13‏/02‏/2008

النظام العالمي عبر التاريخ :من قوة المنطق الى منطق القوة

النظام العالمي عبر التاريخ :
من قوة المنطق الى منطق القوة
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية
في كلية الحقوق الجامعة اللبنانية
بيروت: 18-9-2001
القسم الأول
أفكار وأسس النظام العالمي عبر التاريخ
بصرف النظر عن التوصيف اللغوي ومقاربته لبعض المفردات ومنها النظام العالمي ، فان تاريخ البشرية الموغل في القدم وبخاصة الفترات التي تكونت معها بعض مظاهر الحياة الاجتماعية ومتطلباتها شهدت بشكل او بآخر محاولات لتنظيم انماط العيش وكيفية التعامل مع المحيط ، ان كان على مستوى العلاقة مع الآخرين او مع الطبيعة او غيرها من القضايا ذات الصلة بحياة الانسان اليومية الحيوية ؛ وكما اسلفنا بصرف النظر عن دقة المقاربة او عدمها ، فان محاولة تنظيم الاوضاع الاجتماعية _ المعيشية الخاصة كانت البداية للتفكير بنسق او نظام علاقات يحكم المجموعة ومن حولها وكذلك في المحيط الاوسع الذي تتواجد فيه .
وان كانت هذه الفكرة هي قائمة واقعيا لما لها من ارتباط في ذهنية وتفكير الانسان لجهة حب البقاء وتأمين مستلزماته ، فان تطور الحياة الاجتماعية وما آلت اليه من مراحل عبر العصور ، قد حدت بالعديد من المفكرين الى تصويب افكارهم في الوجهة التي تخدم الجماعة البشرية عبر تنظيمها في اطر اجتماعية كانت ام سياسية وفقا للايديولوجية والمعتقدات التي يرتكزاليها كل منهم .
وعليه فان نظرة سريعة الى الفكر السياسي في القرون الماضية تظهر الملامح العامة التي نظر اليها بعض المفكرين لرؤيتهم للنظام العالمي الامثل والسبل الآيلة الى سعادة البشر ورفاه حياتهم وعلاقاتهم ، وان كان تضارب الافكار والمعتقدات شيئا ظاهرا وبارزا بين هذه الافكار الا ان كل منها سعت جاهدة الى اظهار نفسها البديل الملائم والصحيح للحياة الكريمة والرقي والازدهار االذي يحلم فيه جميع بنو البشر .
اولا :النظام العالمي من الرواقية الى الاسلام :
بداية يمكن تلمس فكرة المجتمع البشري ذات الصفة او المظاهر العالمية في الفكر الرواقي في القرن الثالث قبل الميلاد عبر زعيم هذه المدرسة المفكر زينون zenon ؛ الذي دعا الى مدينة عالمية يكون فيها جميع البشر متساوون ، ومواطنون اخوة تجمعهم حياة واحدة ونظام واحد للاشياء على قاعدة القانون الطبيعي الذي يتسق ويتآلف مع القواعد والمبادىء الاساسية للعدل والعقل ؛ وتعتبر الرواقية ان القانون الطبيعي هو فوق القوانين الوضعية وانه يسمو عليها ،وفي الواقع تعتبر الدعوة الرواقية من هذه الوجهة ردة فعل على تفرق المدن اليونانية وتبعثرها وعدم اتساق علاقاتها في ظل تعدد وتنوع الانظمة والقوانين التي كانت تحكمها .
وكما كان الامر مع الرواقية لجهة تطويع القانون الطبيعي لخدمة افكارها ومعتقداتها ، اتت مرحلة الامبراطورية الرومانية لتبرر احتلالها وفرض شرعيتها على الشعوب عبر القانون الطبيعي كذلك ،وفي الواقع استلهمت قانون الشعوب Jus Gentium لهذا الغرض باعتباره قانونا عالميا من وجهة نظرها ؛ وواقعا لقد تلاشت الدول في شخصية الامبراطورية الرومانية في تلك الفترة ، وقد ساعد هذا التلاشي ظهور المسيحية واتخاذها كديانة رسمية في القرن الرابع ، وقد سعت الكنيسة الرومانية انذاك الى التبشير بالرسالة المسيحية للعالم على مبادىء السلام بين الشعوب واقامة العلاقات التي تخدم هذه التوجهات على قاعدة الخضوع لله ؛ الا ان فكرة المدينة العالمية اقتصرت انذاك على العالم المسيحي ليس الا ، ولم يطل الزمن حتى انتشرت الحروب في القرون الوسطى وتبين ان حكم الشعوب بالقانون الذي فرضته الامبراطورية الرومانية بالقوة غير قادر على استيعاب مصالح الشعوب وتطلعاتها ، الامر الذي ادى الى تفكك الامبراطورية الى اقطاعيات تحكمها الامراء واصحاب السلالات العريقة في اوروبا .
ان فكرة حكم العالم في قانون واحد كان مغايرا تماما للواقع وغير قابل للتطبيق وهذا ما اكدته احداث تلك الفترة والظروف التي مرت بها ، وكانت ضربة قاسية لفكرة الحكومة العالمية ، حيث انتقلت الامور من حكم الامبراطورية الموحدة الى الامارات الاقطاعية ؛ أي بكلام آخر من من مرحلة التوحد في الحكم الى مرحلة التفتت والتشتت و المزيد من الحروب التي طالت فيما بعد العديد من الاقطاعيات والشعوب التي سيقت حكما تحت سلطاتها .
ان انهيار فكرة الحكومة العالمية تحت وطأة العديد من الظروف ، عادت للظهور مجددا وبقوة اثر ظهور الديانة الاسلامية بمعتقداتها التي تفسر مختلف مظاهر الحياة الدينية والدنيوية، وبكلام آخر ان الاسلام الذي اعتبر دين ودنيا قد اعاد فكرة الحكومة العالمية الى الظهور على قاعدة ان لا فرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى وبالتالي فان حكم الشعوب لا يخضع لاي مقاييس سوى الايمان بالدين الحنيف الذي ابرز المساوة والعدالة الاجتماعية وغيرها من هموم الحياة الاجتماعية للجماعة والفرد ، وقدم عبر مفكريه ومجتهديه وعلمائه شتى اصناف العلوم والبدائل التي تتيح للاسلام بأن يكون نموذجا لحكم ما ، وقاعدة لعلاقات اجتماعية داخلية كما كعلاقات دولية ذات اطار وقوانين خاصة .
وكما ان لكل امة ودولة وعصر ظروفه الخاصة ، فان للدولة الاسلامية التي ترامت في شتى بقاع العالم وتمكنت في فترة وجيزة من تقديم بدائل هامة في مختلف المجالات ، فان ظروفا داخلية وخارجية ادت فيما بعد الى الانتقال بفكرة الحكومة العالمية او النظام العالمي وفقا للمنظور الاسلامي ، الى واقع معاش آخر وهو العلاقات الدولية في مفهوم الدولة الاسلامية - العربية القائم على انقسام العالم الى معسكرين دار الاسلام ودار الكفر .
اذن ، يلاحظ ان الفترة التي سبقت القرن السابع عشر كانت فكرة النظام الدولي من الافكار والاحلام الوردية ، ذات الطابع المثالي اليوتوبي غير القابل للتطبيق بفعل العديد من الاسباب والعوامل الذاتية والموضوعية والفكرية وغيرها.
فالفلسفة الرواقية ومن اتبع هديها فيما بعد على وقع مبادىء القانون الطبيعي لم يتمكن من انجاح فكرته باعتبارها من عالم المثل بامتياز ومن الصعب ان تمت الى الواقع بصلة ، فيما الطروحات والافكار الاخرى اتت نتاج الغزوات والحروب والاحتلال والاخضاع لتبرير جميع هذه القضايا غير الشرعية ، وتلاشت مع تلاشي قواها وعوامل قوتها وبطشها ، فيما العقائد والاجتهادات والتفسيرات الاخرى جاءت نتاج معتقدات دينية لم تصمد انذاك بفعل عدم تمكنها من ابقاء سيطرتها على الشعوب التي فتحتها كما حدث في عهود الدولة الاسلامية - العربية اولا ومن ثم حقبة الحكم العثماني لاحقا.
وأيا يكن الامر من هذا الفشل ، فان جملة ملاحظات يمكن ان تطرح ابرزها :
- ان أي فكرة لوحدة عالمية قائمة على قاعدة العقيدة الدينية لم تثبت صمودها حتى الآن ، لاسباب كثيرة من بينها ، انه من الصعب احتواء جميع هذه الشعوب والامم بمختلف عقائدها وتصوراتها الى مشاريع ذات خلفية تتعارض مع معتقداتها ومفاهيمها وحتى تتناقض الى مستوى استحالة اللقاء على بعض المسائل الاساسية بالنسبة لكل منها، وفي التاريخ القديم كما الحديث مختلف الادلة والبيّنات ذات الصلة بالموضوع.
- ان محاولة تصوير هذه الافكار من قبل اصحابها على انها عالمية ، لهو في الواقع غير ذلك ، فان مجمل الافكار والمشاريع التي ظهرت كانت بمجملها بعيدة كل البعد عن العالمية وكانت نتاجا للجغرافيا والتاريخ الذين انطلقتا منه .
- لقد كانت فكرة النظام العالمي في مختلف تجلياته المبكرة وغير المكتمل واقعا نتاج مبدأ القوة وليس أي شيىء آخر ، فلا الشرعية مهما اختلفت تسمياتها وخلفياتها قادرة على تغطية وتبرير أي امر قائم، ولا العقيدة مهما اختلفت انتماءاتها ومفاهيمها كانت قادرة على استيعاب ما يوجه باسمها تبريرا او دفاعا عن عمل او وجهة نظر او أي امر آخر .

ثانيا : مرحلة النظم المؤسساتية القائمة على اسس القانون الوضعي
ان مرحلة حكم الاقطاعيات والامارات التي سادت اوروبا في القرون الوسطى وما احاط بها من ظروف ، اسست لحروب فيما بينها ناهيك عن الثورات الداخلية في بعض الدول والتي اثرت بشكل كبير على مسار العديد من الامور لا سيما في مجال العلاقات الدولية آنذاك ، ولو ان الامر كان منظورا من الوجهة الاوروبية تحديدا .
ان المفصل الاساس في تلك الحقبة يبدو جليا فيما اقرته معاهدة وستفاليا سنة 1648 التي جاءت بعد سلسة من المنازعات والحروب الطاحنة، فهي وان وضعت حدا ولو مرحليا لبعض القضايا الاوروبية فقد اسست لنوع جديد من العلاقات القائمة على قاعدة التعاون المشترك بدلا من سياسة القوة والاخضاع والسيطرة ، وعلى الرغم من ان جميع المشاركين فيها هم اوروبيون وان جوهرها ومضمون احكامها كانت للقضايا الاوروبية ، الا ان ما آلت اليه الامور بطبيعة الحال امتداد مفاعيلها الى خارج النطاق الجغرافي لاوروبا لما لهذه الدول الاخيرة من امتدادات استعمارية خارج القارة ، وبهذا المعنى ، وان كان الامر يبدو اقليميا وتحديدا اوروبيا فان اهدافه ومفاعيله طاولت مناطق جغرافية مما اسس كما اسلفنا لبداية نوع من النظام الدولي .
ان ما يميز معاهدة وستفاليا في تلك الحقبة الفضل في تاريخ النزاعات الاوروبية للعديد من الامور ابرزها :
- انها المعاهدة الاقليمية الاولى ذات الطابع والامتداد الدولي للاسباب السالفة الذكر.
- لقد اعطت اضافات جديدة هامة على مفهموم المعاهدات ومضمونها، ان لجهة النظرة لحل القضايا الخلافية عبر احلال مفهوم التوازن كما اسلفنا ، أي بمعنى اعطاء الحق لأية دولة التدخل ضد أي دولة تجرؤ على الخروج عن التوازنات المطروحة.
- كما اعطت بعدا آخر في مجال القانون الدولي ، اذ وضعت القواعد لتدوين القوانين والمعاهدات الدولية الملزمة للاطراف الموقعين عليها.

ان تاريخ الشعوب والدول متغير بتغير الظروف التي تحكمهما، وبطبيعة لامر فان ما رست عليه معاهدة وستفاليا لم تبق على ما كانت عليه ، فلم يمض وقت طويل حتى عصفت باوروبا مجددا العديد من المتغيرات ، متأثرة بالفكر العارم الذي اشاعته الثورة الفرنسية سنة 1789 التي قلبت الكثير من المفاهيم وغيرت الكثيرمن القيم في اوساط الشعوب والمجتمعات الاوروبية الرازحة تحت حكم الاقطاع والامراء ، وبمعنى ساد تياران اساسيان ، الاول قاده الفكر التحرري متأثرا بما نادت به الثورة في فرنسا ، والثاني قادته الاقطاعيات المحافظة والمنادية بابقاء التوازنات المعهودة على ما هي وفي احسن الاحوال السعي الى توازنات جديدة لمصلحتها .
وكما الامر بعد كل جولة من الحروب التي تؤدي الى تحالفات وموازين جديدة ، كانت هزيمة نابليون مناسبة هامة لاعادة صياغة الواقع الاوروبي من جديد على قواعد واسس تراعي المتغيرات الحاصلة على الارض .
ولذلك تداعت الدول المنتصرة الى عقد مؤتمر فيينا الذي اسس لمرحلة جديدة ايضا من النظام الدولي ، اما ابرز ما اتت به معاهدة فيينا لسنة 1815 التالي :
- اعادة التوازن في اوربا عبر اعادة العروش الى "اصحابها" وتقسيم الاراضي الاوروبية مجددا .
- اعادة الملكية الى بروسيا والنمسا، وتوحيد السويد والنروج في اتحاد فعلي .
- ضم بلجيكا الى هولندا في مملكة قوية بمواجهة فرنسا .
- ازالة بولندا عن الخارطة الجغرافية – السياسية لاوروبا وتوزيعها بين روسيا وبروسيا والنمسا .
- وضع سويسرا في حياد دائم .
ان الاجراءات المقررة في معاهدة فيينا وان كانت ذات طابع جغرافي اوروبي ايضا كما حدث مع معاهدة وستفاليا ، الا انها تشترك ايضا معها في المدى الذي يمكن ان تصله مقرراتها ، بحيث تطاول قضايا ومواضيع خارج القارة والتي لها صفة العالمية بشكل او بآخر .
ان معالم النظام العالمي الذي ساد في تلك الحقبة تطور عمليا واتخذ اشكالا اكثر وضوحا عبر سلسلة المعاهدات التي ابرمت لاحقا بين الدول ، فعلى سبيل المثال لا الحصر معاهدة باريس لعام 1856 التي شملت احكامها الدولة العثمانية ايضا ، اذ لم يعد الامر مقتصرا على الدول الاوروبية فقط بل تعداها ليشمل دولا خارجها ، وبمعنى لم يعد الامر مقتصرا على الدول ذات الطابع والديانة المسيحية بل شملت ايضا غير الدول المسيحية الديانة .
كما عقدت سلسلة من المعاهدات بين الاعوام 1864و 1867 في جنيف تناولت قضايا جرحى الحرب والمدنيين تحت الاحتلال وغيرها ... وكذلك اتفاقات لاهاي لسنتي 1899و1907 المتعلقة بقواعد الحرب والسلم والحياد ، وسبل حل النزاعات الدولية بالطرق السلمية .
ان القراءة الدقيقة والهادفة الى التاريخ تثبت ان أي نظام عالمي هو نتاج المنتصر في الحرب ، كما تثبت ان ايا من الانظمة العالمية التي مرت عبر التاريخ لم تدم ، بل كانت عرضة لتغيير مستمر ؛ وبطبيعة الامر فان ما يسود اليوم هو متغير غدا .
ان سلسلة المعاهدات السالفة الذكر لم تتح للنظام الذي انشأته ان يدوم طويلا ، فسرعان ما انقلب موقعو المعاهدات على تواقيعهم ، وجرت اوسع عمليات التدخل في الشؤون الداخلية للدول وسادت المصالح الخاصة مكان التعاون ، والاطماع الاقليمية وحروبها مكان حل النزاعات بالطرق السلمية، باختصار لم تنتج الدول الاوروبية نظاما عالميا الا وبدأت هي نفسها في الاتجاه الذي سيلغيه مجددا ، وهذا ما كان ، حيث كانت ظروف ومقومات الحرب العالمية الاولى تتحضر بوتيرة متسارعة ، وهكذا لم يأت منتصف العقد الثاني من القرن العشرين الا وكانت الحرب قد اشتعلت لتغير مفاهيم وقيم وانظمة بنتائجها .
ثالثا : النظام الدولي المتعدد الاقطاب باشراف عصبة الامم
ان حروب اوروبا المستمرة لم تكن في الحرب الاولى من القرن العشرين كسابقاتها ، بل اتخذت صفة العالمية بامتياز، اذ جمعت في اتونها الكثير من الدول والشعوب خارج القارة الاوروبية ، كما وان نتائجها امتدت الى خارجها، ليصبح النظام الذي رست عليه اتفاقات الصلح عالميا .
واذا كان الامر يظهر بهذه البساطة كون النظام الذي فرض هو نتاج المنتصرين والمحتوى القانوني لمصالحها ، فان لهذا النظام العديد من المظاهر التي تستحق الوقوف عندها وابرزها :
- اضافة الى ارتكاز هذا النظام على مبدأ قوة المنتصر ومصالحه فان المعاهدات الخمسة التي اعتبرت ركيزة النظام العالمي انذاك ، اعطيت صفة الدولية والالزام ، بحيث اصبح من مصادر القانون الدولي تلك المعاهدات وما جاء فيها .
- ان التغييرات الحاصلة نتيجة لمعاهدات الصلح وخصوصا تلك المتصلة بالجغرافيا السياسية لاوروبا تعكس هواجس الدول المنتصرة وتطلعاتها في اوروبا نفسها وفي خارجها ايضا، فاضافة الى اعادة استقلال تشكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وفصلهما عن الامبراطورية النمساوية ، واعادة بولونيا الى الخارطة السياسية الاوروبية ، فان مبدأ تشكيل الدول على اساس قومي طاول ايضا القوميات التي خضعت للحكم العثماني باستثناء البلاد العربية ، التي جزئت بدل من توحيدها قياسا على ما جرى في غير منطقة .
- ان ابرز ما انجزته الدول المنتصرة في سياق تظهير النظام الدولي على اسس شرعية وفقا لمصالحها، هو تأسيس عصبة الامم وانضمام العديد من الدول الفاعلة اليها ( رغم بقاء الولايات المتحدة خارجها) واعطائها صفة الاشراف على النظام العالمي ، اضافة الى انشائها ضوابط تحكم العلاقات الدولية .
- ورغم الآمال الكبيرة التي علقت عليها ، فان عصبة الامم التي اوكل اليها مهمة الاشراف على النظام العالمي كانت تحمل في طياتها اسباب فشلها وانهيارها لاحقا؛ فعلى الرغم من المهمة العسيرة التي انيطت بها لم تعط الصلاحيات الكافية لها ، فاجراءاتها توصيات ليس الا ، وليس بمقدورها فرض أي قرار تمليه مصلحة النظام العالمي حتى ولو كان من منظور الدول المنتصرة، اضافة الى ذلك ان بقاء الولايات المتحدة خارجها ، وانسحاب المانيا منها بعد دخولها اليها ، قد ولد الانطباع بأن النظام العالمي الذي ساد انذاك ، كان في الواقع متكىء على قدم عرجاء وليس بمستطاعه المضي كثيرا.
- ان احد المرتكزات التي قام عليها النظام العالمي انذاك هو توازن القوى في عالم متعدد الاقطاب ، ومن الطبيعي عند اختلال التوازن سيختل النظام القائم وهذا ما حدث عمليا بعد فترة وجيزة من الزمن ، الامر الذي اسس للحرب العالمية الثانية .

رابعا : الثنائية القطبية في ظل الامم المتحدة
اذن للاسباب السالفة الذكر، ولاسباب متنوعة ومتعددة اخرى انهار التوازن في القوى الدولية ، ونشأت معتقدات وافكار جديدة كانت نتيجة الضغط الهائل الذي مورس على الاطراف المهزومة ومنها المانيا ، الامر الذي ادى الى اندلاع الحرب العالمية الثانية ، والتي اتت بنتائج قلبت العديد من الامور رأسا على عقب ، وأدخلت مفاهيم جديدة ومصطلحات كثيرة في سياق تنظيم النظام الدولي بعد الحرب .
ففيما كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة كانت دول الحلفاء تخطط لما بعد الحرب ، وتطرح تصوراتها للنظام الدولي الذي ستبنيه على خلفية انتصاراتها الموعودة ضد دول المحور ( المانيا، ايطاليا، اليابان) ، ولهذا عقدت اولى اجتماعاتها في كانون الثاني 1941 وتكررت اللقاءات فيما بعد حيث تمت اجتماعات في الدارالبيضاء وكيبك وباريس ولندن وفي دومبارتن اوكس ، وكانت نتائجها الاساسية الاتفاق على تأسيس هيئة دولية تحل مكان العصبة وتسند اليها مهام الاشراف على النظام الدولي المزمع انشاؤه ، ان لم نقل فرضه .
ان الصلاحيات التي اعطيت لهيئة الامم المتحدة تعكس بوجه اوبآخر النظرة التي سينطوي عليها النظام العالمي الجديد بصرف النظر عن نجاحها اوفشلها ، فقد حاول الحلفاء بادىء الامر الاستفادة من ثغرات عصبة الامم واسباب فشلها وبالتالي ما تسببت به من أثر في النظام العالمي انذاك، محاولين او معتبرين ان تقوية المنظمة الدولية يعني بالضرورة ، ان دورها في النظام العالمي سيكون رياديا ، وبصرف النظر عن ذلك فقد اثبتت الايام فيما بعد عدم صحة هذه الرؤية وفشلها فشلا ذريعا ، خصوصا في المهام التي القيت على عاتقها .
ان احد المهمات الرئيسة المسندة الى الهيئة هي حفظ الامن والسلم الدوليين، وحل النزاعات بالطرق السلمية ، وانماء العلاقات الودية بين الدول ، ومعاملة جميع دول العالم بمساواة وعدالة ، وبالتالي ان السياق العام الذي حاول الحلفاء ابرازه هو العديد من الامور وابرزها :
- ان النظام العالمي بعد الحرب العالمية هو برعاية وعناية هيئة الامم المتحدة ، وتحديدا مجلس الامن الذي انيط به حماية السلم والامن الدوليين ، بل التدخل حتى بالطرق العسكرية لفرضه اذا دعت الضرورة ذلك.
- وعلى الرغم من ذلك ، أي اظهار الصلاحيات الواسعة لمجلس الامن ، الا ان الامر لا يعدو كونه صوريا من الناحية العملية باعتبار ان المسيطر على القرار الفعلي لمجلس الامن هو الدول الخمس الكبرى ، أي ان النظام العالمي في هذه الفترة هو عمليا نتاج هذه القوى وعلى شاكلة وقدرة هذه الدول نفسها .
- ان افساح المجال لكل الدول المستقلة الدخول في عداد الامم المتحدة هو في الواقع ، محاولة اسباغ العالمية على المنظمة الدولية وبالتالي ربط هذه الدول بمواثيق ومعاهدات من الصعب الافلات منها بسهولة ، وهذا ما حدث فعلا عبر شبكة المنظمات والوكالات المتخصصة التابعة للمنظمة الدولية ، بحيث باتت جميع الدول المنضمة تحت لواء المنظمة الدولية اسيرة سياسات النظام العالمي المفروض على الدول الاخرى ، والتي لا حول ولا قوة لها الا الدخول والمضي به ، بصرف النظر عن بعض الاستثناءات القليلة والمعزولة عمليا .
- ان التوسع القاعدي لعداد الدول في تركيبة النظام العالمي وتحلقها حول الاحلاف وخصوصا بين المحورين الاساسيين ، ادى الى انقسام واضح على المستوى العقائدي والسياسي والاقتصادي بين الدول ، الامر الذي انعكس سلبا على النظام العالمي في ظل الامم المتحدة ، وجعل هذا النظام اداة بيد الدول المؤثرة فيه من الناحيتين العسكرية والاقتصادية .
- ان حصر التنافس عمليا بين واشنطن وموسكو انذاك على قيادة النظام العالمي، ادى عمليا الى تهميش كل القوى الواعدة للمنافسة معهما, وبالتالي ظلت جميع الاطراف الاخرى دول تابعة بصرف النظر عن قوتها وقدرتها التي تبدو بانها لا يستهان بها ( كنموذج اليابان والمانيا وايطاليا ومجموعة الدول الاوروبية كفرنسا وبريطانيا شركاء الحلفاء في الحرب).
- ان تبدل ثوب النظام العالمي في حكم الشعوب والامم لم يغير في الامر شييء يذكر ، فبعد الحرب العالمية الاولى استفادت بعض القوميات الاوروبية في انشاء كياناتها السياسية ، بينما لم يكن تحرر بعض دول العالم الثالث بعد الحرب الثانية وفي ظل النظام العالمي المستجد امرا جديدا ، فعمليا انتهى حكم الاستعمار المباشر ليحل مكانه الاستعمار الاقتصادي غير المباشر ، وبذلك لم يكن النظام العالمي في ظل الامم المتحدة النظام المنشود خصوصا للدول النامية .
- ونتيجة لما سبق ، فبدلا من رعاية هذه الدول وفقا لمنظور واهداف الامم المتحدة ذات الصلة بالتنمية للشعوب والدول ، فقد زاد التنافس بين الاطراف الفاعلة في النظام العالمي على استغلال ثروات الشعوب والدول وبطرق غير مشروعة تحت مبررات وحجج متعددة ومتنوعة ، والقاسم المشترك بينها عدم شرعيتها في ظل نظام هيئة دولية استندت في شرعيتها على مواثيق ومعاهدات لو طبقت بالشكل المقبول لكانت الامم والشعوب بنعيم ليس بعده نعيم .
- ان التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهده النصف الثاني من القرن العشرين قد اثر بشكل مباشر على سلوك العلاقات الدولية بين الدول ، سيما وان هذه التكنولوجيا قد استخدمت بشكل مباشر ومغالا فيه في القضايا العسكرية والاستراتيجية منها ، وواقعيا كان احد اسباب انهيار هذا النظام على قاعدة التنافس الحاد بين قطبي النظام وعدم تمكن احده من مجاراة الآخر ، مما ادى الى استسلامه عمليا وتفككه .

ان الاسباب والآثار السالفة الذكر قد افرزت العديد من القضايا ذات الصلة باوضاع النظام العالمي والتي تعتبر في نفس الوقت احد سماته التي رافقته حتى انهياره والتي لم يوجد لها الحلول المناسبة ، اما ابرز ها فهي :
- السباق المحموم على التسلح والذي يعتبر بوجه من الاوجه عدم ايمان الدول بهذا النظام وعدم الائتمان له، الامر الذي ادى الى استنزاف المداخيل الضخمة للعديد من الدول والذي اثر بدوره على التنمية الاقتصادية- الاجتماعية لمعظم الدول ان كانت في المحور الاشتراكي او الرأسمالي ، وكذلك في دول العالم الثالث .
- ان ازدياد وتيرة التسلح في العالم وخصوصا النوعي منها ، ادى الى تفكير العديد من الدول بامتلاك الاسلحة غير التقليدية ، لا سيما الدول النامية ، مما تسبب بانواع جديدة من اختلالات التوازنات الاقليمية وبالتالي ظهور الحروب مجددا التي غالبا ما تركت آثارا على مستوى النظام العالمي.
- ظهور حروب الواسطة بين الدول الكبرى على اراضي دول العالم الثالث ، حيث امتدت جغرافيا وتاريخيا في مختلف المناطق الحساسة في العالم والنماذج عليها كثيرة .
- انتقال الحرب الباردة بين المعسكرين الى اروقة الامم المتحدة وكان سببا اضافيا ورئيسا في افشال عملها لا سيما تدخلها في الازمات ذات الشأن الذي يهدد الامن والسلم الدوليين وهو موضوع اختصاصها واساس اطلاقها .

خامسا : مراحل الحرب الباردة وانتهائها
ان السمة الخاصة التي طبعت النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية هي الثنائية القطبية التي ولّدت الحرب الباردة بين القطبين الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي، وقد تميزت هذه المرحلة آنذاك بثلاث مراحل من العلاقات المتوترة الى التفاهم وانتهاءا بالتعاون الذي سبق مرحلة انهيار الحرب الباردة وزوال نظام الثنائية الى النظام الآحادي المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية .
- المرحلة الاولى
التي غطت فترة الخمسينات من القرن الماضي حيث بلغ الصراع ذروته بعد التحالف الذي جمع اقطابه ابان الحرب الثانية، فأنشأت موسكو حلف وارسو عام 1945 وتبعتها واشنطن بالحلف الاطلسي عام 1949 وشهد هذا العقد حربين اقليميين ذات دلالات دولية ، وهما الحرب الكورية التي قادتها الولايات المتحدة تحت ستار الامم المتحدة مستغلة غياب المندوب الروسي لاستصدار قرار انشاء القوة العسكرية ، والثاني حرب السويس التي قادتها فرنسا وبريطانيا واسرائيل ضد مصر وبتشجيع اميركي مبررا بحماية الممرات الدولية وامن ممرات النفط في المنطقة .
- المرحلة الثانية
التي شهدت نوعا من الانفراج بفضل السياسة التي اعلنها الزعيم السوفياتي انذاك خروتشوف امام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الذي اعلن فيه التخلص من الحرب كوسيلة لحل النزاعات والاستعاضة عنها بالمفاوضات، واحترام سيادة الدول والحث على العلاقات الودية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والعمل على التنمية الاقتصادية على اساس المساواة .
وعزز هذا الاتجاه في العلاقات الدولية الاسلوب الذي تمّ فيه حل ازمة الصواريخ الكوبية عام 1962، ومقررات مؤتمر دول عدم الانحياز الذي عقد في القاهرة عام 1964 ومقررات الامم المتحدة عام 1965.
- المرحلة الثالثة
التي شهدت المزيد من الانفراج والتفاهم في عقدي السبعينيات والثمانينيات اثر انتهاء حرب فيتنام ، وكرس هذه الاجواء جو التفاهم بين الرئيس الامريكي نيكسون والسوفياتي بريجينيف على الكثير من القضايا العالقة بينهما، واللافت في هذه المرحلة اهتزاز صيغة النظام العالمي بين القطبين اثر بروز الصين كمشروع قطب ثالث ومؤثر، اضافة الى ظهور الوحدة الاوروبية بعد طول انتظار من طليعة مشجعيها البارزين فرنسا .

سادسا : انهيار ثنائية القطبية في النظام العالمي
منذ منتصف الثمانينيات بدأ التأكيد ان شيئا ما سيحل محل النظام العالمي القائم ، ذلك يعود بالدرجة الاولى الى العديد من الاسباب المتعلقة بوضع الاتحاد السوفياتي الداخلي من جهة وازمة النظام الرأسمالي وتطوره المطرد والمتسارع ، والسباق على التطور التكنولوجي للاغراض الاستراتيجية ذات الصلة بالهيمنة الدولية ، اضافة الى العديد من العوامل الذاتية في الدول ذات الصلة بتوجهات النظام العالمي ، اما ابرز هذه المعطيات فقد بدت في المظاهر التالية :
- ان وصول ميخائيل غورباتشوف الى السلطة في الاتحاد السوفياتي وتبنيه سياسة البروسترويكا والغلاسنوست ( الاصلاح والانفتاح) كانا العاملين الاساسيين في اهتزاز هيبة الاتحاد على المستويين الداخلي والخارجي، الامر الذي ادى الى انهياره وتفتته الى دويلات ضعيفة تتكأ على المساعدات الدولية ذات الشروط السياسية .
- ان الوضع الاقتصادي للاتحاد السوفياتي انذاك لم يعد يسمح له بمزيد
من التدخل في الشأن الدولي ، وكذلك تقديم المساعدات لكتلته الاشتراكية الذي اعتبر بمثابة الاسفين الاول في نعش الاتحاد ، اضافة الى تخلفه عن مواكبة التطور في مجال التسلح لا سيما الموضوع المتصل بحرب النجوم .
- ازمة الرأسمالة الجديدة المتعطشة الى الاسواق الجديدة بعد التخمة في الانتاج وركود في التسويق، الامر الذي ضاعف من جهود تسريع التشجيع على محاولة التغيير الجذري لمنظومة الافكار والمعتقدات السائدة ومنها الايديولوجية الماركسية .

القسم الثاني

ملامح النظام العالمي القادم :
مفاهيم جديدة واساليب اكثر قسوة




بصرف النظر عن من خطط وتابع ونفذ تفجيرات واشنطن ونيويورك ، فان جملة تساؤلات تطرح نفسها قبل الاجابة على الكثير من العلامات الفارقة التي ظهرت في النظام العالمي الآحادي الذي ساد في العقد الاخير من القرن العشرين ؛ وأبرزها :هل ان النظام العالمي الذي فرض لبى طموحات من فرضه؟ وهل ان النتنائج التي افرزتها وقائع العقد الاخير كانت متطابقة للاهداف التي خطط لها؟ وهل ان المتغيرات الحاصلة على الساحات الاقليمية والدولية كانت كافية لاقناع واشنطن بابقاء النظام العالمي على ما هو عليه؟ وهل هنالك أي شك بأن حركة التاريخ في صعود القوى وانهيارها هي متغيرة بتغير الكثير من العوامل والظروف ؟ وهل ان التقدم التكنولوجي الهائل في مجالالت المعلوماتية وما افضت اليه لن تستخدم في حكم الشعوب والامم ؟ وبالتالي ما هي القوانين التي ستحكم النظام العالمي القادم والاسس التي يبنى عليها في معرض التفجيرات ربما " الاسرائيلية الهوية " في واشنطن ؟ وهل ان ما تطالب به واشنطن يمكن توحيد الرؤية العالمية حوله ان لم يكن بالامكان تطابقه وخصوصا قضايا الارهاب ، العنوان الرئيس لحملة التأديب ؟.
ان الرد عل مجمل تلك التساؤلات سيطول كثيرا ، الا انه يمكن اختصارها بالايجاب عن بعض المفاصل الاساسية وأبرزها
اولا : ملاحظات على قيادة واشنطن للنظام العالمي وقضاياه
في خطابه الشهير حدد الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش الاب بتاريخ 14-4-1991، المبادىء العامة التي ستحكم النظام العالمي وهي ، تسوية النزاعات الاقليمية والدولية بالطرق السلمية ، التضامن في وجه العدوان ، معاملة جميع الشعوب بالعدل ، خفض ترسانة الاسلحة.
وفي الواقع ان قراءة متأنية لوقائع الاحداث ومندرجاتها في تلك الحقبة تعطي فكرة واضحة عن السياق العام الذي تعاملت به واشنطن مع هذه القضايا، ولسنا في معرض تعدادها والتعليق عليها فهي كثيرة ودامغة لجهة السلبية التي اظهرتها ومارستها وطبقتها في معايير واساليب مزدوجة، الا ان سلسلة من الاستنتاجات المفيدة يمكن ان تستخلص وأبرزها:
- ان مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية لم يحترم البتة في معالجات واشنطن للقضابا الدولية ذات الاهتمام الدولي ، بل ان معظم الوسائل والمواقع ذات الصلة كانت مغيبة تماما بارادة اميركية واضحه كنموذج الامم المتحدة ، الا في حدود استثنائية جدا ، وفي المواقع التي تخدم مصالحها الاستراتيجية مباشرة ، وان استخدمت هذا الموقع فقد استخدم كيد طيعة ان كانت عسكريا او امنيا اواقتصاديا .
- وعطفا على ما سبق ، يلاحظ بوضوح مدى مشاركة واشنطن في خلق البؤر المناسبة للصراعات الاقليمية ، ومن ثم التدخل في ادارتها وصولا الى فرض الحلول المناسبة لها من الوجهة الامريكية البحتة .
- كما ان الصراعات والنزاعات على المستويات الاقليمية والدولية لم تتقلص وحتى لم تضيق اطر التحالفات والمحاور بشأن العديد منها ، بل ان عددها قد زاد ، ووجدت مظاهر وآفاق جديدة للنزاعات يصعب التحكم بها .
- لقد طبقت وفرضت اساليب جديدة لفرض مشيئة منطق القوة في السياسة الدولية ، وابتدعت مفاهيم ومصطلحات ظاهرها مختلف عن خلفياتها ومضمونها، وبررت اعمال بحجج واهية ليس لها أي علاقة لا من قريب ولا من بعيد في القضايا التي تطرح من اجلها ، كنموذج العقوبات الذكية!
- ان ايا من النزاعات ذات الشأن على الصعيد الدولي لم يحل في ظل النظام الآحادي الجانب ، بل ان بعضها اخمد مؤقتا ، او جرت حلول مجتزأة له بحيث يمكن اشعاله في اللحظة الدولية المناسية .
واذا كان الامر يبدو بهذه الصورة القاتمة للنزاعات ، فان المبدأين " التضامن في وجه العدوان" و" معاملة جميع الشعوب بعدل " لم يكونا بأفضل حال من المبدأ السابق ويمكن تسجيل الملاحظات التالية :
- لم يطبق التضامن في وجه العدوان الا في ظروف وحدود استثنائية ، فرغم تعددها وتنوعها ولزوم التضامن في وجهها لصيانة الأمن والسلم الدوليين ، فان التعامل الذي تمّ مع احد مظاهره (اجتياح العراق للكويت) لم تكن اهدافه المعلنة متطابقة ولا حتى متوافقة مع النتائج التي اوصلت اليها الامور فيما بعد .
- ان العديد من حالات التدخل بغطاءات مختلفة ومنها التضامن في وجه العدوان وحماية الاقليات ، كانت نتائجها ، زيادة الاحساس بكشف العديد من المواقع المتوترة في العالم وحدة خطورتها بدل الاطمئنان الى طبيعة الحلول المتوصل اليها كنموذج الحروب الاوروبية الحديثة .
- ان التضامن الذي جمع في هذه الحالات لم يكن في الواقع موجها الى المعتدي او المهدد الى السلم والامن الدوليين ، بل جل ما جمع من اجله ، جيّر ، وتم استثماره بأشكال مختلفة ومتنوعة وأبرزه ايجاد التكتلات والمحاور المتعادية والمتنافرة التي ستؤسس لحروب مستقبلية ، وهذا ما يتم الاستفادة منه عمليا في مرحلة التجييش الحاصلة الآن.
- ان معاملة جميع الشعوب بعدل لم يكن مغيبا في وقت من الاوقات في مختلف الانظمة العالمية التي سادت عبر التاريخ كالذي نشهد تغييره الآن، فالشعوب والاقليات المقهورة والمحتلة اراضيها، لم تعامل لا بعدل ولا بمساواة ، بل ان العديد من المعايير المزدوجة تمّ التعامل بها مع نفس القضية او اطرافها، فان شهدت بعض المناطق عمليات مساعدة لبلورة اوضاعها ومستلزمات ظروفها القومية او غيرها، فالامر لا يعدو كونه تفتيتا للكيانات التي يمكن ان تساهم بشكل او بآخر في عرقلة المشاريع المراد فرضها.
- ان معاملة الشعوب والامم بعدل ، استغل بشكل سافر للتدخل في الشؤون الداخلية للدول ، وحولّت القضايا ذات الصلة بها ، كحقوق الانسان وغيرها كمدخل سهل للضغط على الحكومات وتمرير ما يراد تمريره.
- وعلاوة على ذلك ، فقد استغل التضامن في وجه العدوان والمساواة في اظهار الطرف المهزوم دائما ، هزيمة لمن ينتمي من حيث القومية او الدين او غيره من المقاييس والمعايير ، وبالتالي فرض الشروط والحلول لمصلحة اطراف آخرين كنموذج حرب الخليج الثانية والصراع العربي – الاسرائيلي .
اما لجهة التسلح ، فلا يبدو الامر مغايرا ، بل سجل في النظام العالمي المحتضر حاليا ، العديد من المظاهر والوقائع السلبية اهمها:
- ظهور ميل واضح باتجاه الانفاق العسكري خصوصا في الدول التي تعتبر نفسها مستهدفة في النظام العالمي السائد، فكل المعاهد ومراكز الابحاث تشير الى ازدياد هذا الانفاق وبصورة نوعية عدا عن كميته ، ذلك يعود الى ازدياد بؤر التوتر واتساعها واتخاذها اشكالا جديدة .
- اتساع دائرة الدول المالكة للاسلحة غير التقليدية بمختلف انواعها لا سيما النووي منها ، وظهور بؤر التوتر الاقليمي ذات العلاقة بالتلسح النووي في بعض المناطق ، كنموذج الباكستان والهند .
- جهود بعض الدول المكثفة لامتلاك الاسلحة غير التقليدية ، وانصباب جهودها لانجاز هذا الملف في اوقات قياسية ، نتيجة الاحساس بالخطر ومحاولة اقامة توازن الرعب الذي يفرض في احيان كثيرة ، وليس كنتيجة خيارات ممكنة قابلة للتحقق باكلاف معقولة داخليا .
- احياء الولايات المتحدة مشروع الدرع الصاروخي "حرب النجوم" الذي كان من احد الاسباب الاساسية لانهيار الاتحاد السوفياتي .
- ان مجمل تلك المظاهر ، قد ساعدت في تأجيج العداء للولايات المتحدة الامريكية ، وجعلها في الموقع المسؤول عما جرى في ظل قيادتها للعالم ، قابله ، تأسيس الصراع الامريكي مع الآخرين على قاعدة محاربة الارهاب واجتثاث اصوله ومحاربة من يرعاه ويموله ويدعمه.
- تهميش جميع القوى الاخرى في العالم وعزلها عمليا عن مواقع الحل والربط، وربطها بأزمات داخلية اقتصادية- مالية ذات صفة وخلفيات سياسية ، الامر الذي ادى الى غياب تام لتوازن القوى العالمي
اما الجانب الاقتصادي وهو الاهم والذي لم يحكى عنه عمليا بين هذه المبادىء الاربعة فله كلام خاص وطويل، الا ان ابرز ما يسجل فيه ، هو الاعلان رسمبا عن جذوة النصر للرأسمالية الحديثة القادرة على عولمة ما يخطر ولا يخطر على البال , بدءا من حرية التجارة العالمية والغاء الحواجز الجمركية وفتح الاسواق المالية دون قيد داخلي مرورا في التدخل في السياسات العامة للدول عبر ظاهرة المديونية وسياسات التخصيصية وصندوق النقد الدولي وغيرها من المؤسسات المالية ذات الهوية والمنشأ الرأسماليين ، وصولا الى تطويع دول العالم وفقا لمنظور معين من التدخل من الصعب تخطيه او تجاهله ، بدءا من عالم الاتصالات والثقافة وصولا حتى الى سلوك البشر وامزجتها وتفكيرها .
ثانيا: خلفيات وأهداف الحملة الاميركية على العالم
لا شك ان الضربة التي تلقتها واشنطن كانت قوية بحيث اصابت عصب القرار الاقتصادي – المالي والسياسي والعسكري الاميركي ، وبحيث يجعلها في موقع من الصعب تخيل عدم الرد في الحدود التي تتناسب مع حجم الذي تعرضت له، الا ان النوايا المعلنة حتى الآن من حملة التجييش الجاري التحضير لها ، لا يعكس الاهداف المعلنة عمليا بل يتخطاه الى مواقع وامور بعيدة كل البعد عما جرى ، وعن مستوى الرد "العقلاني" المبرر؛ وهذا ما يقودنا الى البحث عن خلفية ما يجري والنهايات التي ستحاول واشنطن الوصول اليها .
ان العنوان الرئيس للحملة الاميركية هو محاربة الارهاب والاقتصاص من منفذي العملية ومخططيها ، ومن ثم اضافت عنصر الدول التي تساعد وتأوي ، وزادت على اولائك جميع المنظمات التي تعتبرها ارهابية دون تمييز بين المنظمات ذات الصلة بما تعتبر وحركات التحرر والتنظيمات ذات الصفة المقاومة للاحتلال ، باختصار ، جمعت الولايات المتحدة ومن وجهة نظرها جميع ما يخطر ولا يخطر على البال في جهة ، وطلبت من العالم بأجمعه ان يكون الى جانبها في هذا التصنيف ، والا سيكون من يرفض او حتى من يعترض بعد حين في الجهة المقابلة .
فلو سلمنا جدلا بأن ما تعرضت له واشنطن ونيويورك هو عمل "ارهابي" خارجي التدبير بشكل كلي ، فان جملة تساؤلات تطرح نفسها في معرض الاتهام الاميركي وتداعياته على الازمة التي باتت اميركية الموقع وعالمية الامتدادات والتداعيات ؛ فهل تمكّنت واشنطن من تحديد الجهة المعتدية عليها واثبات ذلك بالادلة الدامغة لتعلن الحرب عليها ، وحتى تطلب من كافة دول العالم التأهب لنصرتها ؟ ولو سلمنا جدلا ايضا ، ان "مجموعة القاعدة وزعيمها ابن لادن " هي الجهة المسؤولة عما جرى ، فهل يستدعي هذا الحجم من التنظيم كل ذلك التجييش ولائحة المطالب ؟ ام ان في الامر خلفيات اخرى غير ابن لادن وجماعته ؟ وهذا ما اعلنت عنه صراحة ، ولنفترض ان بعض الدول او المؤسسات او الجماعات تساعد هذه المجموعة ، فما هو علاقة العالم بأجمعه بهذه القضية ، ان لم يكن في اعتبار واشنطن ان الارهاب هو عالمي المنشأ وعالمي الاهداف ، ووجوب عالمية التصدي له ، وهنا تطرح اشكاليات اخرى ، حول ماهية الارهاب ، ومن الجهة المخولة لتعريفه ، ومن يمكن ان يوضع تحت خانته ، ومن هي الجهة المخولة بضربه ؟ ربما اسئلة لا تنتهي يجب الاجابة عنها للوصول الى خلفية الحملة ، الا ان ما يطرح على الاقل الآن يظهر بعض الملامح ابرزها:
- تأكيد الولايات المتحدة وبشكل لا يقبل الاعتراض ، انها الدولة الوحيدة القادرة على قيادة العالم وحل مشاكله ووفقا للتوصيف الذي تريد .
- ان الارهاب لم يعد مجرد تنظيم في مكان ما في العالم ، او ضمن سيادة دولة ما ، بل الايحاء ، بأن الارهاب هو موجود في كل مكان وحتى في الولايات المتحدة كما اعلن مسؤوليها ، وبالتالي ان حملة اجتثاثه هو مسؤولية عالمية يجب الانضمام اليها ترغيبا وترهيبا ، عاجلا ام آجلا .
- وبما ان هذه الصفة هي الاعم على مجمل بقاع العالم ، فان لائحة المطالب التي توزعها وتنشرها على دول العالم ، الهدف منها تحويل جميع حكومات العالم الى "نيابات عامة" بخدمة العدالةالاميركية "المطلقة" كما اسمتها .
- ان الاجراءات التي تعتمدها واشنطن حتى الآن في معرض الرد ، بدءأ من التحقيقات وانتهاءا بالتجييش العسكري للحملة الاميركية على الارهاب ، لم يعد مجرد التحضير على ما اصابها ، بل باتت الاتجاهات متعددة ومتنوعة بتعدد وتنوع الخلفيات غير المعلنة للحملة ، بحيث تطاول كل ما له صلة حتى بأمزجة الشعوب ونمط عيشها وتفكيرها ومعتقداتها ....
- ان الظهور المتسارع للامور والقضايا التي تود ربطها بقضايا الارهاب كثيرة، حتى انه لا يمر يوم ان لم نقل ساعة ، وتظهر حالات ربط جديدة ، وهذا ما يؤكد ان الحملة سيكون لها بداية ، الا ان نهاياتها وما يمكن ان يربط بها لن يكون بالسهل حصرها او معرفة ملامح حدودها ، وهذا عائد بطبيعة الامر الى مستوى تجاوب كل طرف معها ، والا من السهل ايجاد ما يورط أي دولة معترضة او غير متجاوبة بالمستوى المطلوب ، وهي ذريعة وحكما هدفا غير معلن لضربها.
- ان اعتراف الولايات المتحدة علنا ان ما جرى هو حتما من اطراف خارجيين ومساعدين داخليين ليس بالكافي لالقاء الضوء على الحقيقة المغيبة ، وهي الطرف او الجهة المستفيدة فعليا من الذي جرى ، والتركيز علنا على العرب والمسلمين في حملات التشكيك والاتهام غير المبرر بقرائن وأدلة واضحة، وتغييب أي احتمال لاسرائيل الضلوع فيها ان لم يكن المدبر الرئيس فيها ، باعتبار ان ما جرى ليس بمقدور أي دولة ان تنفذه ان لم يكن لها امتدادات داخلية في الولايات المتحدة الى حد مواقع القرار ذات الصلة في ادوات تنفيذ العملية ، هذا اذا استثنينا واقع غياب آلاف اليهود عن مواقع التفجيرات يوم ذاك في مركز التجارة العالمي وغيره، اضافة الى استثناء واقع الاتجاهات التي تسير فيها الامور في الداخل الامريكي وكيفية تجييره وفقا للمصالح الاسرائيلية .
ثالثا : ملامح المرحلة القادمة وشكل النظام العالمي القادم
ان التدقيق في حيثيات ما يتم التحضير له ، يقودنا الى العديد من المظاهر ابرزها :
- ان قيام الولايات المتحدة الاميركية بضربة معينة لافغانستان والى من فيها، لن يلبي الطموح الاميركي في اعادة الهيبة المهانة ، لعدة اعتبارات من بينها ، ان افغانستان لم تعد مجرد مأوى الارهاب ومنطلقه ، ولا هي بالدولة التي اذا ضربت ستغير الوقائع المطلوبة على المستوى الدولي ، اضافة الى ان الاجماع الذي تمّ حتى الآن بخصوص التخلص بمن فيها ساعد واشنطن الى حد كبير في تجاوزها ، وبات المطلوب ابعد منها .
- ان الواقع الجيو سياسي الذي تتمتع به دول المنطقة ( آسيا الوسطى) سيكون مدخلا ذات ابعاد مهمة للتدخل الاميركي العسكري حاليا والسياسي لاحقا ، على مستوى شرق آسيا ودولها الواعدة في محاولة للعب دور ما في النظام العالمي المحتمل او على الاقل النظام الذي يتأمل البعض فيه، اضافة الى الموقع الاقرب على حدود روسيا التي تحاول نفض غبار العقد الاخير من القرن الماضي عنها ، وعطفا على ما تمتلكه دول آسيا الوسطى من موارد ذات شأن هام في السياسة الاميركية ، ولجميع هذه الاسباب ، ان التدخل الاميركي العسكري لن يكون عرضيا ، او محدودا باتجاه افغانسان وحدها ، بل له ابعاد تتعدى الارهاب وأدواته كما تدعي .
- ان الضربة العسكرية التي يحضر لها لن تكون واحدة ، ولا لمجموعة مواقع معينة ، بل ستمتد على شرق الارض ومغاربها، بدءا ب "المنظمات الارهابية" مرورا بالدول "المارقة" وصولا الى الدول الخارجة عن "بيت الطاعة" بحسب التوصيف الاميركي، وهذا يعني ان الفترة الزمنية لن تكون محدودة ، ولا التحالف الذي يحضّر له سيكون ثابتا لجهة من يدخل فيه ومن يخرج منه، بل على الارجح ان بعض الدول يمكن ان تدخل فيه في مرحلة ما وسيثار العديد من المطالب في وجهها لاخراجها ومن ثم شملها في الحملة الاميركية .
- ان الحديث عن من يأوي الارهاب ويدعمه من الدول سيتحول الى ملفات اخرى ، منها العسكرية المتصلة بأسلحة الدمار الشامل التي يحاول الصاق التّهم لبعض الدول واستثناء آخرين منها، وهذا الامر لن يكون بعيدا عن المبررات التي ستساق لبعض الدول الشرق اوسطية ان كانت عربية او اسلامية ، تمهيدا لضمها الى الجانب " المعادي لاميركا " و" المناصر للارهاب" بحسب الفهم الاميركي ، تمهيدا لضربها .
- ان التحالف الذي يتم تدبيره سيقوم على الكثير من المغريات لكثير من الدول والمحاور ، بدءا بالملفات السياسية العالقة في بعض المواقع الاقليمية مرورا بالملفات المالية والاقتصادية ذات الصلة بالصفة السياسية الددولية كالديون الخارجية ، وصولا الى الملفات التكنولوجية واستخداماتها العسكرية - السياسية ، فمن وآلّى اعطيّ وزيد ، ومن اعترض وعارض ضرب واهين ، ومن ساير وحايد لن يطول الزمن قبل ان يلين.
- ان من سيمّن عليه الدخول في الحملة سيكون وفقا لامكاناته وظروفه كما اعلن منظموها، وهذا يعني اولا وأخيرا ان الجانب العسكري ليس بالمشكلة ، وانما الغطاء المالي والتكاليف هي المعنية بهذا الملف ، وهذا ما ستوفره بعض الدول القادرة على ذلك كما استغلت سابقا في حرب الخليج الثانية ، كما ان التغطية السياسية سيكون لها دور ما في بعض مراحل الحملة .
- ان اسرائيل القابعة في قلب الازمة وأحد مسببيها المباشرين وغير المباشرين في آن معا، لن تدخل الحملة علنا، خوفا من افشال التحالف – الحملة !وهذا لا يعني انه لن يكون لها دور ما حتى ولو علنا اذا ما جرت الامور بغير حساباتها ، وبالتالي لن تكون على هامش ما يجري ويركّب في الشرق الاوسط ، بل سيكون لها الدور المؤثر في الكثير من مجريات الامور فيما بعد ؛ بمعنى آخر ، ان هزيمة العراق في وجه التحالف الدولي العام 1991 والذي ترجم هزيمة لكل العرب ، وما ادى من تداعيات مؤتمر مدريد وما اعقبه ، سيعاد في الحسابات الاميركية - الاسرائيلية على قاعدة الحلول وفقا لمنظور ومفهوم المنتصر ، وبالمناسبة ، هل ستكون واشنطن هي مدريد الثانية .
ان ما يحضر له على الصعيد العالمي ليس بقليل ، وانما سيختصر الحرب العالمية "الرابعة " بعد "الثالثة بنتائجها" في حرب الخليج الثانية وما اعقبها من نظام عالمي آحادي التوجه والقرار ، فهل سيكون النظام العالمي القادم بأحسن حال مما يحتضر الآن ؟ ان ملامح النظام العالمي ومتطلباته توضح السؤال ، وأبرزها :
- ان النظام العالمي الذي يحتضر لم يلب طموحات من قاده، فان ابعدت بعض القوى الواعدة عن صياغة القرارات الدولية، فهي لم تتمكن من ازالة هواجسها المتصلة باستمرار القيادة المؤثرة ؛ وان تمكنت من التدخل في الشؤون الداخلية للدول ، بدءا بملفات حقوق الانسان ، مرورا بالسياسات الحكومية الداخلية (المالية والاقتصادية) للدول ، وانتهاءا بأثر هذه السياسات على القضايا الخارجية للدول وتأثيراتها في الازمات الاقليمية، فانها لم تتمكن حتى الآن من اخضاع الكثير من الدول السالفة الذكر تماما للوجهة الاميركية ؛ وان تمكّنت من صياغة بعض الحلول المجتزأة لبعض النزاعات الاقليمية ذات الشأن ، فأنها لم تتمكن من اقناع الكثيرين من المضي في الاتجاه الذي تراه صحيحا في حل هذه النزاعات ، ومن هنا تكمن الحاجة الاميركية الملحة الى اعادة النظر في النظام العالمي المحتضر والتأسيس لنظام عالمي يلبي طموحاتها ومن يدفعها .
- ان النظام العالمي القادم ليس بالضرورة ان يشهد الكثير من التغيرات الدراماتيكية ، بل سيكون على الارجح نسخة منقحة ومعدلة عن سلفه ، مع الاخذ بعين الاعتبار بعض التفاصيل الناشئة عن المتغيرات الحاصلة ، وبمعنى ان آحادية التوجه والقرار ستسود فترة من الزمن ، وسيمارس من خلاله مظاهر ستكون اشد قسوة على دول العالم ، بحيث ان التدخل سيطال الكثير من الاوجه التي لا تخطر على البال بذرائع وحجج متنوعة ومتعددة وستتعود المجتمعات والدول على الكثير من الامور التي ستصبح جزءا من حياتها واسلوب عيشها من خلال الوسائل التي تضخ في المجتمعات وخصوصا التكنولوجية منها .
- ان الكثير من المبادىء والقيّم التي قامت عليها مختلف الانظمة العالمية التي سادت عبر العصور ، ستشهد تغييرات كثيرة، بل ان بعضها سيكون ذات مفردات وتعابير جديدة تعكس الكثير من الاوجه المعاصرة ، فمن الناحية العملية لن يكون هناك سيادة للدول في ظل العولمة التي ستطال حتى السلوك الاجتماعي والامزجة؛ كما انه لن يكون هناك حرمة للحقوق الشخصية التي قامت عليها شرعة حقوق الانسان ، في ظل التشكيك بكل شيء ومحاولة معرفة كل شيء لتدارك ما يمكن ان يفعله أي انسان؛ ولن يكون الارهاب ذات صفة محلية خاضعة لمجموعة او دولة ، بل ان عولمة الارهاب ستكون الصفة الواضحة بهدف وضع اليد على كل صغيرة وكبيرة في العالم ، تحت نظام امني- معلوماتي دقيق ، أي بمعنى اذا كان النظام العالمي البائد قد رعى سياسات الدول ، فان القادم سيرعى افراد هذه الدول وسلوكها ؛ وليس من المستغرب بمكان بعد فترة وجيزة من الزمن سيكون لكل انسان رقما وموقعا من خلال جهاز معين ، بحيث يكون من السهل جدا معرفة أي شيء يحدث وفي فترة الحدث عينها ، كل ذلك مبررا بمحاربة الارهاب والاتقاء من شروره .
- ان صراع الحضارات سيكون الابرز بين مجموعة القضايا المطروحة في ظل النظام العالمي القادم ، اذ سيكون اكثر حساسية وحدّة ، بحيث سيعيد الى الاذهان مجددا الصور السوداء لحروب القرون الوسطى وما آالت اليه من شروخ في النظرة الى الاديان والمعتقدات وما يستتبعها من قضايا متصلة بها .
- ان حل النزاعات والقضايا الاقليمية ذات البعد الدولي ستشهد مزيدا من حالات الابتزاز على قاعدة الغالب والمغلوب في النظام العالمي القادم ومن شارك فيه، أي بمعنى، ان كثيرا من مظاهر الحروب بين الدول المعنية في صراع ما سيزول، وسيحل مكانه صيغة قطف ثمار النصر المزعوم ليكرس اتفاقات غير عادلة بين اطراف غير متكافئة من الناحية العملية، كنموذج الصراع العربي – الاسرائيلي والنزاع الباكستاني – الهندي وغيره الكثير من القضايا التي لا زالت بدون حلول .
- ان ظهور المنظمات الاقليمية بمظهر المنافس للعولمة وآثارها والتي تعتبر من اسس النظام العالمي الحالي ، سيكون دورها محدودا وغير قادرة على احداث تغييرات ذات معنى جاد لصياغة النظام البديل ، ذلك يعود للعديد من الاسباب ابرزها ، عدم قدرتها على المنافسة بفعل تشرذم وتشتت مشاريعها ضمن المجموعة الواحدة ، وتمكن واشنطن بشكل او بآخر من ممارسة الضغوط على اطرافها الفاعلة وتسييرها في الاتجاه الذي يناسبها ، كنموذج الاتحاد الاوروبي ،او اتحادات شرق آسيا .
- ان دور النظمات الاقليمية او الدولية يعتبر من الناحية العملية مهمشا الى اقصى الحدود ، الا في الحالات التي تستخدم فيها لمصلحة قائد النظام العالمي ، وقد اثبتت الوقائع ذلك ، ففي الحالات التي يمكن ان يسيّر ويجيّر عمل هذه المنظمات فيكون لها اليد الطولى ، والا كان العكس في مجرى الامور ؛ أي بمعنى آخر باتت هذه المنظمات وتحديدا الامم المتحدة الاداة الشرعية والمطوعة في يد واشنطن لجهة ادارتها للنظام العالمي ومتطلباته .
- ان مبدأ التضامن من اجل حماية السلم والامن الدوليين الذي لا يزال من الادبيات البارزة للنظام العالمي يحترم بدقة وفقا للكيفية التي تخدم مصالح القطب القيادي الاوحد ومن يدور في فلكه ، بينما لا يسجل أي اختراق له في الجهة المقابلة والنماذج كثيرة في هذا المجال ، لا سيما المتصل بالصراع العربي _ الاسرائيلي وغيره من قضايا العالم الثالث اينما وجد جغرافيا .
- ان قضايا التسلح وانتشار اسلحة الدمار الشامل وغيرها من القضايا الدولية كنظام الدرع الصاروخي اوحرب النجوم ، ستكون من القضايا الاساسية الى جانب الارهاب على مفكرة منظم النظام العالمي، وستشهد معايير مزدوجة وبأشكال اكثر قسوة في معالجاتها ، مع التركيز على مضي واشنطن في مشاريعها التسليحية لا سيما حرب النجوم للتأكيد مجددا ان المعطيات السائدة تستدعي التفوق النوعي غير المحدود لقيادة عالمية آمنة ومستقرة .
- ان السياسات التي ستعتمد من قبل واشنطن في مختلف بقاع العالم ، لن يساهم في حل الكثير من القضايا التي تخوض غمار الحرب ضدها الآن ، بل ان موجة العداء ستظهر بأشكال اكثر عنفا وربما اكثر عدوانية عند توفر ظروفها ومعطياتها.
- اما الجانب الاقتصادي – المالي على الصعيد الدولي، فسيكون له حيزا هاما مما يحضر له او على الاقل من نتائج ما ستؤول اليه الامور، فالركود الاقتصادي على المستوى الدولي وسلسلة ازمات النظام الرأسمالي القائم حاليا ، سيشهد نوعا من التحريك على قاعدة الانتاج العسكري وتصريفه وما يستتبع ذلك من تحريك قطاعات كثيرة وضخمة ؛ ولن يقتصر الامر على ذلك ، فستشهد الفترة المقبلة نوعا من اعادة توزيع الثروات ولو بطرق غير مشروعة .
ربما تكون هذه النظرة التشاؤمية مغالا فيها بعض الشيء ، الا انها من الصعب ان تخرج عن هذا السياق بشكل عام ، وهذا لا يعني بالضرورة استمرارها الى الابد ، فحياة الامم والشعوب متغيرة ، كما ان الدول والانظمة العالمية؛ فالتاريخ كما القديم ، الحديث والمعاصر شهد متغيرات كثيرة ومتسارعة وفي احيان كثيرة لم يقبلها العقل البشري بسهولة من انهيار امبراطوريات واحلاف ونظم لم يكن يتخيل احدا بأنها ستزول بهذه السرعة، عدا عن الايديولوجيات والمعتقدات ،التي كان لها نصيب وافر من هذه التغيرات الدراماتيكية .
اخيرا ربما سيكون صراع الحضارات وما سيستتبعه ، سيكون النواة الاولى لانهيار هذا النظام من الداخل ، ومن حيث بدأ نسج لبناته الاولى، وبالتأكيد لن يكون شعار حملة التأديب " العدالة المطلقة " التي لا وجود لها الا في الكتب السماوية ، شعارا قابلا للتطبيق في ظل عالم تسوده النسور الكاسرة ، التي ليس لها علاقة بأي " نسر نبيل " .