17‏/02‏/2008

محكمة العدل الدولية ومزارع شبعا

محكمة العدل الدولية ومزارع شبعا
دراسة قدمت إلى مؤتمر الحوار الوطني اللبناني
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب

كثر الحديث مؤخرا عن الطرق الممكنة لتحديد ملكية مزارع شبعا وبالتالي لمن السيادة عليها،وقد طرح البعض اللجوء إلى محكمة العدل الدولية كأحد الخيارات الدبلوماسية فيما طرح البعض الآخر الاحتذاء بنموذج منطقة طابا في صحراء سيناء كوسيلة للاسترداد،وفي كلا الحالتين ثمة عقبات جمة إن لم يكن استحالة اللجوء إليها.فما هي محكمة العدل الدولية وحدود اختصاصاتها وإحكامها؟وهل يمكن اللجوء إليها في مثل هذه الحالة لترسيم الحدود؟وما هي حقيقة الخيار الآخر وأبعاده وخلفياته؟.
أولا: في محكمة العدل الدولية
تعتبر محكمة العدل الدولية الهيئة القضائية الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة،وقد استمد نظامها الخاص من النظام الأساسي للمحكمة الدائمة للعدل الدولي الذي وضع إبان عصبة الأمم.وكما هو معلوم يعتبر النظام الأساسي للمحكمة جزءا لا يتجزأ من ميثاق الأمم المتحدة.
وللدول وحدها الحق في أن تكون إطرافا في الدعاوى التي ترفع إلى المحكمة،والدول المشتركة في النظام الأساسي للمحكمة تمتلك حق التقاضي مباشرة أمامها.وهذه الدول تتكون من جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ومن الدول غير الأعضاء التي تنضم للنظام الأساسي بالشروط التي تحددها الأمم المتحدة بناء على توصية من مجلس الأمن.أما بقية الدول فلا تستطيع اللجوء إلى المحكمة إلا بناء على شروط يحددها مجلس الأمن الدولي على أن لا يكون بين هذه الشروط ما يخل بمبدأ المساواة بين المتقاضين أمام المحكمة.
وولاية المحكمة لا تمتد إلى غير المسائل التي اتفق المتقاضون على إحالتها إليها قبل قيام النزاع أو عند قيامه. فالمادة (36) من النظام الأساسي تنص على أن ولاية المحكمة تشمل جميع القضايا التي يرفعها المتقاضون إليها كما تشمل جميع الحالات المنصوص عليها بصفة خاصة في ميثاق الأمم المتحدة،أو في المعاهدات والاتفاقيات المعمول بها.فيما المادة (95) من ميثاق الأمم المتحدة تنص على انه لا يوجد في الميثاق ما يمنع لجوء الدول إلى أي محكمة أخرى بموجب اتفاقات سابقة بين الدول أو باتفاقات يمكن ان تنشا لاحقا، أي بمعنى أن الميثاق قد وسّع الخيارات ولم يحصرها باللجوء إلى محكمة العدل الدولية.
والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه هنا، هل اختصاص المحكمة اختياري أم إلزامي؟ أي هل على الدول أن تلجأ إليها عند حدوث نزاع أم لا، وبالتالي هل اختصاصها هو جبري؟.في الواقع رفضت الدول الكبرى إلزامية اختصاصها،ونتيجة العديد من المداولات اقر الرأي على أن يكون اختصاصها إلزاميا لمن يقبل به بتصريح خاص.فالمادة (36) تنص على انه يحق للدول الأطراف في النظام الأساسي أن تصرح في أي وقت ودون الحاجة إلى اتفاقية خاصة بأنها تقر للمحكمة بولايتها الجبرية في جميع المنازعات القانونية التي تقوم بينها وبين دول تقبل الالتزام نفسه متى كانت هذه المنازعات القانونية تتعلق بالأمور التالية:تفسير معاهدة من المعاهدات،أية مسألة من مسائل القانون الدولي،أي آمر يعتبر خرقا لالتزام دولي،وطبيعة التعويض ومقداره عن خرق لالتزام دولي.وبطبيعة الأمر تعني هذه المادة انه إذا قام نزاع بين دولتين من هذه الدول حول مسألة من المسائل السالفة الذكر، فليس هناك من ضرورة على عقد اتفاق خاص لعرض الموضوع على المحكمة ويكفي لأي دولة طرفا في النزاع أن ترقع دعواها إلى المحكمة حتى يكون لها حق النظر فيها.وعليه ليس للمحكمة حق النظر عفوا في النزاعات.
كما أن للمحكمة اختصاص استشاري لقضايا يمكن أن تعرض غليها من قبل أجهزة الأمم المتحدة أو إحدى وكالاتها،وكذلك الدول،وتصدر فتواها وبطبيعة الأمر ليست ملزمة إلا لمن قبل سلفا بالرأي أو الفتوى التي يمكن أن تصدرها المحكمة.أما حكم المحكمة فيعتبر نهائيا وغير قابل للمراجعة إلا في حال الالتماس التي يجب أن يتوفر له شرط ظهور وقائع حاسمة جديدة لم تكن متوفرة أثناء مداولات المحكمة على أن لا تكون هذه الوقائع كانت موجودة ومهملة من قبل الطرف المتضرر.
ثانيا : في موضوع مزارع شبعا والاتفاقات التي تحكمها
في 31 آب عام 1920 أصدر الجنرال الفرنسي غورو قراراً تحت الرقم 318 عرّف حدود لبنان الشرقية بحدود الأقضية ومنها قضاء حاصبيا، وقد تأكيد ذلك من المادة الأولى من الدستور اللبناني الصادر عام 1926،الذي جاء فيه أنها تتبع: ".. حدود أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الشرقية".‏‏
وخلال الانتداب الفرنسي أغْفل خط الحدود المرسوم في العام 1923 ذكر تبعية هذه المزارع، ووضعتها بعض الخرائط ضمن الأراضي السورية، وفي عام 1946 وجهت الحكومة اللبنانية مذكرة إلى الحكومة السورية بهذا الخصوص. وجاء الرد السوري بموجب مذكرة رسمية تحت الرقم 574 بتاريخ 29/9/1946، ليؤكد أن ما حصل خطأ فني بحت، وأن مزارع شبعا هي أراضٍ تحت السيادة اللبنانية، واستتبع ذلك تأليف لجنة سورية- لبنانية عام 1949 برئاسة وزير الدفاع اللبناني آنذاك مجيد أرسلان، واتفقت اللجنة على اعتبار مزارع شبعا جزءًا من الأراضي اللبنانية. وقبل وخلال حرب العام 1967 وقعت معظم هذه المزارع تحت السيطرة الإسرائيلية، وتم قضم بقيتها من قبل الاحتلال على مراحل منذ عام 1970 وحتى 1992.‏‏
كما أكدت الدولة اللبنانية عقب الانسحاب الإسرائيلي في 25 أيار 2000، في رسالة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة أن "الانسحاب الإسرائيلي جاء منقوصاً لأن مزارع شبعا ما زالت محتلة، وبالتالي يحتفظ لبنان بحقه في القيام بكل الإجراءات الدبلوماسية وغير الدبلوماسية لاستكمال تحرير ما تبقى من أراضٍ محتلة، وجاء في الجواب اللبناني: "إن الحكومة اللبنانية ما كانت لتحجم عن اتخاذ أي تدبير من شأنه تكريس حق لبنان في مزارع شبعا، وتوثيق هذا التكريس على الصعيد الدولي، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي لهذه المزارع يحول دون تمكين الجانبين اللبناني والسوري من الدخول إلى المزارع المذكورة لترسيم حدودها، على الطبيعة أولا، ومن ثم تكريس هذا الترسيم بموجب خرائط يوافق عليها الطرفان".‏‏
وفي مذكرة بعث بها رئيس الجمهورية العماد اميل لحود إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 4/5/2000 جاء ما نصه حرفياً: إن "تنفيذ القرارين 425 و426 يستوجب انسحاب "إسرائيل" الكامل من الأراضي اللبنانية إلى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً من دون قيد أو شرط. وهذه الحدود هي التي تم ترسيمها عام 1923 مع فلسطين، والانسحاب الكامل يجب أن يشمل أيضاً مزارع شبعا. وأي تجاوز لهذه الحدود يعني أن إسرائيل لم تنسحب بموجب القرار 425، وأن تراجعها في تلك الحال يشكل إعادة انتشار وليس انسحاباً".‏‏
وفي مذكرة أخرى للرئيس إميل لحود موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 9/6/2000 جاء ما نصه حرفياً: "أما بالنسبة إلى مزارع شبعا فقد كان واضحاً في تقرير سعادة الأمين العام بتاريخ 22/5/2000 أنه اعتمد خطاً عملياً في تلك المنطقة في ضوء عدم توافر خرائط قديمة تؤكد الحدود هناك بين لبنان وسوريا. وعلى هذا الأساس اعتبر الخط العملي هو الخط الفاصل ما بين انتداب "اليونيفيل" وانتداب "الأوندوف"، مع إشارة الأمم المتحدة إلى أن هذا الخط العملي لا يمكن اعتباره في أي حال يمس الحقوق الحدودية المتبادلة بين الأطراف المعنيين. ولقد وافق لبنان على هذا التقويم في انتظار أيجاد صيغة مشتركة لمنطقة المزارع موقعة بينه وبين سوريا لتقديمها إلى الأمم المتحدة".‏‏
ومن الناحية القانونية تعتبر قرية شبعا ومزارعها مسجّلة في الدوائر العقارية اللبنانية وأهلها مكلفون كغيرهم بالضرائب للدولة اللبنانية. وهي وحدة عقارية، كما صكوك الملكية والإفادات العقارية التي يحملها سكانها تصدر عن الدوائر الرسمية في مدينة صيدا. وتؤكد القوانين اللبنانية الصادرة في فترة الانتداب، ومنها القانون الصادر في 20 نيسان 1928، صلاحية سلطة محكمة حاصبيا البدائية التي كانت تمتد على كامل قرى مديرية حاصبيا ومنها شبعا ومزارعها، وثمة دعاوى مدنية وجزائية وجنائية في شبعا ومزارعها بتت بها محاكم البداية والاستئناف والتمييز. كما ثمة مستندات جمركية ورخص بناء لأهالي من هذه المزارع صادرة عن قائمقام مرجعيون.‏‏
وفيما يختص بالسيادة فقد مارستها الدولة اللبنانية على مزارع شبعا منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، خلال عهد الانتداب الفرنسي وبعد استقلال لبنان عام 1943، وكان القضاء اللبناني يمارس صلاحياته كاملة على هذه المزارع. وتؤكد تقارير الدرك في جنوب لبنان، أن شبعا ومزارعها ظلت حتى تاريخ 14/9/1965 تحت السلطة اللبنانية المباشرة، إلى أن حالت الحوادث الأمنية والظروف الناتجة عن التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين من الأرض المحتلة عام 1967 إلى نشوء واقع أمني حال دون تمكين السلطة من ممارسة أدائها الميداني، ولم يصدر أي قرار عن الحكومة يشير إلى تخلي لبنان عن سيادته عليها.‏‏ إضافة إلى ذلك ثمة العديد من الستندات القانونية منها:
- بتاريخ 29/9/1946 بعثت سورية إلى الحكومة اللبنانية رسالة تحمل الرقم (52-124) 574 تقول أن مزارع شبعا أراض تحت السيادة اللبنانية خلافاً لما ورد في بعض الخرائط.
- وفي عام 1950 طلبت السلطات السورية من أهالي مزارع شبعا وجوب الحصول على إذن مرور من اجل الدخول إلى المناطق السورية المحاذية للمزارع.
- وفي 1955 سمحت الحكومة اللبنانية من خلال ممثلها في اللجنة اللبنانية – السورية العقيد جميل الحسامي للسوريين بوضع مركز مراقبة عسكري في مزرعة زبدين وعرف باسم "مخفر زبدين المؤقت" ذلك للضرورات الأمنية ومنع التهريب. كذلك تؤكد محاضر اللجان المشتركة اللبنانية – السورية بتاريخ 27/2/1964 و21/2/1967 أن الحدود العقارية والإدارية لأقضية حاصبيا وراشيا وبعلبك هي الحدود الدولية بين البلدين وبالتالي مزارع شبعا هي ضمن الحدود العقارية لقضاء حاصبيا.
- كما أكدت الحكومة السورية موقفها كتابةً في رسالة إلى الأمم المتحدة بتاريخ 25 تشرين الأول 2000 أوردت فيه: "إن الذي يهدد الأمن والسلم في المنطقة هو استمرار تجاهل إسرائيل قرارات الشرعية الدولية وبخاصة قراري مجلس الأمن 242 و338 وعدم استكمال انسحابها من الجنوب اللبناني إلى الحدود المعترف بها دوليا، بما في ذلك مزارع شبعا واستمرار احتلالها للأراضي العربية بالقوة منذ حزيران 1967...".‏‏
كما حسم الرئيس السوري بشار الأسد في مؤتمر صحافي عقده في ختام زيارته إلى باريس في 27 حزيران عام 2001 لبنانية المزارع، حيث أكد أن "من يحدد جنسية هذه المزارع في القانون الدولي هما الدولتان الموجودتان على جانبي الحدود أي لبنان وسوريا، أما الأمم المتحدة فيمكن أن نسميها مستودعاً للاتفاق النهائي بين هاتين الدولتين" ويضيف الرئيس الأسد: ".. نحن أعلنا بشكل رسمي أن مزارع شبعا لبنانية، وهذه المناطق هي محتلة الآن.. وفي المستقبل بعد أن يتم تحديد الحدود تقوم الدولتان بتسجيل هذا التحديد في الأمم المتحدة".‏‏
ثالثا :ملاحظات ومقاربات
من كل ما سبق يمكن إدراج بعض الملاحظات أبرزها:
- إن الملكيات العقارية لمزارع شبعا هي لبنانية وفقا للقوانين المرعية الإجراء في لبنان كما هو مبين بالوقائع والتواريخ،كما أن لبنان قد مارس سيادته الفعلية عليها ولم يتمكن من ذلك في بعض الفترات في ظل الاحتلال الإسرائيلي لهذه المزارع،ومن المعروف وفقا لمبادىء وأعراف القانون الدولي إن الاحتلال لا يلغي سيادة الدولة بأي حال من الأحوال مهما طال زمن الاحتلال وبالتالي تظل حقوق السيادة اللبنانية على مزارع شبعا قائمة من الناحية القانونية بصرف النظر عن الحالة الواقعية الموجودة نتيجة الاحتلال الإسرائيلي.
- لقد أكدت العديد من المذكرات المتبادلة بين لبنان وسوريا وكذلك بين سوريا والأمم المتحدة وكذلك في تصريحات العديد من المسئولين السوريين أن مزارع شبعا هي لبنانية وليست سورية،ومن الثابت كذلك في الأعراف والقوانين الدولية والدبلوماسية، إن المذكرات المتبادلة وكذلك التصريحات التي يدلي بها مسئولون رفيعو المستوى تعتبر وثائق رسمية تلزم أصحابها؛وبالتالي ان هذه النوع من المذكرات والتصريحات هي وثائق رسمية بطبيعتها ويمكن الاستناد إليها لمن يرغب ،الأمر الذي يسقط ضرورة المطالبة من بعض الأطراف اللبنانيين الطلب من سوريا إثبات لبنانية مزارع شبعا،وكأن الأمر في معرض لزوم ما لا يلزم،أو ضرورة تأكيد ما هو مؤكد.
- ان السيادة في القانون الدولي يمكن تثبيتها في العديد من المظاهر ،أبرزها عبر ممارسة الدولة لسلطاتها الأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والقضائية والادارية.ففي الشق الأول فقد مارست الدولة اللبنانية سيادتها الأمنية والعسكرية في مزارع شبعا كما أسلفنا ولم تتخلى عنها طوعا إنما الظروف الأمنية والعسكرية التي نتجت عن تواجد المقاتلين من مختلف التنظيمات الفلسطينية في تلك المناطق أدى إلى ضمور الدور الأمني والعسكري اللبناني ،كما وتلاشى هذا الدور مع احتلال إسرائيل للمزارع في حرب العام 1967،وان خطأ أو إهمال لبنان في عدم المطالبة في أراضيه ألمحتله قد عقد الأمور أكثر وأكثر،ويعتبر هذا الإهمال محاولة لبنان في تلك الحقبة من تاريخه السياسي إبعاد نفسه عن الصراع العربي الإسرائيلي قدر الامكان،ولكن في أي حال من الأحوال فإن الاحتلال في القانون الدولي لا يلغي السيادة مهما طال أمد الاحتلال وبالتالي تظل هذه الأراضي لبنانية. أما الشق الثاني والمتعلق في الصلاحيات المالية والاقتصادية فمن المعلوم أن سكان مزارع شبعا يدفعون الضرائب والرسوم للدولة اللبنانية، وسندات الملكية لهذه الأراضي تصدر عن الدوائر العقارية المختصة اللبنانية.وفي الشق الثالث والمتعلق بالصلاحيات القضائية فان محاكم البداية والاستئناف والتمييز تمارس صلاحياتها في المنطقة وفقا للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء.أما الشق الرابع والمتعلق بالوضع الإداري فجميع قرى هذه المزارع هي مسجلة في إطار القانون الإداري كوحدات إدارية لها حقوقها وواجباتها علاوة على أن هذه القرى قد جرى فيها انتخابات بلدية وشاركت في الانتخابات النيابية على مر السنوات الماضية.وبذلك هذه الأراضي تخضع للسيادة اللبنانية.
- أما غريب المفارقات في هذه القضية أن ليس ثمة أي سابقة دولية في معرض نزاعات الدول الحدودية، أن فريقا داخليا يدعي عدم ملكية وسيادة دولته على ارض معينة ويطلب من الدولة الأخرى إثبات عدم ملكيتها وسيادتها،بينما السائد والشائع هو العكس بين الدول.والأغرب في ذلك أيضا أن هذا المطلب يصب في مصلحة العدو المحتل ويعتبر مطلبا استراتيجيا له.
أما فيما يختص باللجوء إلى محكمة العدل الدولية فللوهلة الأولى يظن البعض أن ما أدرجناه من اختصاصات لمحكمة العدل الدولية تنطبق على موضوع مزارع شبعا، إلا أن الأمر مختلف تماما للعديد من الأسباب والاعتبارات أبرزها:
- ليس ثمة نزاع حدودي دولي بين سوريا ولبنان أقله بخصوص مزارع شبعا،والخلاف هنا قائم في تفسير بعض اللبنانيين حول سيادة الدولة اللبنانية عليها وليس ملكيتها في الأساس؛ وبالتالي إن اللجوء للمحكمة يتطلب أولا قرارا رسميا لبنانيا بذلك إذ من حق الدول اللجوء إلى المحكمة وليس الأفراد أو الفئات السياسية ضمن الدولة.الأمر الذي يعني أولا وأخيرا وجوب التوافق بين مختلف التيارات السياسية اللبنانية لاتخاذ قرار رسمي باللجوء لهذا الخيار إذا تأمن.
- ليس ثمة نزاع على تفسير معاهدة أو اتفاق بين لبنان وسوريا على مزارع شبعا،ففي هذا القسم بالتحديد من الحدود ثمة اعترافا سوريا موثقا بلبنانيتها،كما أن هذه القضية لا تعتبر خرقا أو انتهاكا لمبدأ قانوني دولي يمكن للبنان وحده اللجوء إلى المحكمة وإلزام سوريا بما يمكن إن يصدر من أحكام.
- وتأسيسا على ما سبق لجهة عدم وجود أي خرق لمبدأ قانوني دولي فلا يجوز للمحكمة النظر في مثل هذه القضايا عرضا وإصدار أحكام من دون موافقة الدولتين المعنيتين بهذا الموضوع.
- ولو سلمنا جدلا أن ثمة مشكلة بين لبنان وسوريا من الناحية القانونية وتمَّ الاتفاق على اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وصدرت بها حكم معين فكيف يمكن تطبيقه من الناحية العملية في ظل الاحتلال الإسرائيلي لهذه المزارع.وما هي القيمة العملية لأي خريطة يتمّ الحِكم بها من دون تنفيذها على الأرض؟فكيف سيتم وضع المعالم الحدودية من قبل التقنيين والطبوغرافيين وهل ستنسحب إسرائيل لتنفيذ هذا الحكم؟ثمة قرارات دولية عمرها من عمر الكيانات السياسية في المنطقة ولم تطبقها إسرائيل،فلتنسحب وفقا للقرارات الدولية 242 و338 و425 وغيرها لتحل المشكلة من أساسها.
وإذا كان ثمة استحالة للجوء إلى محكمة العدل الدولية كما يطالب البعض ذلك لانتفاء الأسباب الموضوعية وبخاصة لجهة اختصاص المحكمة،فان اللجوء للخيار الثاني المتعلق بنموذج طابة فهو خيار مفخخ وراءه خلفيات واضحة الأبعاد والأهداف.والمعروف إن منطقة طابا استرجعتها مصر عبر مفاوضات شاقة وكانت تفصيلا لنتاج اتفاق السلام المصري الإسرائيلي،أي بمعنى خيار المفاوضات بين دولتين وقعتا على معاهدة سلام وما تبقى من تحفظ على بعض القضايا يتم بمفاوضات ثنائية لاحقة.فكيف للبنان احتذاء هذا النموذج؟
فالمطلوب من لبنان وفقا لهذه الفرضية السعي إلى معاهدة سلام مع إسرائيل والشروع في مفاوضات لتحصيل ما يمكن تحصيله من مطالب،وهذا الأمر بطبيعة الحال يتطلب شرطا آخر هو التخلي عن سلاح المقاومة وإذ لم تستجب الشروع في نزع سلاحها بالقوة وهو أيضا مطلب إسرائيلي .
ولو سلمنا جدلا باللجوء إلى الخيارات الدبلوماسية فثمة سابقة بين لبنان وإسرائيل في العام 1983،فما الذي جناه لبنان في اتفاق 17 أيار، إن إنعاش الذاكرة قليلا لمن نسوا أو تناسوا أو خانتهم ذاكرتهم، تقودهم إلى أمر واحد كيف جعل هذا الاتفاق لبنان مقيَّد السيادة مغلول القرار في وقت لم يكن للمقاومة دور،ولإنعاش الذاكرة أيضا كيف تمكنت المقاومة من فرض خياراتها في اتفاق نيسان 1996 وأجبرت إسرائيل على القبول بمبدأ توازن الرعب حماية للبنان.
إن جميع المتحاربين يذهبون إلى المفاوضات ويدهم على الزناد بحثا عن مصدر قوة لفرض الخيارات والشروط، فكيف للبعض أن يجرؤ على مد يده على الزناد لضرب قوة فرضت نفسها على عدوها قبل صديقها.إن غريب المفارقات في لبنان انه لا يزال هناك من يعيد نظرية قوة لبنان في ضعفه، وان اليد التي لا تقوى على كسرها قبِّلها وادع عليها بالكسر أو الغدر سيان.