10‏/02‏/2008

واقع العلاقات الأمريكية - الإيرانية ومستقبلها


واقع العلاقات الأمريكية - الإيرانية ومستقبلها
د.خليل حسين
أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مستشار في مجلس النواب اللبناني


غريب المفارقات في العلاقات الأمريكية الإيرانية ما يؤثر ويتأثر بها من عوامل هي بغالبيتها ليس لها علاقة بالبلدين بشكل مباشر بقدر ما هي تعبير عن التقاء أو تضارب المصالح بينهما.وفي الواقع تتداخل هذه العوامل وتتنوع بدء من العقائدي مرورا بالسياسي وصولا إلى الاقتصادي والاجتماعي..؛ وقد مرت العلاقات بأشكال وأنواع مختلفة حتى في نفس الحقبة العقائدية الواحدة مثال مرحلة الثورة وما تلاها ما يصعِّب عملية توصيف أو تنميط العلاقة.ومهما يكن من أمر فإن أفضل التوصيف يكمن في الكثير من الاختلافات والمآزق وقليل من الانفراجات والتفاهم.أما ابرز محاور القضايا والمحطات التي يمكن ملاحظتها فتكمن في قضايا مستجدة وأخرى تقليدية.
أولا : قضايا مستجدة
- الملف النووي: وهو موضوع حديث العهد في العلاقات بين الدولتين، فطالما اتهمت واشنطن طهران بالسعي لامتلاك أسلحة دمار شامل، غير أن هذا الاتهام لم يكن يتعدى مستوى الخطاب السياسي والإعلامي. وقد تحوَّل خلال الأعوام الماضية إلى قضية خلافية حقيقية وتمَّ توسيع نطاقها لتشمل أطرافا أخرى بما فيها دول مثل الاتحاد الأوروبي، ومنظمات مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجلس الأمن في المستقبل القريب.
- الملف العراقي:رغم أن العراق وإيران يمثلان معا رقمين أساسيين في معادلة التوازن الإقليمي لمنطقة الخليج منذ عقود، إلا أن المسألة العراقية لم تكن يوما محل سجال وتجاذب بين طهران والولايات المتحدة الأمريكية كما هي اليوم، فحتى عندما غزا العراق الكويت عام 1990، ومن ثم اشتعال حرب الخليج الثانية في شباط / فبراير 1991، كانت مساحة الاتفاق بين طهران وواشنطن كافية لحياد إيران وعدم وقوفها إلى جانب العراق إن لم تدعم قوات التحالف، وهو أيضا الموقف الذي اتخذته إيران لدى الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق في العام 2003.غير أن الوضع اختلف مع استتباب الأمور لقوة الاحتلال واتجاه الأوضاع في العراق إلى منحى جديد جعل من العراق دولة تحت الاحتلال لفترة طويلة قادمة، إضافة إلى تغيّر طبيعة وشكل الدولة العراقية الجديدة.ومن هنا يحضر الملف العراقي في طليعة القضايا المطروحة على النقاش في العلاقات الإيرانية - الأمريكية حاليا. والجديد هنا التطورات الجوهرية التي طرأت عليه وجعلت الوضع العراقي بالفعل مختلفا وجديدا. ويزيد من أهمية هذه القضية ومحوريتها في حسابات العلاقات بين الدولتين، أن كلا منهما أصبح طرفا رئيسا في المعادلة العراقية، واشنطن بوجودها الفعلي داخل الأراضي العراقية كقوة احتلال مسيطرة على الأوضاع بصفة عامة ومهيمنة على التطورات السياسية بصفة خاصة، وطهران باعتبارها قوة إقليمية كبرى في المنطقة وجار مباشر واقع داخل النطاق الحيوي للعراق، وتملك صلات وروابط عضوية بقوى وجماعات عراقية تمثل بدورها شريحة أساسية من الشعب العراقي هي الطائفة الشيعية. وهذا وجه آخر للأولوية التي اكتسبها الملف العراقي في علاقات الدولتين، فالحضور الأمريكي القوي في المنطقة منذ حرب الخليج الثانية لا يقارن في تأثيره ولا في مقتضياته بالدخول الفعلي عسكريا وسياسيا وإداريا والاستقرار داخل الأراضي العراقية. في المقابل إن الارتباط العضوي لإيران بالشيعة العراقيين أفرادا وتنظيمات لم يكن يوما مهما كما هو اليوم، خصوصا في ظل الكبت والتهميش الذين عانى منها الشيعة العراقيين إبان حكم النظام السابق.
- مشروع الشرق الأوسط الكبير: على الرغم من أن المشروع ليس بجديد وقد تكرر طرحه منذ منتصف القرن الماضي، إلا أن غالبية صِيَغهِ انطلقت إما من أسس أمنية اعتمدت على تحالفات عسكرية واستراتيجية، أو من أسس اقتصادية وسياسية بهدف إقامة محاور من هذا النوع بين دول المنطقة. فمشروع الشرق الأوسط الكبير اختلف عما سبقه في المنطلق والأهداف؛ فقد انطلق من افتراض أساسي مؤداه أن المنطقة العربية وبعض الدول الإسلامية المحيطة بها تعد بيئة خصبة لنمو التطرف والأفكار والتوجهات المعادية للإنسانية وبالتالي أصبحت المصدر الرئيس للإرهاب والعنف، وبالتالي إن هدف المشروع اجتثاث جذور التطرف وتجفيف منابع العنف والإرهاب في المجتمعات التي تفرزه وفقا للتوصيف الأمريكي. وفى حين كان بوسع طهران التملص من المشاريع الشرق أوسطية السابقة أو بالأحرى لم تكن مستهدفة به من الأساس، أصبحت لا تملك حاليا هذا الاستثناء في المشروع الجديد، فهي ليست معفية من الانخراط فيه كبقية الدول الإسلامية والعربية.وإذ يمتد مشروع الشرق الأوسط الكبير ليخترق مجالات اجتماعية وثقافية وتربوية، فإن الصدام حوله لا جدل فيه ولو لم يشمل جميع وجوهه، فالمشروع لن يكون كله موضع تصادم أو مواجهة بين طهران وواشنطن، فالجوانب الاقتصادية فيه تتوافق مع التوجهات الاقتصادية الإيرانية الحالية، بل ربما تلبي بعض الطموحات الاقتصادية التي تسعى إيران بقوة منذ سنوات للوصول إليها والتي تعوقها اعتبارات سياسية، منها مسائل تشجيع القطاع الخاص وفتح الباب أمام شراكات مع كيانات ومؤسسات اقتصادية لزيادة الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى الحد من البطالة، وطبعا الدخول في إطار منظمة التجارة العالمية.
ثانيا : قضايا تقليدية
- وضع الخليج الإقليمي :ظل التوازن الإقليمي في منطقة الخليج إحدى أبرز القضايا الخلافية بين طهران وواشنطن منذ قيام الثورة الإسلامية ، نظرا للتباين الواضح في رؤى الدولتين حول أمن الخليج ومقومات الاستقرار فيه. إذ اعتبرت الإدارة الأمريكية ولفترة طويلة أن إيران تمثل تهديدا مباشرا للمنطقة ، فيما اعتبرت إيران أن أمن الخليج مسؤولية دوله وأن الوجود العسكري الأجنبي نفسه مدعاة لعدم الاستقرار. غير أن مجريات حرب الخليج الثانية وتداعياتها دفعت الطرفان إلى التخفيف نسبيا من هذين الموقفين المتناقضين، فقبلت طهران الوجود العسكري الأمريكي والأجنبي في الخليج على مضض وكأمر واقع عليها التعامل معه، بينما خففت الإدارة الأمريكية من تحذيراتها لما اعتبرته تهديدا إيرانيا لجيرانها وللأمن في المنطقة. بيد أن ما ينبغي الانتباه إليه أن كلا الملفين لم يغلقا، فكلما أثير موضوع أمن الخليج أكدت طهران مجددا موقفها التقليدي الرافض للوجود العسكري الأجنبي. وفي الجانب الآخر وسَّعت واشنطن من دائرة اتهاماتها لإيران بما يتعلق بأمن المنطقة ليشمل العالم كله بسبب ما تعتبره مساعي إيران لامتلاك أسلحة دمار شامل، وقد جاء هذا التعميم غير المبرر بعد التحسّن الذي طرأ في العلاقات الإيرانية- الخليجية خلال السنوات الماضية،غير أن حقيقة الأمر أن الملف الإقليمي في الخليج مؤجل وقابل للتصعيد في أي وقت.
- الصراع العربي- الإسرائيلي:تعتبر المواقف التقليدية الإيرانية من إسرائيل أحد القضايا الخلافية الأساسية بين طهران وواشنطن، غير أن تحولا جوهريا طرأ على الموقف الإيراني من الصراع برمته بخاصة بعد مشاريع التسوية في خلال العقد الماضي، وتحديدا منذ إبرام اتفاقات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث ليَّنت طهران من مواقفها واعتبرت أن للفلسطينيين حرية اختيار ما يرونه مناسبا. كما عُممَّ هذا الموقف على المسارات التفاوضية الأخرى ؛ مع تسجيل بعض الاستثناءات أهمها ما يتعلق بحزب الله في لبنان وحركات المقاومة المسلحة في فلسطين وبخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، إذ لا تزال علاقة طهران بهذه التنظيمات وموقفها المعلن منها محل خلاف جوهري مع الإدارة الأمريكية. وإذ ليس من المتوقع حدوث تطور ملموس في عملية التسوية سواء في المسار الفلسطيني أو السوري أو فيما يتعلق باستمرار احتلال إسرائيل لمزارع شبعا اللبنانية،فستظل النقاط الخلافية محل جذب ومرشحة لمزيد من التفاعل والتصعيد ما لم يحدث تطور مفاجئ أو حدث طارئ يوتِّر الموقف على الجبهة اللبنانية بصفة خاصة.
- مكافحة الإرهاب احتل الإرهاب مساحة مهمة من حالات الشد والجذب في العلاقات الإيرانية الأمريكية عبر مختلف مراحلها، ثم ما لبث أن احتلَّ مساحة أوسع بعد تفجيرات 11 أيلول / سبتمبر 2001 والحرب الأمريكية على أفغانستان. ورغم أن علاقة محددة بين إيران وتنظيم القاعدة لم تثبت، فان ملف علاقة إيران ببعض التنظيمات التي تصفها الإدارة الأمريكية بأنها إرهابية لا يزال معلقا. وفي مقابل ذلك اعتبرت طهران أن الحملة الدولية على ما أسمته واشنطن إرهابا يجب أن تشمل منظمات مثل مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة.
- قضايا ثانوية:ثمة قضايا عالقة بين البلدين تبدو أقل أهمية مقارنة بالمسائل الرئيسة، لكنها تظل ضمن قائمة الموضوعات المعلقة التي تحتاج إلى اتفاقات محددة حال الرغبة في تحسين العلاقات بين الطرفين، وأبرز هذه الموضوعات ما تسميه واشنطن وضع حقوق الإنسان في إيران، إذ أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لوَّحت بهذا الموضوع من حين إلى آخر دون تصعيده إما لانشغالها بمسائل أخرى أهم أو لأنه يثير ردود فعل إيرانية قوية باعتباره يمسُّ شأنا داخليا ويتعلق باختلاف المفاهيم والتعريفات المستخدمة فضلا عن التباين في النسق الثقافي الذي يتمّ من خلاله تقييم حالة حقوق الإنسان في إيران أو غيرها من دول العالم. وفي الجانب الآخر ثمة موضوعات تتعلق بجوانب اقتصادية أهمها الأرصدة الإيرانية المجمدة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، والعقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران بموجب قانون داماتو.
ثالثا : ماذا جرى في الماضي
فوجئت إيران في مطلع العام 2002 بإدراج الرئيس الأمريكي جورج بوش اسمها ضمن محور الشر، وسادت علاقات الدولتين توترا وتصعيدا متبادلين فتح باب الاحتمالات لمواجهات سياسية - عسكرية. ومع مطلع العام 2003 كشفت واشنطن عن نواياها للقيام بعمل عسكري ضد العراق وهو ما فرض تحدِّيا من نوع آخر على السياسة الإيرانية ما أدى إلى تعقيد الوضع الإقليمي بشكل لافت.وليس من المبالغة القول أن اللهجة الأمريكية المتشددة ضد طهران لم تكن بالخطورة التي كان يعنيها ضرب العراق. فقد كانت طهران في حال شد وجذب مستمرين مع الولايات المتحدة وإن اختلفت التسميات والتصنيفات من صفة الدولة المارقة إلى عضوية محور الشر، كما أن طهران أدركت أنها والعراق مستهدفتان مباشرة في المخططات والتصورات الاستراتيجية الأمريكية منذ عقود، وأن أي تغيير سيطرأ على وضعية العراق والسياسة الأمريكية تجاهه سيمثل بالضرورة علامة فارقة بالنسبة لطهران حيث تصبح المرشح التالي بعد العراق.كما أن مواقف واشنطن من العراق كان يعنى في الحسابات الإيرانية مكاسب مضاعفة تتجاوز مجرد تفتيت ما تبقى من قوة عراقية واستبعاد احتمالات قدرة بغداد على استعادتها، كما تتجاوز أيضا القضاء على نظام حاكم أنهك القوة الإيرانية في حرب هائلة استمرت ثماني سنوات، فانغماس واشنطن في الملف العراقي ودخولها في مسار عسكري لإدارة هذا الملف كان يعنى مباشرة زيادة لأهمية طهران في الحسابات الأمريكية وبالتالي مساحة أكبر للتنسيق وللتقليل من حدة اختلال ميزان القوة بين الطرفين على الأقل في هذا الإطار.
أن القضايا الخلافية بين الدولتين هي ذاتها التي تستلزم التشاور والتوفيق في المواقف بينهما، وبخاصة القضايا الإقليمية التي لا تتصل مباشرة بالدولتين حتى وإن ارتبطت بالمصالح القومية لهما. فالخلاف الحاد حول الملف النووي وكذلك حول العراق أو أفغانستان لم يحل دون إقامة حوار وتبادل للرؤى والتقييمات، بل ربما كان هذا الخلاف ذاته هو الذي دفع الطرفان باتجاه الحوار وعقد لقاءات استكشافية وأحيانا تنسيقية حول الكثير من القضايا في تلك الملفات.
إن تفاعل العلاقات بين الطرفين يمكن تشبيهها بخط بياني متماثل على فترات زمنية متكررة صعودا وهبوطا، تبدأ بحالة من الجذب الإعلامي على خلفية تباين المواقف من قضية معينة، ثم سرعان ما تتقارب المواقف خاصة على المستوى السلوكي أكثر من الإعلامي، وكثيرا ما يتكشف أن ثمة حوارات ونقاشات كانت دائرة بين الطرفين سواء مباشرة أو بالواسطة، غير أن التقارب لم يمتد ليشمل العلاقات الثنائية خاصة الرسمية، نظرا لخضوعها لاعتبارات أكثر تشددا على كل من الجانبين، فتتوقف دورة العلاقات عند حدود التنسيق لحين بروز قضية خلافية جديدة أو وقوع طارئ.كما يمكن ملاحظة أن التفاعلات بين الدولتين متداخلة في موضوعاتها وقضاياها مثل الملف العراقي والعلاقة مع تنظيم القاعدة ووضع منظمة مجاهدي خلق والموقف من حزب الله وتنظيمات المقاومة، باستثناء الملف النووي الذي يؤثر في مجمل العلاقات، لكنه غير متداخل بشكل مباشر مع بقية القضايا.
أن التنسيق والحوار بين الدولتين جرى حول القضايا الخلافية ذاتها في التطورات التي شهدتها العلاقات في الأعوام القليلة الماضية، أي منذ بدأ التصعيد الأمريكي ضد العراق. فقد كان التركيز بدء من حزيران / يونيو 2002 وحتى آذار / مارس 2003 على خيار الحرب ا والمقابلة بين رغبة واشنطن في تنفيذه ورغبة طهران في استبعاده. وبعد وقوع الغزو وسقوط بغداد في التاسع من نيسان / إبريل تغيرت أسس ومنطلقات التفاعل لدى الجانبين وفقا للمعطيات الجديدة. وشهدت الفترة التالية لانتهاء العمليات العسكرية عدة أشكال من التفاعل كان معظمها إيجابيا وسلميا سواء تمّت بشكل مباشر أي اتصالات ورسائل متبادلة عبر وسطاء، أو بشكل غير مباشر من خلال لقاءات ومباحثات سرية تمَّ بعضها في جنيف وبعضها الآخر في باريس. وكان جوهر تلك الاتصالات التي استمرت عدة أشهر على مرّات متقطعة تعبيرا عن اتجاه كل طرف سواء إراديا أو اضطراريا إلى التعامل مع الطرف الآخر والوصول معه إلى صفقة تحقق مكاسب مقابل تنازلات متبادلة. وشمل ذلك مختلف الملفات والقضايا المشار إليها، خاصة تلك المتداخلة والتي يصعب التعامل مع كل منها بشكل مستقل، وبالفعل أوضحت مواقف الدولتين وتفاعلاتهما أن ثمة نقاط تقاطع أمكن التوصل لها، وهو ما لم يحدث في الملف النووي لكونه منفصل نسبيا عن بقية الملفات وإن خضع بالطبع للعبة المساومة وأوراق الضغط المتبادلة في المحصلة العامة.
وفيما يختص ببعض القضايا فقد تبلورت مواقف جديدة للدولتين تجاهها، ففي مسألة علاقة طهران بتنظيم القاعدة فقد تدرَّج التحول في الموقف الإيراني من الإصرار على التحقيق مع تلك العناصر أو محاكمتها داخل إيران إلى التلميح بإمكانية تسليمهم جميعا أو بعضهم للأمم المتحدة، إلى أن قررت طهران تسليم عدد منهم إلى البلدان التابعين لها. لكن طهران تمسكت بعدم تسليم أي منهم إلى واشنطن وهو المطلب الرئيس للإدارة الأمريكية في هذا الملف بين الدولتين.
كما مر ملف منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة بمراحل مشابهة، حيث ظل مطلب إيران تسليمها أعضاء المنظمة والقوات التابعة لها نقطة البداية في التعاطي مع هذا الملف، بينما تدرَّج موقف واشنطن منه بدءا بالرفض المطلق لمطلب إيران ثم ممارسة ضغوط أمريكية على المنظمة وإغلاق مكتبي منظمتين تابعتين لها في الولايات المتحدة، ثم قررت واشنطن إبعاد المنظمة وقواتها من الأراضي العراقية. ودخلت الإدارة الأمريكية في مساومة صريحة مع طهران حول مقايضة عناصر القاعدة المهمين الموجودين لدى إيران بقيادات مجاهدي خلق، لكن لم يتم التوافق حول تلك المقايضة بما يلبي المطالب القصوى للطرفين،
إن عدم حصول أي من الطرفين على مطالبه الكاملة، لم يحجب الصورة العامة التي أشارت إلى نوع من الموازنة بين المصالح والأهداف المطلوبة وكذلك أوراق الضغط المتبادلة من جهة، مع درجة المرونة أو التشدد التي يبديها كل طرف في الجهة المقابلة. وهو ما برز أيضا في الملفين العراقي والنووي، فقد توازى تطور الضغوط الأمريكية على طهران في الملف النووي تدريجا مع تطور الموقف الإيراني من الوضع العراقي، في. مقابل التأزم الذي شهده الملف النووي لتمسك الجانبين بموقفيهما حتى تمَّت حلحلته بتدخل أوروبي، إذ من الواضح أن الملف العراقي شهد نوعا من التعاون الضمني بين الطرفين.
ثم شهدت العلاقات مرحلة أخرى من التزامن بين تدهور الوضع الأمني في العراق والتصعيد السريع بين قوات الاحتلال الأمريكية وبعض القوى الشيعية خصوصا التابعة لمقتدى الصدر ثم حالة البلبلة التي أثارها اقتراب موعد نقل السلطة إلى العراقيين مع نهاية حزيران / يونيو 2004، مع استعادة الملف النووي الإيراني سخونته في أروقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بل ودخول أوروبا على خط المواجهة على خلاف دورها السابق الذي كان عنصر تهدئة والعامل الرئيس في قبول إيران التوقيع على البروتوكول الإضافي الملحق بمعاهدة حظر الانتشار النووي N.P.T .
رابعا: آفاق المستقبل واحتمالاته
بعد أن حصلت إيران على مكاسب مهمة من الولايات المتحدة أبرزها القضاء على النظام العراقي وتفكيك منظمة مجاهدي خلق، وقدمت في المقابل تنازلا ليس أقل أهمية في الملف النووي، محطته الأساسية توقيع بروتوكول التفتيش العاجل الملحق بمعاهدة حظر الانتشار النووي (N.P.T) وتجميد عمليات تخصيب اليورانيوم، والاضطرار إلى تلبية مطالب وإجراءات خاصة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، تشهد العلاقات الإيرانية- الأمريكية مرحلة أخرى من الصعود والهبوط المتكرر. فمن ناحية العراق المقبل على مرحلة جديدة يحتاج فيها إلى مساندة إقليمية ودولية لتحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي والأمني، وهى مسألة ذات أهمية قصوى للولايات المتحدة الأمريكية ليس بالطبع حبا في العراق ولا العراقيين، لكن لتخفيف الأعباء والحد من الخسائر البشرية في صفوف القوات الأمريكية؛ من هنا يمثل موقف إيران من الملف العراقي حجر الزاوية في نقطة الصعود أو الهبوط القادمة في العلاقات بين الدولتين، خاصة أن إيران رقم صعب في معادلات الحاضر العراقي الذي يمثل بدوره مرحلة تحضيرية للمستقبل، سواء فيما يتعلق باستتباب الأمور سياسيا للحكومة الجديدة، أو على المستوى الأمني من خلال ضبط الحدود، أو من خلال علاقات إيران القوية لدى الأوساط الشيعية سواء التي ترتبط مباشرة بطهران مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، أو بالقوى والتنظيمات الأخرى الأقل ارتباطا بإيران لكنها تظل في التحليل الأخير واقعة تحت المظلة الشيعية. ولعل هذه الأهمية المتزايدة للدور الإيراني في العراق حاليا وفى المستقبل القريب تفسّر إلى حد كبير التصعيد الأمريكي في الملف النووي.
غير أن مستقبل العلاقات بين البلدين لا يخضع لهذه الحسابات الإقليمية فقط، فمن الواضح أن العلاقات بين طهران وواشنطن تحتل حيزا مهما من الحسابات الداخلية في كلتا الدولتين بخاصة على الجانب الإيراني.فرغم أن العلاقة مع إيران تثير تباينات وأحيانا خلافات داخل دوائر صنع القرار الأمريكية إلا أنها تظل محصورة داخل نطاق م حدد بالإدارة والكونغرس، فضلا عن كونها في النهاية مجرد جزء من قضايا السياسة الخارجية التي لا تثير اهتمام المواطن الأمريكي، بينما الوضع مختلف إلى حد كبير على الجانب الإيراني، فالعلاقة مع الولايات المتحدة محل اهتمام مختلف المستويات الشعبية والقيادية.
وعلى رغم اتساع نطاق الاهتمام الإيراني بالعلاقة مع واشنطن إلا أن القرارات المصيرية في هذه السياسات الاستراتيجية ذات الصلة بالمصلحة الإيرانية العليا لا تخضع لمقتضيات الصراع الداخلي أو التباين في الرؤى حول جدوى العلاقة وأهميتها، فغالبا ما ينصب هذا التباين على المسار الثنائي للعلاقات لذا يلاحظ أنه لا يزال متعذرا وشبه مجمد تماما ، بل ومرشح لمزيد من التأجيل على ضوء استعادة المحافظين قوتهم السياسية والمؤسسية بعد نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية.أما القضايا والمسائل من شاكلة الملف العراقي أو العلاقة مع حزب الله اللبناني وغيرها، فهي تخضع لحسابات استراتيجية عملية أو بالأصح مصلحية في المقام الأول. بينما توجد بعض المسائل التي تقع في منطقة وسطى إذ تتأثر بتوازن القوى الداخلي في إيران رغم أهميتها، مثل العلاقة مع تنظيم القاعدة.
أما في الجانب الأمريكي، فالخلاف داخل هذا النطاق أكثر حدة والفجوة أكثر اتساعا عنها في إيران، بما في ذلك ما يتعلق بالقرارات المهمة والجوهرية في مسار العلاقة مع إيران، بل وفى موقعها من الاستراتيجية الإقليمية لواشنطن في المنطقة. وهو خلاف لا يقتصر على إيران فحسب، لكنه على مبدأ ونمط إدارة السياسة الخارجية الأمريكية وأدوات تحقيق أهدافها. فمن يوصفون بمجموعة الصقور في الإدارة الأمريكية يتبنون خطا متشددا يعتمد القوة بمختلف صورها وسيلة أساسية في التعامل مع القضايا الخارجية خاصة تلك التي تتعلق بدول أو موضوعات تثير هواجس أمنية أو تهدد مصالح أمريكية من وجهة نظرهم. بينما ترى مجموعة اخرى أن الوسائل الدبلوماسية ربما تكون أكثر جدوى وقبولا لدى المجتمع الدولي.ولما كانت التجربة العراقية تشير إلى أن تغليب التوجه المتشدد لم يكن خيارا سيئا خاصة أن خيار الدبلوماسية وحشد المجتمع الدولي كاد يجعل زمام الأمور يفلت من أيدي واشنطن عندما وافق الرئيس جورج بوش على اللجوء لمجلس الأمن ثم فوجئ بقبول العراق القرار 1483 على غير ما كان متوقعا.
وفي المحصلة تدرك إيران بشكل واضح إن الوجود العسكري الأمريكي في العراق سيستمر فعليا من فترة زمنية متوسطة إلى فترة طويلة الأجل، الأمر الذي يعنى في حسابات السياسة الإيرانية وضعا استراتيجيا جديدا على الجانب الغربي من مجالها الحيوي، وبالإضافة إلى الوجود الأمريكي العسكري في أفغانستان فإن طهران أصبحت محاطة بحضور عسكري أمريكي من شأنه مضاعفة القيود والأعباء المفروضة بالفعل على الحضور الإقليمي لإيران.
إن الوضع السالف الذكر سيؤثر في سلوك طهران وإدارتها للعلاقة مع واشنطن، وتدل المؤشرات على أن إيران بصدد التعاطي بمزيد من البراغماتية مع الولايات المتحدة ذلك على ضوء الاعتبارات والمعطيات المشار إليها سابقا، مع الأخذ في الاعتبار أن المسائل الناظمة للسياسة الإيرانية تجاه واشنطن تبدو متعارضة، لذا من الطبيعي أن تعالجها طهران بدرجة عالية من الحذر والتردد في آن معا، إذ ستحاول الحفاظ على معادلة صعبة تجمع فيها المرونة في الاستجابة للضغوط والتحركات الأمريكية بموازاة التشدد في متطلبات أمنها ومصالحها الذاتية.
لذا من المتوقع أن تكثف طهران اتصالاتها بفصائل المقاومة العراقية وبصفة خاصة جماعة مقتدى الصدر. على أمل أن تستثمر هذا التحرك في الحصول على إقرار أمريكي بأهمية الدور الإيراني في العراق لضبط الأوضاع والمساعدة على عدم انفلات الأمور خصوصا في مناطق الجنوب، وحيث من المنتظر أن يستمر الوجود العسكري الأمريكي لفترة طويلة في العراق فإن طهران ستأخذ هذا الطريق لضمان علاقة توافقية بين الطرفين في الشأن العراقي.مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التصور يواجه بعدة قيود داخلية وخارجية أبرزها الوضع الداخلي في إيران بعد نجاح المحافظون في الانتخابات التشريعية والرئاسية التي أعقبها تراجع في السياسة الخارجية الإيرانية عن المرونة في بعض الملفات مثل العلاقات الثنائية مع واشنطن، وكذلك العلاقة مع بعض الدول العربية. فضلا عن تأثر علاقة إيران بالفصائل الشيعية العراقية بهذا التحوّل.
كما لا ترى إيران في سلوك الإدارة الأمريكية الحالية سواء في العراق أو في منطقة الصراع العربي- الإسرائيلي، أو من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير فضلا عن المسار الثنائي للعلاقة، ما يبشر بعلاقات طيبة بين الدولتين في المستقبل القريب، إذ أن مواقف الإدارة الأمريكية بوجه عام، تشكل قيودا إضافية على احتمالات حدوث تحسن في العلاقات أو على الأقل تعليق الموقف المتوتر بينهما وتأجيل الملفات والقضايا العالقة إلى بعض الوقت، فالعودة إلى تقليب صفحات الملف النووي والتربص الذي يغلب على التوجه الأمريكي الحالي نحو طهران، فضلا عن التحريض المستمر من جانب إسرائيل، والتصورات الأمريكية الجديدة لما يجب أن يكون عليه شكل وجوهر منطقة الشرق الأوسط، كل هذه المعطيات تشكل مؤشرات مقلقة لإيران نحو مستقبل علاقاتها مع واشنطن.
إن أطرف توصيف يمكن أن يطلق على العلاقات الإيرانية الأمريكية تشبيهها بطرفي المقص،فعلى الرغم من أنهما مرتبطان ومتقاطعان على مصلحة قص ما يعترض سبيلهما ،فإن مجرد التقائها سيكون مناسبة لافتراقها،وهنا تكمن قوة المقص وفعاليته،فهل إن مصلحة الدولتين تكمن في التقائها وافتراقها الدائم على تقاطع المصالح الإقليمية في المنطقة؟ّسؤال يحتاج للكثير من التفكر قبل الإجابة عليه.