14‏/02‏/2008

ماذا بعد شارون؟

ماذا بعد شارون؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني

جاء غياب شارون عن الساحة السياسية الإسرائيلية في وقت تجري فيه الاستعدادات للانتخابات العامة المحدده في 28 آذار 2006. ومن الناحية الإجرائية البحتة لا يشكل غياب شارون أزمة حقيقية، فقد حددت اللوائح والقوانين الأساسية، الإجراءات التي يجب اتباعها في حال وفاة رئيس الوزراء أو تقاعده لأسباب قاهرة؛ اذ يتولى نائبه في الحكومة أو من يقوم بمهام رئيس الوزراء لمدة مائة يوم، ثم تُجرى بعدها انتخابات عامة تحدد الحزب الذي سيتولى تشكيل الحكومة وقيادة البلاد لأربع سنوات قادمة. وبصرف النظر عن أن شارون كان رئيس وزراء انتقاليا بحكم حل الكنيست والدعوة إلى انتخابات عامة جديدة منذ كانون الاول الماضي، فإن الإجراءات نفسها الخاصة بنقل السلطة في الحالات الاستثنائية ظلت قائمة؛اذ تولى إيهود أولمرت وزير المالية والقائم بأعمال رئيس الحكومة في حالة غيابه مهام شارون.ورغم ذلك ثمة العديد من المشاكل التي ستبرز في الحياة السياسية الاسرائيلية،كما ستنعكس تداعياتها على الوضعين الفلسطيني والعربي بشكل عام،ذلك للعديد من الاعتبارات.
ان ابرز المشاكل في افتقاد كافة الزعامات الإسرائيلية للكاريزما التي تمتع بها شارون والتي مكنته من إقناع الرأي العام الإسرائيلي بقرارات استثنائية كان من الصعب ان لم بكن من المستحيل تمريرها من قبل أي رئيس وزراء إسرائيلي آخر، كقرار الانسحاب من غزة . وتكفي الإشارة إلى أن مبادرة الانسحاب من غزة عندما أُعلنت في حينها حصلت على تأييد ما يزيد على 60% من الشعب الإسرائيلي وذلك حينما كانت تقدم في استطلاعات الرأي العام بوصفها خطة شارون، فيما كانت نفس الخطة لا تحظى بتأييد سوى ما بين 40 إلى 45% حين تقدم بوصفها خطة الليكود أو خطة الانسحاب أحادي الجانب، وبمعنى آخر فقد كانت السياسة الإسرائيلية في السنوات الخمس الأخيرة متأثرة إلى حد بعيد بالشخصنة في دولة تتبع نظاما سياسيا قريب إلى النظم الأوربية، اضافة الى ان مستوى التسييس في المجتمع الاسرائيلي مرتفع إلى حد يغلب الطابع المؤسسي على الفردي. كما إن غياب شارون وعدم تمتع شخصيات مثل إيهود أولمرت بالثقة التي كان الإسرائيليون على استعداد لمنحها لشارون في القرارات الخلافية، وترجيح موقفه على موقف خصومه سيؤدي الى حالة من التوتر القومي التي ستنعكس على نتائج الانتخابات المقبلة وعلى قدرة أي حكومة إسرائيلية في المستقبل المنظور على اتخاذ قرارات حاسمة ومصيرية.
ان أثرغياب ارئيل شارون عن الساحة الحزبية عامة وعن حزبه كديما بخاصة، سيكون مباشرا على الكثير من القضايا،فسيفتح الباب واسعا امام معارك خلافته على الساحة السياسية، في وقت لا تتمتع فيه شخصيات مثل إيهود أولمرت أو عميرام بيرتس او بنيامين نتنياهو بقبول واسع لدى الرأي العام الإسرائيلي. فشارون جمع بين الخبرات العسكرية والسياسية التي راكمها على ما يزيد على نصف قرن، ولم تفلح الهزات التي تعرض لها، مثل إقالته من منصب وزير الدفاع عام 1982، وتوجيه اتهامات قاسية له بتوريط إسرائيل في حرب المدن داخل لبنان، وخسارته لتأييد اليمين المتشدد داخل حزبه وفى أوساط اليمين القومي على مراحل منذ قيادته لبلدوزر لهدم مستعمرة ياميت في سيناء لتسهيل توقيع معاهدة السلام مع مصر، وحتى الخروج من غزة مؤخرا جميعها لم تفلح في التأثير على مكانته في الساحة السياسية والحزبية، بل ربما أكسبته قبولا أوسع في صفوف الرأي العام الإسرائيلي الذي بدا بغالبيته بحاجة إلى زعيم أبوي يمنحه الطمأنينة في ظل ارتفاع خسائره البشرية وتدهور إحساسه بالأمن الشخصي خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
كما أن الإسرائيليين سيشعرون بالفراغ الذي سيخلفه اختفاء شارون عندما يحين الحديث بشكل جدي عن الكيفية التي ينبغي أن تتعامل بها إسرائيل مع ملفات خطيرة مثل المشروع النووي الإيراني، واحتمالات سيطرة حركة حماس على القرار الفلسطيني إذا ما تمكنت من الفوز بنسبة عالية من المقاعد في الانتخابات التشريعية الفلسطينية المقبلة، وما يعنيه ذلك من تحديات أمنية وسياسية، وأخيرا الموقف من الضغوط الأوربية والأمريكية إذا ما تزايدت لإجبار إسرائيل على العودة لطاولة التفاوض مع الفلسطينيين تحت مظلة خارطة الطريق.
كما يمكن القول إن حالة من حالات الشلل القومي سوف تشهدها إسرائيل في غضون الأعوام القليلة القادمة ما لم يفرض إيقاع الأحداث الداخلية والإقليمية تحديا ينصهر في أتونه بعض الزعماء الإسرائيليين من جيل الوسط ليظهر من بينهم من يشعر الشعب الإسرائيلي أنه قادر على تعويض غياب شارون. وتبدو فرص زعيم الليكود الحالي بنيامين نتنياهو هي الأوفر في هذا السباق؛ حيث يمتلك خبرة سياسية، وسبق له أن تولى منصب رئيس الوزراء بين أعوام 1996 و1999، فضلا عن قوة علاقاته بالكثير من قادة أوربا والولايات المتحدة.
أن تجربة الإسرائيليين مع نتنياهو خلال السنوات الثلاث التي تولى فيها رئاسة الوزراء وأيضا تجربتهم معه كوزير للمالية في حكومة شارون حتى آب 2005، وما أدت إليه هذه السياسات من زيادة معاناة الطبقات الفقيرة، قد تلقي بظلال كثيفة على إمكانية منح الإسرائيليين ثقتهم مجددا في نتنياهو، الا انه في المقابل يمكن القول أن نتنياهو سيستفيد من اختفاء شارون وسيعيد من جديد هاجس الأمن بالنسبة لغالبية الإسرائيليين الذين يخشون من تأثير الأفكار المعروفة لإيهود أولمرت وعميرام بيرتس فيما يختص بمعالجة قضية التسوية مع الفلسطينيين، فالأول كان قد دعا إلى انسحاب إسرائيل من أغلب الضفة الغربية، والثاني لا يمانع في إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين من دون اشتراط الوقف الكامل للعنف. كما يعتقد أغلب الإسرائيليين أن مثل هذه الأفكار التي تسببت من قبل في تمكين الفلسطينيين عبر اتفاق أوسلو من الحصول على السلاح والأرض اللذين مكنهما في النهاية من تهديد الأمن الشخصي للإسرائيليين، هي نفسها التي ستؤدي حتما الى تقوية الانتفاضة وإظهارها كما لو كانت الوحيدة القادرة على دفع الدولة العبرية لتقديم مزيد من التنازلات؛ ومن ثم ستكون مثل هذه الأفكار وأصحابها بمثابة مصادر لتشجيع الفلسطينيين على مزيد من العنف.
كما ان بوسع نتنياهو أن يستفيد من حقيقة بحث اليمين القومي والديني المتشدد خارج الليكود عن زعيم يقوده نحو التمسك بالأرض وعدم الانسحاب من أي جزء منها، وهو ما يتوافر في مواقف نتنياهو المعلنة والرافضة لإقامة دولة فلسطينية مستقبلا، وبمعنى آخر سيضمن تأييد المعسكر القومي الديني بشكل تلقائي وسيراهن في الوقت نفسه على ضعف قدرات منافسيه على المستوى القومي مثل أولمرت وبيرتس لكي يحاول الفوز بثقة الجمهور الإسرائيلي، باعتباره أقرب من يمكنه تعويض غياب شارون عن الساحة السياسية.
وفيما يختص بتأثير غياب شارون في مستقبل كاديما وكذلك في الأحزاب المنافسة، فمن المتوقع أن يحاول البارزون في حزب كديما حسم من سيخلف شارون في قيادة الحزب مبكرا حتى لا يؤثر ذلك على فرص الحزب في الانتخابات التشريعية المقبلة. وعلى الرغم من أن إيهود أولمرت لم يتسلم زعامة الحزب تلقائيا كما حدث في منصب رئيس الوزراء بالإنابة، ورغم وجود منافسات على الزعامة بينه وبين تسبي لفني وشاؤول موفاز، فإن ضيق الوقت الباقي حتى حلول موعد الانتخابات ربما يدفع الجميع للالتفاف حول إيهود أولمرت منعا لأي انشقاقات لا يتحملها الحزب الجديد في هذا الوضع الحرج. كما أن من سينشقون عن الحزب إذا ما دارت معارك عاجلة حول زعامته سيجدون صعوبة في العودة إلى الليكود في ظل قيادة نتنياهو له، أو ربما يخشون حصولهم على مواقع متأخرة في قوائم الأحزاب التي ستخوض منافسات الكنيست؛ ومن ثم سيميلون للبقاء في كديما حتى إشعار آخر.
وفيما يختص حزب العمل المنافس لكديما والليكود معا فربما يكون غياب شارون في غير صالحه، ففضلا عن مخاوف الإسرائيليين من توجهات عميرام بيرتس المعلنة فهو يفتقر تماما إلى الإقناع بقدرته على قيادة البلاد وبخاصة في الظروف الراهنة، كما أن أصوله السفاردية ستحد كثيرا من إمكانية إعطاء الإشكناز أصواتهم له، ومن ثم فالمستفيد الأكبر من غياب شارون هو نتنياهو والليكود أولا، وأولمرت أو من سيتولى زعامة كديما ثانيا.
أن غياب شارون من المسرح الإسرائيلي، بشقية المدني السياسي والإستراتيجي العسكري، وفي توقيت بالغ الحرج بالنسبة لدوره في تصفيف ملف التسوية الفلسطينية، ليس حدثًا عابرًا إسرائيليًّا؛ فقد تمكن من إحكام قبضته على هذا الملف، اذ كان في السنوات الخمس الماضية صاحب مبادرات ومشروعات بعيدة التأثير في أحوال الفلسطينيين ووقائع حياتهم السياسية وغير السياسية. فهو الذي عرض التسوية الجزئية طويلة الأجل، وقبل بخريطة الطريق بعد أن حولها بتحفظاته الاربع عشرة إلى خريطة إسرائيلية الهوى، وأعلن أن الراحل عرفات ليس شريكًا ولا ذا صلة في عملية التسوية، وحاصره في مقره وحرض عليه لعزله إقليميًّا ودوليًّا، وشرع في تطبيق الجدار الاستيطاني العنصري في جوف الكيان الفلسطيني الموعود، ونفذ سياسة الأبارتيد والمعازل بحق هذا الكيان، وهو الذي خطط للانفصال أو الانسحاب الشكلي أحادي الجانب من قطاع غزة دون التهاون في قضية السيطرة عليه برًّا وبحرًا وجوًّا!.
لم يكن شارون سوى منطاد بهيئة رجل السلام المنتظر الذي يفترض أن تتعلق به دعاة التسوية السلمية. وكان من حظوظه المواتية أنه صعد إلى قمة صناعة القرار في إسرائيل في توقيت مناسب للإقلاع مع قيادة المحافظين الجدد أمريكيًّا، الأمر الذي منحه علامات زائدة ومرتبة متقدمة في ميزان السياسة الأمريكية المتميزة عالميًّا وإقليميًّا. وهذه ميزة تحسب له ولإسرائيل وليس للفلسطينيين أو العرب بعامة.
وقد يترتب على أفوله من مسرح الشرق الأوسط، ذهاب وقت مستقطع في سبيل البحث أمريكيًّا عن البديل إسرائيليًّا. وسيكون ذلك على الأرجح على حساب الجانب الفلسطيني. ذلك أن الانشغال إسرائيليًّا بموسم الانتخابات العامة علاوة على الانشغال بتداعيات غياب سيد القصر في حزب كاديما، فضلاً عن الانشغال أمريكيًّا بهاتين الجزئيتين، سوف يفاقم من قضية الوقت اللازم لاحتمال إعادة دوران التسوية الفلسطينية.
ان غريب المفارقات في غياب شارون ستكون في تداعياته على الوضع العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص وليس على الداخل الاسرائيلي،فاسرائيل المعتادة والمنغمسة في مأسسة النظام لن تجد مشكلة حقيقية في اجتراح البدائل،انما المشكلة ستبقى عند العرب وهي الانتظار طويلا كي يتعودوا على واقع جديد ولو بعد فوات الأوان.