13‏/02‏/2008

آثار التغلغل الصيني في أفريقيا

آثار التغلغل الصيني في أفريقيا
الدكتور خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
تبدي الصين أهمية فارقة لعلاقاتها الخارجية مع القارة الأفريقية إذ أصبحت من الجهات المانحة والمستثمرة الكبرى بمختلف أرجاء القارة، وعمدت إلى استغلال المنتديات الدولية، مثل القمة الصينية - الإفريقية في نوفمبر 2006 لتعزيز التعاون بينها وبين العديد من الدول الإفريقية.
وتمكنت بكين من رسم صورة إيجابية لها في إفريقيا بسرعة لافتة جعلتها تنافس الولايات المتحدة وفرنسا والمؤسسات الدولية المالية على النفوذ، إلا أن هذا الوجود يمكن أن يقوّض التناغم القائم بين الدول الأجنبية والوكالات الدولية المانحة التي شرعت في استخدام المساعدات لنهوض إفريقيا من حالة الجمود الاقتصادي والسياسي طويلة الأمد.
وتاريخيا اضطلعت بكين بدور في إفريقيا ، حيث أولت دعمها للثورات اليسارية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. إلا أن بكين أبدت تجاهلا تجاه إفريقيا منذ أواخر السبعينيات وحتى مطلع القرن الحدي والعشرين. وغالبا لا تظهر القارة السمراء على خريطة الدبلوماسية الصينية إلا عندما تحتاجها لفرض العزلة على تايوان.إلا أنها اتبعت خلال السنوات الخمس الماضية سياسة خارجية أكثر نشاطا تركز علىالنفوذ الاقتصادي، بدل العسكري. كما ركزت نشاطها ا العالمي أولا على الدول النامية في إفريقيا ووسط وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، على قاعدة أن هذه الدول التي تحتاج الكثير من المساعدات والتجارة، من السهولة إخضاعها للنفوذ.
ويتخذ القادة الصينيون صف الدول النامية داخل المنتديات الدولية التجارية، مع التعهد بمنع تهديد سيادة الدول الأخرى. أما الدول النامية وبخاصة الإفريقية منها فبإمكانها توفير الموارد الطبيعية التي تحتاجها بكين بشدة. ويعتقد الصينيون أن بمقدورهم زيادة وارداتها من النفط والغاز من إفريقيا التي توفر حاليا 30% من إجمالي واردات البلاد. إذ أصبحت أنغولا وهي النافذة الصينية على أفريقيا أكبر مصدر للنفط إليها، حيث تشحن 522.000 برميل يوميا، وتشارك شركات النفط الصينية بـ 20 دولة إفريقية، وعلى امتداد السنوات الخمس الماضية أنفقت هذه الشركات 15 مليار دولار على شراء حقول النفط والشركات المحلية.
لقد طوّرت الصين إستراتيجيات وأدوات أكثر تعقيدا لجذب الدول الإفريقية نحوها، فبينما صدرت منذ 40 عاما الفكر الماوي، تصدر الآن صورة خاصة بها من الرأسمالية التي تعمل على تحويلها إلى نموذج تنموي معقد. كما تعمل على نشر الدعاية لنموذجها التنموي الخاضع لتوجيه الدولة الذي قد يروق لقارة لم تثمر الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية الجديدة عن تقليص معدلات الفقر بالمستوى المطلوب.
وترتبط هذه المساعدات بصورة أساسية بالأهداف السياسية والإستراتيجية الصينية داخل القارة، وليس لاعتبارات إنسانية. وتكشف الإحصاءات الصينية عن أن بكين قدمت مساعدات بقيمة 107 ملايين دولار فقط لإفريقيا عام 1998. ووصلت هذه المساعدات بحلول عام 2004 إلى 2.7 مليار دولار، ما يعادل 26% من إجمالي المساعدات الدولية الصينية، رغم أن دولة كاليابان لم تقدم لإفريقيا سوى مساعدات قيمتها 11 مليون دولار؛ الأمر الذي يضع الصين في مصاف الدول المانحة الكبرى للقارة.
وبخلاف الجهات المانحة الأخرى، تفضل بكين تقديم قروض لإفريقيا، وليس منحا لسهولة استغلالها لاحقا. وتشير الدلائل إلى أن الدول تنمي علاقاتها السياسية والاقتصادية مع بكين، ثم تسقط الأخيرة القروض التي حصلت عليها هذه الدول طبقا لجدول زمني مرتب، كما تربط الصين القروض التي تقدمها بمتطلبات تفرض تخصيص نسبة كبيرة من العقود لشركاتها. على سبيل المثال، في إطار قرض صيني لأنغولا عام 2004 بقيمة ملياري دولار، تم تخصيص 70% من العقود للشركات الصينية؛ إذ إن الصين توزع هذه القروض بصورة ثنائية ومباشرة مع الحكومات المتلقية من خلال بنك الصين للتصدير والاستيراد أو السفارات الصينية أو جهات أخرى. والملاحظ أن الصين لم تقدم من قبل مساعدات لمنظمات غير حكومية، ويبدو أن المسئولين الصينيين يشعرون بالقلق من تصميم مشروعات لمساعدات تدعم هذه المنظمات.أما وجهة المساعدات فقد برزت على الوجه التالي:
وجهة المساعدات وخلفياتها
1 - تعرض بكين قيامها بتمويل مشروعات البنية التحتية التي توقف البنك الدولي ومعظم الجهات المانحة الثنائية عن تمويلها منذ عقود مضت. وتشير الدراسات إلى أن الشركات الصينية تنفذ مشروعات البينية التحتية بتكلفة تعادل 25% من تكلفة الشركات الغربية؛ وهو ما دفع البنك الدولي ومؤسسات أخرى لتمويل مشروعات بناء الطرق من جديد، رغم مخاوف مسئولي البنك من تعرض هذه الأموال للاختلاس.
2 - تفضل الصين بناء علاقات مع المصارف الإقليمية، مثل بنك التنمية الإفريقي؛ نظرا لأن بمقدورها الاضطلاع بدور أكبر داخل المصارف الإقليمية عنه داخل البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية الكبرى الأخرى.
3 - ركزت بكين على تدريب مهنيين أفارقة، خاصة في مجال الإدارة الاقتصادية، إذ أنشأت صندوق تنمية الموارد البشرية الإفريقية الذي يساعد في تدريب 3.800 مهني إفريقي سنويا.
4 - حاولت بكين تأسيس كليات لتعليم اللغة الصينية بالجامعات الإفريقية، وأبرمت اتفاقات تعاون مع 27 جامعة إفريقية.
كما استغلت بكين شكوى الدول الإفريقية من الحواجز التجارية الغربية للإعلان عن أنها لا تفرض تعريفات على صادرات 25 دولة من أكثر الدول الإفريقية فقرا. كما تفاوضت مع الدولة الأكثر أهمية كجنوب إفريقيا، للحد من الصادرات الصينية إليها من المنسوجات لحماية الصناعات المحلية. وجاءت هذه الخطوة الصينية لتجنب الشكاوى من أن منسوجاتها وسلعها الإلكترونية الرخيصة تضر بالصناعات الإفريقية.
نجاحات وإخفاقات
بلغ حجم التجارة الصينية/الإفريقية 40 مليار دولار في عام 2005، بارتفاع 35% عن عام 2004، وارتفع حجم الصادرات الإفريقية إلى آسيا بنسبة 20% خلال السنوات الخمس الماضية، وتخطط بكين للوصول بحجم تجارتها مع إفريقيا إلى ثلاثة أضعاف بحلول عام 2010؛ وهو ما يضعها في مصاف الولايات المتحدة وأوروبا كشريك تجاري للقارة، وأصبحت بكين ثاني أكبر مستهلك للموارد الإفريقية كما وقعت على اتفاقات جديدة ضخمة بمجالي النفط والغاز مع نيجيريا وأنغولا وغيرهما.
كما تختلف طبيعة المشاركة الصينية داخل القارة عن مشاركة القوى والمؤسسات المالية. ورغم أن القوى الغربية تتحمل بعض اللوم في علاقاتها مع الدول الإفريقية جراء دعمها للحكام المستبدين، فإن الجهات المانحة اتفقت اليوم على أن الحكم الصالح يشكل أهمية حيوية للتنمية، وأقامت الولايات المتحدة "شركة تحدي الألفية" لتقديم مكافآت للدول الفقيرة التي يجري حكمها على نحو ملائم.
وفي المقابل تجذب إفريقيا أنظار الشركات العالمية والحكومات الغربية نتيجة تحقيق الكثير من الدول الإفريقية أكبر معدلات نمو لها منذ نيلها الاستقلال، وتبدو القارة مهيأة لتسوية الحروب الأهلية التي تعصف بها منذ أمد بعيد. لكن بمقدور المشاركة الصينية تهديد هذه النهضة الإفريقية، حيث بإمكان القروض الصينية المتزايدة لإفريقيا، خاصة المرتبطة بمعدلات تجارية مرتفعة، تهديد المليارات التي أسقطتها مبادرة الدول المثقلة بالديون التابعة لصندوق النقد والبنك الدوليين. وفي حال تمكن بكين من استغلال المساعدات المرتبطة بالاستثمارات في الفوز باتفاقات كبرى بمجالي النفط والغاز، فإن ذلك قد يقنع الدول الأخرى الناشئة مثل الهند بإتباع النهج ذاته؛ الأمر الذي ربما يقوِّض دعائم الحكم داخل القارة السمراء ويشعل الحروب الأهلية من جديد حول الموارد. وهذا ما تؤكده صفقات الأسلحة الصينية لبعض دول القارة.
ويبدو أن بكين تخشى اليوم أن تنفق استثمارات لا طائل من ورائها داخل القارة لاجتذاب الدول الإفريقية الإستراتيجية، كما ستواجه اختيارا في علاقاتها المستقبلية مع إفريقيا سيساعد في تحديد كيف ينظر العالم إلى سياستها الأكثر نشاطا. وفي إطار هذا الاختيار، قد تعزز الصين علاقاتها بأنظمة دول مثل أنغولا والسودان؛ الأمر الذي ربما يثير سخط قطاعات عريضة من الرأي العام ويسفر عن زعزعة الاستقرار بدرجة تهدد المصالح الصينية.
إن الأمر الذي قد يثير دهشة الكثيرين من صانعي السياسات الغربية أن بكين لديها الآن قوات حفظ سلام ضمن إطار الأمم المتحدة أكثر من أي عضو آخر دائم بمجلس الأمن. كما شرعت في التعاون مع الدول الإفريقية في التصدي لمرض الملاريا، وكذلك تحديث برامج المساعدات الخاصة، وبدأت تشارك مع مجموعات التنسيق داخل الجهات المانحة في وضع آليات لمراجعة كيفية استخدام الدول المتلقية لمساعداتها.
وإذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا والمؤسسات المالية الدولية ترغب في أن تغيّر الصين سلوكها، فعليها عرض بديل عليها كالحوافز للنظر إلى مصالحها في الدول النامية بشكل أفضل، وإذا ما فشلت الصين في استغلال هذه الفرصة، فبإمكان الدول الغربية انتقاد حق تواجدها بإفريقيا.
وبهدف دمج الصين في أطر العمل القائمة للمساعدات التنموية الخارجية، على الدول الأخرى العمل بنشاط على تشجيع المسئولين الصينيين على المشاركة في برامج التنسيق بين الجهات المانحة داخل الدول الإفريقية الفردية، علاوة على منح الصين صوتا أكبر بالمؤسسات المالية الدولية.
لكن يبدو أن واشنطن والقوى الأخرى تتحرك في الاتجاه المضاد. فبدلا من ضم الصين لمجموعة الثمانية، استجابت المجموعة لشكاوى اليابان وروسيا وأبقت على بكين خارجها. وبدلا من إعطائها صوتا أكبر على طاولة تنسيق المساعدات، لا يعلم الكثيرون داخل المنظمات الكبرى المانحة مجرد أسماء المسئولين الصينيين عن توزيع المساعدات،الأمر الذي سيعزز هذا السلوك الصيني ليس في القارة السمراء وحدها بل أينما استطاعت النفاذ.