16‏/02‏/2008

القرار 1559 والعلاقات الفرنسية - السورية


القرار 1559 والعلاقات الفرنسية - السورية

د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني

رغم خصوصية المواقف الفرنسية من القضايا المتعلقة بالصراع العربي - الاسرائيلي والتي تميزت بشكل عام عن مواقف الدول الكبرى المؤثرة في هذه القضايا، ظلت العلاقات الفرنسية - السورية تتسم بالعديد من علامات الاستفهام للعديد من الاعتبارات المتعلقة اساسا بالوضع اللبناني بشكل خاص لا سيما منذ منتصف السبعينيات،وعلى الرغم من تداخل العديد من المسائل لجهة التأثير في مستوى العلاقة، الا ان القرار 1559 سيشكل علامة فارقة في مستوى العلاقات وبخاصة في المدى المنظور.
فالقرار وان اتى في سياق تناول استحقاق لبناني داخلي وهو امر مخالف لميثاق الامم المتحدة، فإن في مضمونه ما يكفي للإشارة الى نوعية العلاقات بين باريس ودمشق وما يمكن ان يؤثر الاسلوب الفرنسي في التعاطي مع بعض القضايا اللبنانية الحساسة،وهذا امر معروف بدقة لدى اصحاب القرار في السياسة الخارجية الفرنسية.
لقد شهدت العلاقات الفرنسية - السورية على مر العقود السابقة بفترات متأزمة في اللغة الديبلوماسية،وبخاصة بعد انتهاء الانتداب واستقلال سوريا،وعلى الرغم من التوجس الذي ظهر في مستوى العلاقات بين البلدين نتيجة بعض المواقف المتعلقة بالمواضيع الاستراتيجية لكلا البلدين، فان محاولات كثيرة بذلت من جانب الطرفين لاحتواء ما يمكن ان تنشأ من ازمات تؤثر على بنية العلاقات التي كان الطرفان بحاجة لأن تكون مقبولة ان لم تكن جيدة.وفي واقع الأمر ونتيجة لهذه الحاجة بذلت كل من دمشق وباريس جهودا اضافية لتقريب المسافة،اذ سعى الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى التقدم باتجاه سوريا على قاعدة معرفته التامة والدقيقة ان مدخل المشرق العربي هو عبر دمشق،وان الموقع السوري في الخريطة الجيو- سياسية للمنطقة لا يمكن تجاهله،ومن هنا كانت الديبلوماسية الفرنسية جادة بترجمة هذا الواقع؛ وفي المقابل لم تكن الديبلوماسية السورية اساسا بعيدة عن استثمار هذه الحاجة الفرنسية، ولذلك ايضا لم تكن زيارة الدولة للرئيس الراحل حافظ الاسد الى باريس بعيدة عن هذا السياق اذ ان المعروف عن زياراته الخارجية لبعض الدول تتسم بالاستثمار الدقيق للقضايا الاستراتيجية المتعلقة بالقضايا العربية وليست السورية فقط،ومن هنا عدم زيارته لواشنطن مثلا مفضلا لقاء الرئيس الامريكي في جنيف مثلا،ومن ثم اسقباله في دمشق لاحقا.وكما في الماضي كذلك ينسحب الامر نفسه على سياسة الرئيس السوري بشار الاسد في القضايا الاستراتيجية العربية،الذي لبى دعوة زيارة دولة لفرنسا وهي الاولى له لدولة اجنبية لما لذلك من دلالات من كلا الجانبين الحرص على تمتين العلاقات وايجاد السبل الآيلة لتذليل بعض التباين في بعض الملفات.فما الذي حصل مؤخرا من مستجدات الامر الذي حدا بالديبلوماسية الفرنسية الى اتخاذ مواقف حادة بعيدة كل البعد عن المواقف المعتادة والتي ظهرت بنتيجتها تمرير القرار 1559 في مجلس الامن.
ان التدقيق في الظروف الاقليمية للمنطقة تظهر العديد من الاسباب التي جعلت فرنسا تأخذ منحى مغايرا،ويمكن تسجيل العديد من الامور اهمها:
- ان حراجة الوضع الامريكي في العراق معطوفا على المسألة الانتخابية الرئاسية لجورج بوش ،قد هيأ الاجواء الدولية المناسبة لجر بعض الدول لا سيما الفرنسية لاستصدار مثل هذا القرار، وبخاصة ان مشروع القرار هو نتاج فرنسي تلقفته الادارة الامريكية بشغف لاستثماره بأشكال عدة،لا سيما وان فرنسا التي تشعر نفسها بأنها مستبعدة عن مسرح الاحداث ونتائجها،رأت ان من مصلحتها المضي في اقرار المشروع رغم التباين مع الادارة الامريكية في بعض تفاصيله.
- ان تقاطع المصلحتين الفرنسية – الامريكية في الاستحقاق الرئاسي اللبناني لا يعني بالضرورة ان الموضوع اللبناني هو المستهدف،اذ يبقى لبنان في هذه المرحلة امرا ثانويا بالنسبة للادارة الامريكية ، لكنه مدخلا مهما للسياسة الفرنسية في المشرق العربي،بصرف النظر عما ستؤول اليه الاوضاع مع دمشق،وبخاصة اذا رأت باريس ان التصعيد في المواقف من البوابة اللبنانية في ظل الضغوط الدولية على سوريا سيحقق لها مكاسب استراتيجية بنظرها.
- ان الاعتراض الفرنسي عما جرى للعراق وما يجري حاليا ولو من حيث الاسلوب،ابعد باريس الى حد كبير عن منطقة حيوية تعتبر مفصلا اساسيا لتنظيم وترتيب وتركيز مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي تؤسسه واشنطن كمشروع بديل قديم جديد عن مشروع ملء الفراغ الذي مشت فيه واشنطن في الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الثانية والعدوان الثلالثي على مصر في العام 1956 والذي تمّ فيه استبعاد كل من فرنسا وبريطانبا،لذا يبدو ان الموقف الفرنسي الحالي يعتبر من باب التحسّب للنتائج السياسية والاقتصادية المحتملة للمشروع الامريكي، وهنا تبدو نقطة التقاطع الفرنسية -الامريكية الثانية.
- ان الملف النووي الايراني في مساره الاوروبي المختلف نوعا ما مع المسار الامريكي – الاسرائلي،يعتبر احد العوامل والمستجدات التي جعلت السياسة الفرنسية تأخذ منعطفا جديدا لما لهذا الملف من تداعيات على جوهر الصراع العربي – الاسرائيلي ودور سوريا فيه،ومن هنا يبدو التقاطع الفرنسي الامريكي الثالث لجهة التأثير في التحالفات القائمة في المنطقة لا سيما العلاقات الايرانية – السورية وبالتالي اللبنانية.
وفي مقابل تلك المتغيرات التي أثرت في العلاقات الفرنسية –السورية، ما هو الموقف الفرنسي في القرار 1559 في صياغته الديبلوماسية التي برأينا ابقت الى حد كبير صيغة مشروع القرار .فعلى الرغم من التعديلات التي جرت بضغط فرنسي - وهي بطبيعة الامر مفارقة اخرى في الرغبة الفرنسية للعلاقة مع دمشق لاحقا- حافظت نصوص القرار على الرغبة الامريكية بالتشدد حيال سوريا،مع حذف التعابير الواضحة واستبدالها بعبارت ومصطلحات يسهل التأويل والاجتهاد فيها،فعلى سبيل المثال،سيادة لبنان وحريته واستقلاله هي عبارات مألوفة وردت في القرار 425 مرورا يسلسلة القرارات اللاحقة وصولا الى القرار520 و1559 ولا تختلف من حيث الشكل في أي منها. فيما استبدال عبارة خروج القوات السورية من لبنان بخروج القوات الاجنبية ظاهرها خروج القوات السورية والاسرائيئلية وغيرها، انما في المضمون لا تعني هذه العبارة انسحاب القوات الاسرائيلية من مزارع شبعا مثلا،باعتبار ان مجلس الامن اعتبر ان القرار 425 قد طبق من الجانب الاسرائيلي بانسحابها في 25 ايار 2000 من لبنان؛ اما الفقرة المتعلقة بمهلة الثلاثين يوما لتطبيق ما جاء في متن القرار،فعلى الرغم من انها عبارة روتينية تظهر في جميع قرارات مجلس الامن للمتابعة ، الا ان ما جرى من مداولات في شأن هذه القرار تحديدا قد اعطت هذه الفقرة بعدا تفسيريا مغايرا هو اقرب الى الدعوة للتطبيق ضمن المراقبة من جهة واتاحة المجال للاطراف المعنيين الولوج في مسارات تفاوضية حول ملفات ليس لجوهر القرار علاقة بها كملفات المنطقة بدءا من الملف العراقي وصولا الى ملف الصراع العربي – الاسرائيلي من جهة اخرى، اضافة الى ترك المجال امام الصلج اذا كان له مطرح بين كل من دمشق وباريس وواشنطن.
ومن كل ذلك تظهر الرغبة الفرنسية الواضحة في ابقاء العلاقة مع دمشق في خانة عدم الاصطدام،أي في اطار سياسة حفة الهاوية التي كثيرا ما تشهد زلات قاتلة من الصعب تصحيحها بسهولة بدون ترك ظلال كثيفة تمتد لفترات طويلة.
واذا كانت الامور تبدو بهذه الصور المعقدة كيف تقرأ دمشق الرسالة الفرنسية - الامريكية في القرار 1559 وما هي تداعياته في العلاقة مع باريس تحديدا؟.في الواقع لا ترى دمشق صيغة القرار وظروفه خارجة عن سياق الضغوط الامريكية - الاسرائيلية المتزايدة في هذه الفترة،رغم موقف وزير الخارجية فاروق الشرع الداعي الى قراءة القرار قراءة موضوعية خارجة عن اطار التهويل والوعيد،وهذا ما تعودت عليه واقعا الديبلوماسية السورية المتسمة بالهدوء وببعد النظر في معالجة القضايا الحساسة والتي تمكنت من خلالها تخطي الكثير من الافخاخ خلال العقود الثلاثة الماضية.
وعلى الرغم من ذلك فان القراءة الموضوعية للقرار لا يمكن فصلها عن الكثير من القضايا المتعلقة بسياسة سوريا الخارجية لا سيما في الملفين العراقي والصراع العربي – الاسرائيلي ،كما في الملف اللبناني.ومن هنا تبدو الصورة اكثر تعقيدا من سلة المطالب القديمة الجديدة التي قدمتها واشنطن لدمشق في اعقاب زيارة كولن باول الى دمشق بعد الغزو الامريكي للعراق.وفي هذا المجال يشكل الهم الامريكي - الاسرائيلي المشترك ابعاد كل من دمشق وايران عن أي بُعد او تأثير في الملف العراقي،وهذا ما سعت اليه واشطن تحديدا في ثنايا القرار 1546 القاضي بنقل السيادة من قوات الاحتلال الى العراقيين ممثلة بالحكومة الانتقالية، وبنظرنا لا يمكن فصل ما جاء في القرار المذكور 1546 و1559 لناحية المضمون.
اضافة الى ذلك يشكل القرار 1559 من البوابة اللبنانية تذكيرا بالقانون الامريكي لمحاسبة سوريا وامكانية وضعه موضع التنفيذ من خلال مجلس الامن الدولي في حال عدم الاستجابة السورية لبعض المطالب والتي ليست بالضرورة كما جاءت في نص القرار انما في ملفات مغايرة.كما ان الدعوة غير الصريحة لخروج قواتها من لبنان وهي قوات موجودة بموجب معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق ،امر من شأنه الدعوة لحياد لبنان عن الصراع العربي- الاسرئيلي وهو امر مستحيل نظرا لبقاء قسم من اراضيه محتلة من قبل اسرائيل وثانيا لطبيعة المعاهدة مع سوريا،أي بمعنى آخر الدعوة لترك الابواب اللبنانية مشرعة امام اسرائيل لتكرار تجربة 1982 وما اعقبها من اتفاق 17 ايار 1983 مع اسرائيل.وفيما يختص بنزع سلاح المليشيات اللبنانية وغير اللبنانية،فهي بطبيعة الامر الدعوة الى نزع سلاح المقاومة في ظل الاحتلال الاسرائيلي لمزارع شبعا اولا،والدعوة الى الدخول للمخيمات الفلسطينية ثانيا وهذا ما سيشكل في كلا الحالتين مشروع ضرب للوحدة الوطنية اللبنانية، وبالتالي ضرب السلم الاهلي فيه.كما ان الدعوة لنشر الجيش اللبناني على الحدود مع فلسطين المحتلة وهو في الاساس موجود، لا يعني كما جاء في القرار بسطا لسيادة الدولة اللبنانية على اراضيها بقدر ما هو مشروع حماية لاسرائل قبل أي شيء آخر.فهل يمكن لسوريا الموافقة على كل تلك النوايا المبيتة في نص القرار؟وهل يمكن تفسير او تبرير الموقف الفرنسي للتهج المتبع في القرار 1559، يبدو ذلك صعبا على كلا من دمشق وباريس.
لقد جاء القرار على ما يبدو في نقطة تحول في السياسة الخارجية الفرنسية،الا ان نجاح هذه السياسة في الوصول الى مبتغاها امر مشكوك،سيما وان المعلن والمبطن في هذه السياسة متناقضان تماما،فاذا كانت فرنسا تحرص على الديموقراطية اللبنانية كما هو معلن،فليس القرار هو الطريق الصحيح فبالنهاية ان الاستحقاق الرئاسي اللبناني هو شأن داخلي محض ولا يجوز التدخل فيه بموجب الفقرتين الثانية والسابعة من المادة الثانية لميثاق الامم المتحدة؛واذا كان التحول في السياسة الخارجية الفرنسية مبني على حسابات المصالح بين واشنطن وباريس فالبوابة اللبنانية هي اضيق مما يتصور لاستغلالها في حسابات المصالح الدولية والتجارب كثيرة في هذا المجال ولا داعي لذكرها
ان ما تطالب به تل ابيب وواشنطن عبر باريس وبالقرار 1559 من سوريا امور تمس لبنان وسوريا معا، وبالتالي ان تنفيذ ما جاء في القرار في هذه الفترة المحددة وخارج اطار الحل الشامل للنزاع العربي- الاسرائيلي امر شبه مستحيل،لذلك من المفترض التعامل مع مجمل هذه القضايا بروية تامة من كل الاطراف المعنيين،اذ ان ظروف المنطقة دقيقة جدا ومن السهل انفجارها في ظل المأزق الاسرائيلي الداخلي ومحاولته الدائمة الهروب الى الامام عبر تصدير ازماته.
لقد دأبت السياسة الخارجية الفرنسية في اغلب الظروف على مسادة الحقوق المشروعة للشعوب المغلوبة على امرها ومن بينها القضايا العربية،وظلت دائما قبلة ومنارة للحرية فلماذا تتخلى فرنسا عن هذا الدور الريادي، ولماذا نحن العرب لا نتقدم الخطوات اللازمة تجاها للاستفادة من مواقفها المألوفة في السابق؟.اسئلة كبيرة يجب البحث عن حل لها.
ان متاانة العلاقات الفرنسية – السورية ووضوحها هي المقياس الصحيح لطريق المصالح الفرنسية في المنطقة،فلا زالت سوريا موقعا عربيا مؤثرا قابل للحوار والعطاء في منطقة قابلة للاشتعال، فهل تراجع قرنسا سياساتها قبل مهلة الثلاثين يوما لتظل قبلة لطالبي الحرية كما ارادت هي نفسها في تمثال الحرية الذي اهدته لاميركا .