16‏/02‏/2008

باكستان الفوضى بلا نظير

باكستان الفوضى بلا نظير
د. خليل حسين
استاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني


إذا كان قدر الدول النامية السباحة في دماء أبنائها لسبب أو لآخر، فإن ما حصل في باكستان من اغتيال لرئيسة حزب الشعب بينظير بوتو لم يشكل استثناء في الحياة السياسية الباكستانية. فباكستان، التي تبدو غريبة في أنماط التاريخ والجغرافيا للدول وطبيعتها، ظهرت كبيئة ومرتعاً لافتاً لعمليات الاغتيال السياسي في تاريخها القريب كما البعيد، واللافت أيضاً في هذا السياق، أن اغتيال بوتو أتى في سياق تصفية عائلة سياسية حكمت البلاد، وكانت محط تجاذب سياسي داخلي وخارجي ما يعطي العملية أبعاداً تتخطى الواقع السياسي الداخلي ليشمل تداعيات إقليمية وربما دولية، ذلك للعديد من الاعتبارات، فما هذه التداعيات؟ وما آثارها؟ وهل للباكستان قدرة على تجاوز هذهالمحنة؟
في الوقائع توّجت عملية الاغتيال نهاية شبه محتّمة لعائلة سياسية حكمت باكستان وتركت أثراً سياسياً لافتاً، فقبل بينظير كان ذو الفقار الأب الذي أعدم شنقاً ولحقه أيضاً ولداه اغتيالاً بالرصاص ودسّاً بالسم، وبذلك اقفل الباب على عائلة ربما لن تجد من يخلفها بالإرث السياسي المتمثل بقيادة حزب الشعب، ما سيترك أولاً وأخيراً فراغاً من الصعب ملؤه في الحزب، الذي يواجه مجموعة تحديات داخلية على مستوى القيادة التي ستنتقل إلى الصف الثاني، ما سيؤثر بدوره في التركيبة السياسية الحاكمة، ومن الطبيعي أن يمر وقت ليس بقصير ليستعيد الحزب مكانته المعهودة.
داخلياً أيضاً، يطرح السؤال عن مصير الانتخابات المقررة وإذا كانت ستجرى في مواعيدها، والأكيد أن الاغتيال سيطيح بهذا الاستحقاق إلى اجل ربما يطول، أو على الأقل نتائجه لن تكون مقروءة بشكل واضح، فعملية الاغتيال أتت في الأساس على قاعدة ما طرح في الحملات الانتخابية للأحزاب ومن بينها حزب الشعب الذي رفع محاربة الإرهاب عنواناً رئيسياً لحملته، وبصرف النظر عما يروّج من علاقة بين هذا العنوان والاغتيال فإن الانتخابات القادمة وان تمّت بظروف مؤاتية لن تكون نتائجها طبيعية لبلد شهد تقلبات دراماتيكية لا علاقة لها بموازين القوى الحزبية الداخلية.
وطبيعي أن يكون الاتهام المبكر بالاغتيال لجهة ما أمراً كالضرب بالميت، باعتبار أن المستفيدين في هذه الحالة هم كُثر، من جهات داخلية حاكمة أو معارضة أيضاً، أو من جهات إسلامية متطرفة، إلى مستفيدين خارجيين، سيما وان القراءة الأولية للاغتيال كانت متباينة، بل متناقضة لجهة الكيفية والجهة وغيرهما، وفي ظل تهميش الحياة القضائية في باكستان من قبل السلطات الرسمية فإن مجموعة من الأسئلة الإضافية ستطرح بالتأكيد وستكون لها تداعياتها أيضا، من بينها هل إن السلطة القضائية الوطنية لها القدرة والامكانات للوصول بالتحقيق إلى أماكن محددة تكشف الجناة وتدينهم؟ أم أن البيئة القضائية فيها من الفجوات ما يتيح طرح القضاء الدولي للمضي في عمليات التحقيق، وبالتالي بداية تدويل الأزمات الداخلية وما سيعقبهامن آثار سلبية على طبيعة النظام ومدى استقراره مستقبلاً؟
وبالانتقال إلى الأبعاد الداخلية ذات الصلة الإقليمية والدولية، ثمة ملف البرنامج النووي الباكستاني وما يحيط به من مخاوف في ظل حديث دائم ومستمر وواضح حول تنامي الجماعات الإسلامية المتطرفة وعدم قدرة النظام على لجمها أو احتوائها، ما طرح أسئلة إضافية حرجة على حكم برويز مشرف، وفي طليعتها البرنامج النووي وقدرة الإسلاميين المتطرفين على وضع اليد عليه في حال أفلتت الأمور من عقالها. وطبيعي أن لا أجوبة محددة حول هذه الأسئلة الملحة إقليمياً ودولياً، الأمر الذي يجعل من القوى الدولية جادة في فتح هذا الملف على مصراعيه والمضي فيه إلى خواتيمه.
علاوة على ذلك فإن وضع باكستان الجيوسياسي سيزيد الأمر تعقيداً وسط أزمات إقليمية حادة، بدءاً بالجار الأقرب أفغانستان مروراً بإيران والعراق وصولاً إلى فلسطين ولبنان، وكلها مناطق ذات طبيعة بركانية قابلة للانفجار السياسي والأمني، الأمر الذي يحتم المتابعة الدقيقة للوضع الداخلي من قبل الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة وفقاً لمصالح كل جهة واللاعبين الأساسيين.
وفي مطلق الأحوال فإن الوضع الداخلي في باكستان وما يحيط به من أزمات سياسية حادة تصل إلى مستويات ألازمات الوطنية، معطوفة على صراعات مذهبية وإثنية وقومية، تجعل هذا البلد الإسلامي النووي في مهب التجاذبات التي من الممكن أن تعيد رسم الجغرافيا السياسية فيه ببساطة، وتجعله بلداً مكشوف الأمن كما السياسة والاقتصاد. فكما كانت الولادة القيصرية ونموه التكنولوجي غير الطبيعي في نطاق التسلح غير التقليدي فإن مساره يمكن أن يكون دراماتيكياً أقله في الوضع الداخلي، حيث البيئة مهيأة لجميع أنواع السيناريوهات من فوضى خلاقة إلى هدامة، لكن الأكيد أن عملية الاغتيال وضعت باكستان على مشرحة دولية لن يكون للباكستانيين أنفسهم دور فاعل في تقرير مصيرهم.
قبل ثلاث سنوات إلا نيفاً اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في خضم استحقاقات داخلية لبنانية وإقليمية، وكرّت السُبحة فيه وحوله، واليوم اغتيلت رئيسة وزراء باكستان السابقة بينظير بوتو والأجواء الداخلية والخارجية مهيأة لكثير من التداعيات أيضاً، فهل ثمة تشابه في الأهداف والخلفيات الإقليمية والدولية؟ ثمة كثير من مظاهر التشابه الداخلي والكثير من الاستهدافات الخارجية، فهل ستعمُّ الفوضى الخلاقة باكستان وتنتشر كالنار في الهشيم لتصل إلى لبنان؟ ومهما يكن من أمر الاغتيال وأبعاده وخلفياته، فإن باكستان بلا بينظير، ستكون مترافقة مع فوضى بلا نظير لها.