14‏/02‏/2008

ماذا بعد تقرير ميليس؟

ماذا بعد تقرير ميليس؟
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني

بصرف النظر عن التوقيت المُحكم الذي صدر به تقرير ديتليف ميليس،فان ما جاء به يؤكد معطيات وظروف المرحلة التي سبقته،بمعنى وان علّق اللبنانيون وغيرهم الكثير من الآمال عليه،فلم يعطِ جديدا سوى بعض المفاصل التي تبدو مهمة رغم عدم نهائيتها باعتراف صاحب التقرير نفسه،ومهما يكن من امر الاهداف التي وقفت وراء تلك الصيغة او الصِيغ المسربة،فان التدقيق في بعض ما جاء به يؤسس لمرحلة لاحقة لا تقل اهمية وحسساسية عن التي سبقته،وفي هذا السياق يمكن تسجيل التالي:
- يعتبر التقرير من حيث الشكل اكثر من تقرير اجرائي وأقل من تنفيذي،بمعنى وان اتى مفصلا في بعض المواقع الا انه من الناحية العملية تكملة للتقرير الاجرائي الاول،وعلى الرغم من هذا التفصيل الوارد في بعض هذه المواقع الا انه لم يصل الى حد اعتباره نهائيا وقابلا للتنفيذ.
- ومن حيث الشكل ايضا يقسم التقرير الى شق لبناني وآخر غير لبناني وتحديدا سوري وفلسطيني.ففي الاول وضوح في سرد المعلومات والشهادات وفي الثاني سرد لبعض الوقائع والشهادات المتصلة وحذف لبعضها دون تبرير واضح ومعلل رغم اهمية الموضوع ووجوب الوقوف عنده.
- اما في المضمون،فقد أظهر التقرير العديد من القرائن التي توحي الى حد الاتهام الاجهزة الامنية اللبنانية والسورية في عملية الاغتيال وهو وان سمى البعض فقد حُذف بعضها الآخر دون ان يتمكن صاحب التقرير من التبرير المقنع،ما يوحي بخلفيات كثيرة يمكن ان تُستغل وتُستثمر سياسيا من جميع الافرقاء دون استثناء.
- وان ركّز التقرير على الاجهزة الامنية في كلا البلدين فقد حاول الايحاء من خلال بعض العبارات والمعاني وعبر كيفية سرد بعض القرائن،امكانية ادخال بعض المواقع السياسية في البلدين ضمن دائرة الشبهات.وعلى الرغم من نفي ميليس لذلك فقد ابقى الباب مفتوحا للعديد من الاجتهادات والتأويلات حول بعض الصِيغ او الاشارات الواردة في التقرير.
- وعلى الرغم من الضجة التي اثيرت لجهة صحة شهادة احد الشهود وملاءتها القانونية ، فقد ظّلت ركنا من الاركان الاساسية للتقرير،وعلى الرغم من عدم ظهور قرائن الهواتف الخلوية واتصالاتها قبل الجريمة وبعدها سوى قبل اعداد التقرير بفترة وجيزة،فقد شكّلت هذه القرائن في نظر التقرير ادلّة لا يرقى الشك اليها من خلال تسريب بعض كلمات او عبارات وردت بها دون الافصاح عما ورد بها تحديدا، وهو اسلوب شائع بين المحققين بغية عدم ايضاح الواقعة ولهدف استكشاف المزيد ومعرفة ردود الفعل عليها،وهذا ما بدا جليا من خلال اسلوب عمل ميليس نفسه ونجاحه الى حد بعيد في مثل تلك الطرق.
- ورغم كل ما ورد فيه من تفصيل ممل في بعض المواقع واقتضاب مثير للتأويل في بعضه الآخر، ورغم القرائن التي سُردت بشكل ادلّة دامغة،فقد اكد ميليس ان قرينة البراءة قائمة بمن فيهم الجنرالات الاربعة الموقوفون.وعلى الرغم من تأكيد حذف بعض الوقائع والاسماء وتبرير ميليس لذلك، ظل في التقرير الكثير من علامات الاستفهام التي يمكن التوقف عندها ووجوب متابعتها باعتراف ميليس نفسه.
ان مجمل تلك النقاط قد رسمت خارطة طريق للمرحلة القادمة اقله حتى منتصف كانون الاول المقبل وعليه فان جملة تداعيات ستحصل على الصعيدين اللبناني والاقليمي، ففي الشق اللبناني يمكن تسجيل الآتي:
- لقد شكل صدور التقرير بداية لتموضع سياسي جديد في لبنان سيعيد خلط الاوراق وربما التحالفات في فترات لاحقة على قاعدة الفرز الذي سيحصل نتيجة تباين بعض مواقف الاطراف الرئيسة من بعض القضايا الناشئة التي اظهرها التقرير لا سيما اتهام سوريا والموقف من الضغوط الدولية عليها.
- كما ان التقرير سيزيد من حماسة الاستقطاب السياسي نحو بعض الملفات الداخلية لا سيما المواقع الدستورية،ومحاولة اطراف بتسريع وتيرة المطالبة بالتغييرات المفترضة على قاعدة الاغلبية بعد الانتخابات النيابية وما افرزتها .
- وان كانت الحقيقة ووجوب اظهارها مطلبا يُجمع اللبنانيون عليه الا ان الوسيلة لاظهار تلك الحقيقة ستكون مظهرا للتباين،فرغم اشارة التقرير لامكانية متابعة الملف لاحقا عبر السلطات القضائية والامنية اللبنانية بمساعدة دولية ثمة تصميم من بعض الاطراف على محكمة دولية يقابله آخر على وجوب التريث وعدم الممانعة ان اقتضت الضرورة لذلك،واللافت في هذا السياق ان التقرير رغم وضوحه في النص على امكانية المساعدة الدولية الا ان معطياته وتداعياته ستتجه نحو محكمة مختلطة لبنانية – دولية ترضي طرفا وتفسح مجالا لمخرجٍ للطرف الآخر.
- وان كان اللبنانيون جميعا هم فعلا وواقعا متضررون من الاختلالات الامنية،فان كثيرا من الاطراف غير اللبنانية ستجد مساحة واسعة لتنفيذ واستثمار هذه الاختلالات لاهداف متعددة ومتنوعة قابلة للصرف المحلي والاقليمي.
- لقد وضع التقرير بشكل او بآخر رابطا معنويا وموضوعيا بين القرار 1595 و1559 ، بحيث ان تقرير القرار الأول سيساعد كثيرا في ايجاد البيئة لمحاولة تنفيذ القرار الثاني رغم ارتباطه بظروف اخرى.
واذا كانت تداعيات التقرير على الواقع اللبناني تبدو بهذه الحساسية في بعض الجوانب،فان تداعياته الاقليمية لا تقل حراجة ودقة،فما اسسَّ له التقرير قد وضع المنطقة على مفترق طرق خطر جدا تبدو فيه الخيارات محدودة ان لم تكن معدومة،وهي بالضرورة تتطلب قراءات متأنية ومدروسة،وفي الشق الاقليمي يمكن تسجيل التالي:
- لقد وضع التقرير سوريا في عين العاصفة وفتح ابوابا مشرعة على احتمالات كثيرة اقلها ملامسة النظام السياسي بعد الامني، وشكّل البيئة القانونية الضاغطة على سوريا والمنطقة عبر مشروع القرار الامريكي الفرنسي في مجلس الامن وتحديدا من باب الفصل السابع.
- وعلى الرغم من شدة الضغوط فان التقرير وما افرزه من مواقف دولية قد ظهَّر انطباعا بأن وقتا اضافيا قد يبدو ضائعا أُعطيَّ لدمشق،لا لايجاد المخارج بقدر ما هو إتقاء الضغوط المقابلة من بعض القوى الكبرى كروسيا والصين اذا تمكنت سوريا من حسم بعض خياراتها باتجاه استثمار علاقة طهران بهاتين القوتين.بمعنى ان هذا الخيار ليس ملكا لسوريا ولا تملك القدرة منفردة على استثماره بمعزل عن الرغبة والقدرة الايرانية وما لهذه الاخيرة من مصلحة في الدعم او عدمه على قاعدة استثماره في مندرجات القرار 1559 وما يشكله من ربط بالملف النووي.
- ان ذكر الجبهة الشعبية – القيادة العامة في التقرير وان كان بشكل عرضي رغم توضيح ميليس لهذا التظهير، الا انه من الناحية العملية يشكل حالة ربط نزاعٍ مع مندرجات القرار 1559 المتعلق بالسلاح الفلسطيني وقد بدأت آليات هذا الربط وعِدّته اذا جاز التعبير بالظهور.
- وفي المقلب الآخر،فان التقرير لم يذكر اسرائيل لا من قريب ولا من بعيد،بل ان التوضيحات وردود الفعل على التقرير قد وضعها فوق الشبهات كما مكّنها من الظهور بمظهر القادرة على اعطاء المعلومات والقرائن وحتى الأدلة للفصل في هذا اللغز المحيّر!
ان جريمة بهذا الحجم من الاستهدافات وما يتقاطع فيها،تتطلب تحقيقا وبالتالي تقريرا ومحكمة وقرارا اكبر بكثير من الجهد والموضوعية المبذولين.صحيح ان ميليس نفسه قد اعترف بأنه لم يكن قادرا على اعطاء اكثر من ذلك في هذه المدة والظروف المحيطة وان الامر يتطلب المزيد من الوقت والجهد الذي سيمتد ربما الى سنوات؛ لكن الصحيح ايضا ان لبنان غير قادرِ على الانتظار كثيرا، لقد اعترف بالكذب جميع من تعاطى مع الملف العراقي قبل غزوه ولكن بعد خراب البصره؛ وسلوفودان ميلوسوفيتش قابع في سجنه ولكن يوغسلافيا قُسمت وانتهت،ما يهمنا نحن كلبنانيين ان تظهر حقيقة جريمة العصر لكي يبقى لبنان كما حَلم به رفيق الحريري.