجميع ملزمون التقيد بنفس القواعد والاجراءات؛ وعليه فقد مكنت إجراءات تسوية النزاع في المنظمة بعض الدول النامية من الاعتراض على بعض الإجراءات المتخذة من طرف بعض الدول المتقدمة؛ فلولا المنظمة لما كان بوسع هذه البلدان الصغيرة أن تتصرف ضد شركائها التجاريين الأقوياء؛ وتضيف المنظمة لدعم رأيها أن القواعد تنتج عن المفاوضات المتعددة ألطرف، فمفاوضات الأورغواي ما كان لها أن تنجح لو لم تقبل الدول المتقدمة إعادة النظر في تجارة المنسوجات والمنتجات الزراعية التي طالبت بها الدول اانامية انذاك.
ان مبدأ المساوة الذي تنطلق منه المنظمة لجهة الخضوع للقوانين والاجراءات بين الدول امر صحيح ، الا ان المساواة شيء والعدالة شيىء آخر ؛ فما هي الميزة التي يمكن ان تستفيد منها دولة ضعيفة في مواجهة دولة غنية في ظل قواعد المساواة ؟ وما هي القدرة التفاوضية لمجموعة من الدول النامية في مواجهة الدول المتقدمة كما حصل في جولة ارغواي كما تبرر المنظمة ؟ والسؤال الذي يطرح نفسه في نفس السياق ايضا لماذا ترفض الولايات المتحدة الاميركية الآن الرضوخ للضغوط الاوروبية في المجالات الزراعية والبيئية رغم المساواة في الاجراءات بين المتفاوضين؟ اذن لمنطق القوة الدور الابرز في الوصول بالمفاوضات الى النهايات المرجوة وليس لاي سبب آخر .
3- دكتاتورية المنظمة
يمس هذا المنوضوع جوهر وجود المنظمة واستمرار عملها نظرا لتعلق الامر بآلية اتخاذ القرارات في المنظمة، فبينما كانت الدول المتقدمة تصر في جولة ارغواي على ان تكون الآلية لاتخاذ القرارات هي التوافق، طالبت الدول النامية بالتصويت كآلية مناسبة وفقا للمادة التاسعة من النظام الاساسي للمنظمة ؛ وقد تمّ التوصل الى صيغة تسوية انذاك تقر اللجوء الى التصويت في حال عدم التوصل الى التوافق، ورغم ذلك فقد رفضت الدول المتقدمة تطبيق هذه المادة ، الامر الذي جعل هذه القضية امرا دائما على جدول اجتماعاتها (37).
تنطلق المنظمة من تبرير ذلك بأن كل القرارات تؤخذ بالتوافق والاجماع، وان التوافق اكثر ديموقراطية من التصويت وخضوع الاقلية للاكثرية، كما تستند المنظمة الى ان النظام الاساسي لمنظمة بما فيها آلية التصويت قد وافقت عليها جميع الدول الاعضاء وابرمت من قبل برلماناتها .
ان تبرير المنظمة لهذا الموضوع ضعيف ولا يستند الى حجج منطقية ، فلو كان الامر افضل لماذا ترفض تطبيق القانون من الاساس، اضافة الى ذلك ابتداعها لمعايير ومفاهيم جديدة في الديموقراطية وطرق التصويت والتوافق، ففي حالات معينة ترفض التدخل بحجة عدم الاختصاص او الصلاحية كموضوع البيئة مثلا، وتشرع للآخرين اجراءات وقوانين ومفاهيم في مواضع اخرى كالديموقراطية واتخاذ القرارات .
4- الصراع بين القوى المتنفذة في المنظمة
يؤخذ على منظمة التجارة العالمية هيمنة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي واليابان. فان تعارضت مصالح هذه الأقطاب الاقتصادية تعطلت المفاوضات وفشلت المؤتمرات، وان اتفقت المصالح كانت على حساب مصالح الدول النامية. فإذا نظرنا مثلا إلى مؤتمر سياتل ومن بعده الدوحة، فيلاحظ التنافس الاوروبي الاميركي والياباني على القضايا الأساسية، اذ سعى كل منها الحصول على حلفاء لتأييد رأيه وتقوية مركزه التفاوضي.(38)) وتتبنى هذه الرؤية المجموعة الرابعة المتمثلة بالدول النامية التي حاولت للمرة الاولى في هذين المؤتمرين التحدث بصوت عال والاصرار على مطالبها المعارضة لاسلوب عمل المنظمة، وصولا الى رفض المعايير الاميركية حول العمل.
ان التدقيق في مواقف الاطراف في المنظمة والخلفيات التي يقف ورائها، تظهر التناقض الكبير في المصالح والتوجهات ، كما تظهر سياسة المحاور عندما تتقاطع المصالح او تتناقض.
فالمطالب الاميركية التي تسعى اليها بشكل مستمر تتقاطع مع كثير من العوامل الانتخابية الداخلية ، كانتخابات الرئاسة او الممثلين ، لما لدور الحزبين الرئيسيين من توجهات داخلية ودولية، فمن المعروف ان الديموقراطيين هم من اصحاب النزعة الحمائية اكثر من النزعة العولمية، بعكس الجمهوريين ، وهذا ما اتسمت به اعمال مؤتمري سياتل والدوحة على سبيل المثال ، ففي الاول كانت الحملة الانتخابية الرئاسية في اوجها ، بينما شكل وصول الجمهوريين الى الرئاسة قبيل اعمال مؤتمر الدوحة اسلوبا مختلفا في التعاطي مع الامور المطروحة، وفي كلا الحالين ، ركز الاميركيون على مواضيع معايير العمل والبيئة مع تسجيل بعض التشدد في المؤتمر الاول للاسباب السالفة الذكر، مع الاشارة الى ان الولايات المتحدة في مؤتمر سياتل لم تكن متعجلة في امرها لجهة جولة جديدة من المفاوضات طالما ان الدول الاوروبية كانت تصر بقوة على موضوع الانتاج الزراعي العائد لها ؛ ويظهر من كل ذلك مدى العرقلة الاميركية التي ادت الى افشال مؤتمر سياتل.
اما بالنسبة الى دول الاتحاد الاوروبي ، فقد بدا الامر في مؤتمر الدوحة مغايرا عن الذي سبقه،لاعتبارات عديدة ابرزها دخول الاتحاد في العملة الاوروبية الموحدة الامر الذي اعطى للاوروبيين وهجا دوليا يحلمون به بمواجة اميركا بصرف النظر عن فعاليته واستثماره، فالاوروبيين شعروا أكثر من أي وقت مضى بالبعد الإقليمي، وأيضا بتحول الاتحاد من مجرد سوق موحدة إلى اتحاد اقتصادي ونقدي، أي من مجرد فضاء تجاري إقليمي – دولي إلى قوة نقدية ومالية اقتصادية قارية ذات بعد كوني. مما أدى به إلى طموحات جديدة في ما يتعلق بتوجهات مسار العولمة والتي كانت حكرا على الحكومة والشركات الأميركية متعدية الجنسيات، وبالتالي محاولة التأثير على المنظمة .
اما بالنسبة لليابان فقد تركزت مطالبه بقضايا قوانين الاغراق الاميركية وضرورة اعادة النظر بها، فيما مجموعة الدول النامية ظلت مطالبها تتمحور بين آلية عمل المنظمة والقضايا الزراعية ؛ من هنا يلاحظ تناقض المصالح في مطالب دول المنظمة الامر الذي اثر بشكل مباشر على ادائها بحيث ظلت اسيرة سياسة المحاور والصراعات بين القوى المتنفذة فيها.

سادسا :رؤى واستنتاجات
ان النظر بموضوعية وتجرد الى الواقع الذي احاط بنشأة المنظمة والظروف التي رافقتها ، وكذلك الى شبكة المصالح الدولية المتقاطعة او المتعارضة فيما بينها ، تقودنا الى امرين اساسيين متعلقين بعمل المنظمة وما وصلت اليه، وهما، اولا :ان هناك الكثير من المخاوف التي تطلقها الدول النامية هي محقة ويقابلها هواجس ليست مبررة او لا تستند الى وقائع جادة ، بل هناك مغالاة في ابراز مساوىء واظهار ميزات. والامر الثاني هو اندفاع المنظمة بشكل غير معقول باتجاه تنفيذ ما يهدف المتنفذون فيها على حساب غالبية المنضمين اليها، وبالتالي هناك حقائق ظاهرة للعيان يجب الاجاية على اسئلتها ومحاولة الحد من مساوئها . وعليه يمكن ابراز العديد من الامور منها :
- من المغالاة تصوير تحرير التجارة العالمية بأنها الدواء السحري للمشاكل الاقتصثادية والمالية للدول النامية والمتقدمة التي تتعرض لازمات معينة، وأنها ستؤدي بشكل سريع الى تغيرات هيكلية وبنيوية في النظام الاقتصادي والمالي للدول .
- من الوهم القول ان الصادرات جيدة والواردات سيئة ، واخذ الامور على اطلاقها، فما النفع من الصادرات ان لم تحقق اهدافها كالتصريف باسعار مناسبة وجلب العملات الاجنبية ... ،وما الضير في استيراد التكنولوجيا واستخدامها في تطوير مجال معين.
- من المغالاة القول ان تحرير التجارة الخارجية تؤدى الى خلق وظائف اكثر ، بل ان الوقائع اثبتت ان تحرير التجارة يمكن ان تؤدي في النهاية الى نوعية معينة من الوظائف ذات مردود عال نسبيا .
- ان ظاهرة اتساع الفجوة بين عالم الاغنياء وعالم الفقراء باتت اكثر وضوحا في الدولة نفسها كاولايات المتحدة الاميركية وبعض دول الاتحاد الاوروبي او بين الدول نفسها كدول الشمال ودول الجنوب ، الامر الذي يوجب على المنظمة الالتفات بشكل جدي الى هذه الظاهرة ووضع الحلول لها والحد من انتشارها واتساعها ، اي بمعنى آخر ان دور المنظمة يجب ان يتخذ حيزا اكبر في الجانب الاجتماعي وايلائه الاهمية الضرورية فعلا لا قولا.
- والحقيقة الظاهرة للعيان ، ان الدول النامية وقعت على اتفاقات جولة الارغواي في ظروف غير ملائمة بالنسبة اليها، وهي لم تحصل من الوعود التي اعطيت سوى القليل القليل ، الامر الذي زادها توجسا وخوفا ونفورا من مقرراتها، وعليه ان التعامل الصادق من قبل الدول المتنفذة امر مطلوب لايجاد جو من الاسترخاء في العلاقة الامر الذي يعطي اندفاعة قوية لعمل المنظمة والدول المنضوية تحت لوائها .
- والموضوعية ايضا تقضي الاعتراف بوجود خلل في آلية عمل المنظمة لصالح الاقطاب المتنفذة فيها، مما يستدعي العمل الجاد لازالة هذا الخلل على قاعدة احترام المصالح التجارية للدول النامية ، واحترام اعدداها المتنامية في المنظمة.
- اما الامر الذي يبدو ان لا مفر منه هو "حتمية" الانضمام الى هذه المنظمة ، نظرا للاتفاقات الشاملة والواسعة والمتعددة الطرف التي تنشأها ، الامر الذي يجعل من اي دولة غير منضمة اليها معزولة عن شبكة التجارة العالمية التي فرضت نفسهاعلى جميع الدول ، الامر الذي يستتبع من جانب الدول غير المنضمة الى الاستعداد الكافي وايجاد البيئة المناسبة لها عبر التشريعات الداخلية وغيرها، كما على المنظمة ايضا والقوى المتنفذة فيها الاستعداد لسماع الآخرين والعمل على مبدأ التعددية واحترام قيم وظروف الآخر .