13‏/02‏/2008

شروط التفاوض في عملية المقاومة اللبنانية


شروط التفاوض في عملية المقاومة اللبنانية
وآفاقها المستقبلية
د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني

بعدما قررت القيادة السياسية الإسرائيلية تصعيد عملياتها في لبنان استجابة لتوصيات القيادة العسكرية، يبدو أن الأمور ستتخذ اتجاهات أخرى، فلم تعد المسألة مجرد رد على عملية نوعية لأسر جنود إسرائيليين بهدف المقايضة بأسرى لبنانيين، وإنما توسّعت الأهداف والطموحات لتصل إلى خلفيات استراتيجية عجزت عنها في تاريخ الصراع مع حزب الله تحديدا،فماذا في السقف السياسي لحزب الله؟وما هي حدود الاستجابات الإسرائيلية المحتملة؟وهل هناك من أفق سياسي واضح في هذه العملية؟.
في موقف حزب الله المعلن على لسان أمينه العام يمكن رسم حدود متحركة لأهداف العملية،وهي ليست بالضرورة محددة وجامدة بل يمكن النظر أليها على أنها قابلة للمد والجزر بحسب ظروف التفاوض وما يحيط به من نتائج محتملة على الأرض.فالسيد حسن نصرالله أطلق عدة مواقف وشروط تبدو في ظاهرها محددة إلا أن التدقيق في بعضها تحمل ملامح التأويل وهو أمر طبيعي في معركة هدفها الرئيس أولا وأخيرا فتح قناة مفاوضات بصرف النظر عن حجم النجاحات لكلا الفريقين فيها.ويمكن تسجيل العديد من الملاحظات في هذا الإطار أبرزها:
- رغم الصيد الثمين المحقق بأسر جنديين إسرائيليين وبصرف النظر إن كانا لا يزالان على قيد الحياة أم لا،فان السقف الذي أطلقة السيد حسن نصرالله يبدو منخفضا قياسا على السوابق الأخرى.فهو اشترط المفاوضات غير المباشرة والتبادل وأنهاها بالسلام،والمقصود هنا نقطة على السطر أي بمعنى أن لا شروط يمكن أن تضاف أو مطالب يمكن أن تطرح.فالتحديد هنا الوسيلة والهدف المحدد بعينه.
- لقد بدا الخطاب السياسي للأمين العام مدروسا بدقة متناهية،فعلى الرغم من ثقل وحجم المكسب من اسر الجنديين،لم تكن اللهجة تصعيدية،بل كانت متوازنة وهادئة في آن معا،بمعنى أن الحزب هدف إلى عملية التبادل لا إلى توتير أجواء المنطقة وخلق فرصا للتصعيد الإسرائيلي؛مترافقا مع الإعلان الصريح بأن الحزب جاهز للخيارات الأخرى ومنها المواجهة إذا أرادتها إسرائيل ذلك بلغة حازمة وجازمة من دون تردد أو إعطاء فرصا لتأويل الموقف.
- إن استناد المواقف المطلقة إلى السوابق الماضية في المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والحزب هدفت بشكل أساسي لتذكير القيادة الإسرائيلية بالنفس الطويل للحزب ومقدرته على الوصول إلى ما يريد ولو بعد حين،فعمليات تفاوض الأسرى السابقة مرت بظروف معقدة جدا وتمكَّن حزب الله من تحقيق مكاسب لافتة،وسط إتقان مهني رفيع لأساليب التفاوض والتي مكنته في بعض المرات إحراز نتائج سياسية إضافة إلى النتائج ذات الصلة بالأسرى أو غيرها من المطالب التكتية التفصيلية.
- إن التهديد بمفاجآت غير متوقعة في حال صعَّدت إسرائيل مواقفها لم يكن من باب التهويل أو إطلاق المواقف غير المدروسة،إذ أن خيارات الحزب كانت متنوعة على ما يبدو وما إطلاق صاروخ "رعد 1 " إلا دليلا على ذلك بهدف خلق معادلة جديدة في إطار المواجهات القائمة،ولو أن إطلاقه تمَّ متأخرا نسبيا مقارنة مع حجم واستهدافات إسرائيل للبنية التحتية اللبنانية.
- وما يعزز هذا الاحتمال السالف الذكر ما تقصَّده الأمين العام للحزب من إطلاق مواقفه قبل اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر بثلاث ساعات،بهدف تحديد الخيارات والمسير بها وفقا للتطورات الميدانية اللاحقة.
في المقلب اللبناني الآخر إذا جاز التعبير وتحديدا في الموقفين الرسمي والسياسي العام يمكن رصد العديد من الملاحظات منها:
- ثمة تباين واضح في الموقف الرسمي لمجلس الوزراء مع الإطار العام الذي رسمه الحزب لهذه العملية.ففي المحصلة لم يتبن المجلس ما حدث وهي سابقة في تاريخ العلاقة بين الحزب والموقف الرسمي للحكومة.وعلى الرغم من الجهد الذي أعطيَّ لصياغة المقررات ظهرت وكأنها محاولة للنأي بالنفس عن النتائج المحتملة للعملية برمتها،على قاعدة أن الحكومة لم تعرف مسبقا بالعملية وبالتالي لم تتبناها وبالمحصلة ليست مسؤولة.
- لم تكن مواقف وزراء حركة آمل وحزب الله من مقررات مجلس الوزراء متشددة قياسا على حجم المواقف السابقة ذات الصلة بعمل المقاومة.فوزيرا حزب الله رفضا المقررات تدوينا فيما تحفظ وزراء أمل تدوينا أيضا.ذلك يدل على قراءة دقيقة لحراجة ودقة الوضعين الداخلي والإقليمي وعدم قدرتهما على تحمل أي موقف متشدد من الحزب والحركة كما جرى في السابق إبان مرحلة مقاطعة جلسات مجلس الوزراء.
- ثمة مواقف سياسية برزت تميِّز بين الحق في المقاومة وشرعية هذه العملية بالذات،والتخوّف من التوسّع في استثماراتها السياسية لاحقا وانعكاساتها على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي اللبنانيين.
أما في الجانب الإسرائيلي فقد بدا الأمر مختلفا هذه المرة وكأن إسرائيل كانت تنتظر هذه الفرصة لتغيير قواعد اللعبة مع حزب الله والحكومة اللبنانية إذ لم يكن بالإمكان القول محاولة نسف العملية من أساسها وفرض شروط جديدة دأبت على محاولة فرضها منذ عقود،وفي هذا الإطار نبرز المواقف التالية:
- منذ اللحظة الأولى للعملية حاولت القوات الإسرائيلية التمدد ولو بشكل محدود في الأراضي اللبنانية بهدف محاولة استرجاع الأسيرين،ويبدو أن هذا السلوك ينم عن دقة القراءة الإسرائيلية لأبعاد التفجيرات الواسعة،إلا أن فشل التمدد المحدود اجبر إسرائيل على سلوك خيارات التصعيد واسع النطاق جغرافيا ونوعيا لجهة ألاماكن أو المواقع المستهدفة.
- كان واضحا جدا أن مقررات مجلس الوزراء الإسرائيلي سيتخذ مواقف استثنائية مغايرة للمواقف السابقة،وفي هذه المرة لم يحيِّد الحكومة اللبنانية بل اعتبرها طرفا في النزاع رغم موقفها من عدم التبني ودعوتها للمفاوضات عبر الأمم المتحدة،وكذلك الأمر نفسه للجيش اللبناني الذي قُصفت بعض مواقعه أيضا.
- كما أن الإجراءات العسكرية التي اعتمدتها إسرائيل تنم عن عدة خيارات ستسلكها وفقا لتطورات الأحداث على الأرض،فهي أولا هددت باللجوء إلى التصفية الجسدية لقيادات المقاومة،وثانيا بدأت بأسلوب تقطيع أوصال المناطق اللبنانية،وثالثا التمهيد لاجتياحات محتملة واسعة النطاق لإبعاد الحزب عن الحدود الدولية.
- ثمة شروط إسرائيلية واضحة تخطت المطالبة بالإفراج الفوري عن الأسيرين منها إبعاد الحزب عن مواقعه في الجنوب اللبناني ومطالبة الحكومة اللبنانية بتجريد سلاحه،وهذا ما يذكر بسلسلة الاجتياحات التي نفذتها في الأعوام 1978 و 1982 و 1993 و 1996 ضد الأراضي اللبنانية.
وإذا كانت هذه المواقف والشروط بمختلف مواقعها وتوجهاتها وأهدافها ما هي النتائج الأولية لهذه العملية وآفاقها المستقبلية؟
لقد حدد حزب الله سقف شروطه وسار فيها دون تردد،فوضعه الداخلي لا يسمح له بالتراجع عنها وهي بطبيعة الأمر تُصنف في حدودها الدنيا.فهو محق في قضية استرجاع الأسرى، إضافة إلى ما يمكن أن يتأتى من هذه العملية من نتائج؛فالفشل ممنوع باعتباره سيؤدي إلى فقدانه اغلب أوراقه الاستراتيجية غير القابلة للتفاوض عليها ومنها السلاح واستراتيجية الدفاع في مواجهة إسرائيل،وعليه فإن المسألة بالنسبة إليه قضية حياة أو موت.فهي علة الوجود والاستمرار السياسي والعسكري.
إسرائيليا تعتبر هذه العملية فرصة هامة لرئيس الوزراء الإسرائيلي في تكريس زعامته السياسية بعد وراثته السياسية لشارون.فأولمرت الآتي على أمجاد حزب العمل والليكود لن يترك هذه الفرصة تمر من دون اخذ دوره أيضا في تسجيل الانتصارات الوهمية التي حققها أسلافه في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.كما سيسعى أيضا بكل ثقله السياسي والعسكري لعدم تسجيل سابقة تبادل الأسرى مع الفلسطينيين وحزب الله معا؛فإن نجحت مع حزب الله ستكون مناسبة قوية لتعزيز أوراق المنظمات الفلسطينية في عملياتها التفاوضية اللاحقة.
صحيح أن حزب الله سجَّل نصرا ساحقا في اسر الجنديين الإسرائيليين،وصحيحا أيضا أن إسرائيل تمكَّنت حتى الآن من تسجيل نصر وهمي على لبنان بقصفها وتدمير بناه التحتية،إلا أن المعركة من الناحية العملية والواقعية تبدو في أولها ومن المبكر قراءة النتائج النهائية لها،فما هو احتمالات المستقبل وآفاقه؟.
في المبدأ بات الأسرى اللبنانيون على قاب قوسين أو أدنى من الحرية وهي مسألة وقت ليس إلا،وقد عوَّدتنا إسرائيل على رفض مبدأ التفاوض ثم ما تلبث أن تلهث وراءه بحكم طبيعة الصراع أي بين مقاومة ودولة،فالتجارب السابقة أثبتت وتثبت أيضا تمكن حزب الله من تسجيل الكثير من النقاط ذات الصلة بهذا الموضوع.
وعلى الرغم من صعوبة المسالك التي ستمر بها هذه القضية فيبدو أنها حاليا تمر في مرحلة سياسة حفة الهاوية لكل الإطراف بمن فيهم الإقليميين الآخرين كسوريا وإيران،وهما بطبيعة الأمر رُبطا بهذا الملف من الناحية العملية والواقعية اقله من وجهة النظر الإسرائيلية الأمريكية.فواشنطن المتعثرة في ملف البرنامج النووي الإيراني ومشاكلها التي لا تعد ولا تحصى في العراق ستكون مناسبة لها في إقحام طهران وسوريا في نتائج هذه العملية ومساراتها املأ في تحقيق مكسب اقله تخفيف الضغوط من جهة ومحاولة رسم اطر التعامل مستقبلا مع مشروع الشرق الأوسط الكبير المتعثر بفعل الممانعة السورية والإيرانية.
إسرائيليا وان كانت ترفض التفاوض علنا فهي عمليا تبحث عنه بشروط معينة، ولذلك لن تقبل بالتفاوض غير المباشر إلا بعد تحقيق إنجازات ولو كانت وهمية على الأرض تعطي الانطباع بأن القوة الإسرائيلية لا تهزم،وبالتالي على جميع الإطراف الانصياع لشروطها.عنوة،لذا في المرحلة المنظورة لن تسمح بأي شرط لوقف إطلاق النار قبل تكريس هذه الإيحاءات.
يبقى موقف الحكومة اللبنانية الحائرة بين محاولة التوفيق بين منطق المقاومة والدولة ،عاجزة في التأثير على أي موقف من مواقف الأطراف الفاعلة في الأزمة،وفي أحسن الأحوال ستصبح فصيلا من فصائل الأمم المتحدة تعد وتسجل الاعتداءات الإسرائيلية.وسط صرخات بعض إطرافها بأن الوضع الاقتصادي اللبناني لن يتحمل مثل تلك العمليات؛إلا أن المأساة الكبرى أن شرخا كبيرا بات واضحا في صفوف المجتمع اللبناني حول شرعية وأسلوب عمل المقاومة.
إن المستقبل القريب ينذر بتحولات دراماتيكية من الصعب على جميع الإطراف التحكم بمساراته أو احتواء نتائجه وآثاره،فمن المعروف أن أي قوة تستطيع بدء أية معركة تريد، لكنها في غالب الأحيان تعجز عن التحكم بنهاياتها.فهل استطاع حزب الله تسجيل الهدف الذهبي في المرمى الإسرائيلي ؟ آم هناك وقت مستقطع ستحاول إسرائيل فرضه لتعديل النتيجة؟ غالبا ما تنتهي المنازلات الكبيرة بضربات الجزاء،غير أنها لا تعكس طبيعة حجم وقوة المنازلات بقدر ما هي ضربات حظ تعتمد على رباطة الجأش والتصميم والعزيمة وهذا ما تتمتع به عادة قوى المقاومة في أي موقع وأي بلد تتواجد فيهّ!.