17‏/02‏/2008

تداعيات الاستفتاء الفرنسي على الدستور الأوروبي


تداعيات الاستفتاء الفرنسي على الدستور الأوروبي
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني

شكل 29 ايار 2005حدا فاصلا للاحلام الفرنسية وتحديدا لرئيسها جاك شيراك في غلبة اللا الفرنسية على دستور الاتحاد الاوروبي، وبذلك انهارالحلم الاوروبي الذي راود احلام الآباء المؤسسين على مدى نصف قرن ونيف ويبدو ان المعبد قد يتهاوىعلى رؤوس الجميع ويتفرق عشاق الوحدة ما لم تظهر سلسلة اعمال ترميمية سريعة لهذه التداعيات.باعتبار أن‏'‏ لا‏'‏ الفرنسية ستكون كارثة ليس فقط علي الحكومة الفرنسية‏,‏ ولكن أيضا علي باقي الحكومات الأوروبية‏.ويمكن تسجيل العديد من الملاحظات في هذا المجال ابرزها.
- هناك تحذيرات كثيرة اطلقتها حكومة بيار رافاران في فرنسا، منها أن البديل المطروح للاتحاد الأوروبي هو‏ الفوضي‏‏ والانزواء علىالذات ,‏ ودخول دولها في نزاعات داخلية يكون من شأنها الإطاحة بالصورة المشرقة التي سعى مناصرو الوحدة الأوروبية إلي ترويجها وتكريسها لتكون أوروبا الموحدة‏-‏ في هذه الحالة‏-‏ القوة الكبرى المناوئة لأمريكا‏ المسيطرة على النظام العالمي،‏ وحجة هؤلاء أن العالم في حاجة إلي أوروبا قوية لكي يحدث‏ الاتزان‏ و‏التوازن‏ في العلاقات الدولية‏,‏ إذ لا يعقل أن تظل أمريكا وحدها هي‏ السيد المطاع ‏ بينما تخنع أوروبا وباقي دول العالم لها.
- أن‏'‏ لا‏'‏ الفرنسية ستضع أوروبا في مأزق حقيقي في ضوء غياب أي خطة بديلة‏..‏ وفي هذه الحالة ستكون الفرصة قد ضاعت لأن العالم لن ينتظر أوروبا حتي تعود إلي رشدها.‏ صحيح أن إجراءات التصديق ستتواصل في بعض الدول الأخرى لكن ما يزيد الأمر تعقيدا‏ ، هو أن المواطنين الأوربيين سوف يتجهون بتردد إلي صناديق الاقتراع بسبب الإحباط الذي سيلفهم بسبب سقوط الدستور الأوروبي في فرنسا‏.
- ثمة مشاعر خذلان تسود رجال الحكم والسياسة الأوروبية ،إذ كيف تحمل فرنسا‏ بحماس قوي شعلة الوحدة الأوروبية ويتولي رئيسها السابق فاليري جيسكار ديستان مسئولية وضع نصوص الدستور‏-‏ ثم يأتي الشعب الفرنسي ليعلن احتجاجه رافضا مجمل الطروح الوحدوية‏.
- ‏ ‏أن دولا أوروبية كبرى‏(‏ في حجم بريطانيا‏)‏ تربط استفتاءها‏(‏ المقرر إجراؤه في أوائل عام‏2006)‏ بنتائج الاستفتاء الفرنسي وهو ما يعزز القول بأن باريس هي التي تقبض في يدها على الوحدة الأوروبية‏ ولذلك إذا انفرط عقدها فسوف يستتبع ذلك انفراط باقي اضلع المشروع. وصحيح أن طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني حاول أن يخفف من وطأة هذا‏ الواقع‏ ‏ فتحدث عن أن بلاده سوف تنظم استفتاءها حول الدستور بغض النظر عما تفعله الدول الأخرى‏,‏ لكنه عاد ليقلل من جدوى ذلك مؤكدا‏ أنه إذا لم يكن هناك دستور فلا يمكن التصويت علي لا شيء‏! في إشارة إلي أنه لا دستور أوروبي إذا قالت فرنسا‏'‏ لا‏'. ‏وأعطى رئيس وزراء لوكسمبورج الذي تتولي بلاده رئاسة الاتحاد الأوروبي نفس الانطباع عندما كشف أن أي حديث عن فتح باب المفاوضات والمناقشات مرة أخرى حول معاهدة ماستريخيت‏(‏ المؤسسة للاتحاد‏)‏ سيكون نوعا من السذاجة غير المقبولة‏.‏
- أن أعداء ماستريخت ينتشرون في ارجاء الساحات السياسية في أوروبا‏,‏ ويرون أن فرنسا تريد استغلال فكرة الوحدة الأوروبية‏ ‏في محاولة للتدخل ا في كل القرارات الأوروبية ولتكريس هيمنتها علي أنحاء أوروبا‏..‏ والدليل علي ذلك أن الصيغة الفرنسية هي السائدة سواء في القواعد المنظمة لعمل المؤسسات الأوروبية وكذلك في نصوص الدستور التي أمضى جيسكار ديستان قرابة‏15‏ شهرا في وضع صياغته النهائية‏.
- ومما يزيد من مساحة الخوف في فرنسا‏ والدول الأخرى المعتمدة عليها‏،‏ أن الإقبال علي الانتخابات لاختيار أعضاء البرلمان الأوروبي كان ضعيفا إلي حد اعتبره البعض شكلا من أشكال التصويت العقابي‏ للتعبير عن رفض الشعوب الأوروبية للطروح الوحدوية‏ أو علي الأقل التحفظ علي بعضها‏.كما ‏زاد الاستفتاء الأسباني حدة المشهد الشعبي للوحدة بتسجيل ‏57.8%‏ فقط كنسبة للحضور رغم تحمس أسبانيا وإصرار رئيس وزرائها ثاباتيرو علي العودة إلي بيت الطاعة الأمريكي بعد سنوات من الطلاق البائن‏..‏ في زمن سلطة خوسيه ماريا أزنار.
- ان الفتور الشعبي تجاه الاستفتاءات الأوروبية مرده أسباب كثيرة منها أن المشهد الأوروبي‏ الوحدوي‏ ليس ناصع البياض‏-‏ فمازالت آثار الثقوب السوداء التي أحدثتها قضية الفساد المالي في زمن الفرنسية‏(‏ أديت كريسون‏)‏ تطغى على المشهد‏-‏ فضلا عن حالة الجمود التي يخشى أن تعاني منها مؤسسات الاتحاد الأوروبي بعد انضمام الدول العشرة الأخيرة‏..‏ وإذا وضعنا في الاعتبار أن باب الانضمام لا يزال مفتوحا أمام عشر دول أخري في السنوات المقبلة‏,‏ فإن هذا معناه أن مؤسسات الاتحاد مقبلة علي حالة من‏ الترهل‏‏ لا مفر منها.
أن فكرة‏'‏ الأغلبية المؤهلة‏'‏ في حال التصويت قد تحل ا المشكلة جزئيا لكن تبقي العقبات الأخري التي تضعها الدول الأوروبية الصغري‏(‏ متهمة الدول الكبري بأنها تريد احتوائها وتضييع ملامحها تحت ستار الاتحاد‏..)‏ أما العقبة الكبرى التي يعترف بها الجميع فهي غياب المشروع السياسي الأوروبي الذي تدعمه إرادة سياسية قوية‏..‏ خصوصا في مواجهة الطغيان الأمريكي البارز في السياسة الدولية‏!.‏ إلي حد أن واشنطن لم تجد حرجا في أن تتحدث عن ضرورة أن تقبل أوروبا انضمام تركيا‏,‏ ما جعل الرئيس شيراك يرد في عنف مطالبا أمريكا بألا تقحم ذاتها فيما لا يعنيها‏!.‏
‏ ان غريب المفارقات تكمن في ان فرنسا كانت عماد مشروع الوحدة الاوروبية،فيما اليوم تبدو وكأنها الام التي قتلت طفلها بعد ولادة عسيرة كلفتها الكثير من المواجهات الاوروبية وغير الاوروبية،وربما يكون الموقف الشعبي الفرنسي مبررا للعديد من الاسباب الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الفرنسي،وبخاصة بعد احساسه العارم بأنه يدفع اثمان الوحدة المكلفة وحيدا.
ربما يكون مشروع الوحدة الاوروبية من ادق واعقد المشاريع الاقليمية باعتباره سيكون تحديا جديا وقويا للنظام الدولي القائم بقيادة الولايات المتحدة الامريكية،فثمة اجماع قوي بين متتبعي السياسات الدولية وقضاياها بان لا تغيير في اسس ومفاصل النظام العالمي من دون احداث تغييرات جذرية في موازين القوى الدولية وهذا الامر غير قابل للتحقق من دون وجود قوى اقليمية ذات وزن دولي فعلي ومنها الاتحاد الاوروبي ألذي عانى الامرين منذ نشوء فكرته نظرا لكثرة المتضررين الاوروبيين وغير الاوروبيين منه، فهل ستكون اللا الفرنسية الثقب الاول في دف الوحدة الذي سيفرق عشاقها؟
‏‏