14‏/02‏/2008

قراءة في خطاب الرئيس بشار الاسد


قراءة في خطاب الرئيس بشار الاسد
د. خليل حسين
استاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني

بصرف النظر عن مكان الخطاب وهو مقرر في الاساس،فان للتوقيت كما للشكل والمضمون الذي اتى به خطاب الرئيس السوري بشار الاسد، دلالات وأبعاد بحجم ما تمر به المنطقة قبل سوريا ولبنان،وان كان الخطاب بمثابة استرجاع للتاريخ والجغرافيا في منطقة عجت بالازمات وهي حبلى فيها وتنذر بما هو اصعب واقسى،فان لمراكز القرار في السياسات الدولية كان لها النصيب الوافر من الرسائل ذات الابعاد الهامة المتعلقة بلبنان وسوريا تحديدا.
وبصرف النظر ايضا عن المقاربة بين خطابي الرئيس الراحل حافظ الاسد في 20 تموز 1976 والرئيس بشار الاسد في 9 تشرين الاول 2004 ،فان العديد من النقاط التي ظهرت مجددا تعيد التأكيد بأن الاستراتيجية السورية الخارجية فيما يختص بالصراع مع اسرائيل وموقع لبنان فيه لم يتغيرا؛ بل ان هناك اصرارا على ايضاح الثوابت التي لا يمكن لدمشق ولا لغيرها من عواصم القرار المسَّ بها للعديد من الاعتبارات.
ففي الشأن الاقليمي وبخاصة الصراع العربي- الاسرائيلي اعاد الرئيس الاسد التذكير بموقف دمشق من عملية السلام في الشرق الاوسط برمتها،انطلاقا من ثوابت مؤتمر مدريد وقرارات الشرعية الدولية،باعتبار ان المنطقة الآن هي في قلب البركان وفي عين العاصفة ايضا ما يستدعي النظر بدقة متناهية لأثر اللاعبين الاقليميين والدوليين فيه،ويعود موقف دمشق وثوابتها للعديد من المرتكزات والحقائق ابرزها:
- لقد تأكد لسوريا بما لا يقبل الشك،ان اي تسوية للصراع خارج اطار الثوابت السورية تحديدا هي خيارات غير قابلة للحياة،على اعتبار ان السلام المنشود من الصعب تحقيقه بين الحكومات وحدها دون اقترانه بشعوب الدول وقدرته على استيعابها والتمسك بمندرجاتها العملية في اي مشاريع اتفاقات محتملة؛وفي هذا الاطار لدى دمشق شواهد عديدة ومتنوعة بدء من اتفاق 17 ايار 1983،وصولا الى اتفاق اوسلو مرورا بوادي عربة.
- ان رؤية السلام السورية ليست بحاجة الى اقتفاء الاثر بل هي واضحة، وان اسرائيل هي من بحاجة الى تحديد خياراتها وهي معروفة ايضا، بدء من نكل وثيقة رابين بين تل ابيب وواشنطن وانتهاء بسياسة الابادة ضد الفلسطينيين وسياسة حفة الهاوية مع سوريا ليس عبر التصعيد فقط وانما الانتقال الى سياسة الاستفزاز غير محسوبة النتائج.
- وعلى الرغم من المتغيرات الهائلة التي اتت على المنطقة فلا زالت سوريا معنية بملفات المنطقة بصرف النظر عن حجم الدور وموقع هذه الملفات في السياسة الامريكية- الاسرايلية.فالقرار الدولي 1546 الذي اعطى السيادة النظرية للعراقيين،كان الهدف غير المعلن فيه ليس حياد سوريا عن الملف العراقي بل الدعوة الصريحة الى المساعدة في تطبيقة، وبصرف النظر عن حساسية الموضوع وقدرتها في هذا المجال،فان القوات الامريكية في العراق ليست لمساعدة العراقيين بقدر ما هي على حدود سوريا وايران تحديدا،وما يعني هذا الوجود في ظل الاستثمار الاسرائيلي الدقيق باتجاه توظيفه وصرفه في الصراع مع قوى المنطقة ومنها سوريا ولبنان وايران.
واذا كان الموقف السوري على ثباته في قضايا المنطقة الرئيسة،فلا زالت متطلبات هذا الموقف تستحوذ على اهتمام شديد لدى دمشق انطلاقا من معرفتها الدقيقة بأن التهاون او التساهل في بعض متطلباته ومنها الوضع اللبناني برمته سيؤثر تأثيرا مباشارا في خياراتها الاستراتيجية،ومن هنا يمكن وصف التشدد السوري في الملف اللبناني هو نتيجة طبيعية للسياسات التي يتم التعامل بها من قبل المعارضة اللبنانية او من قبل الدول المؤثرة في هذه المعارضة،ومن هنا يمكن تسجيل العديد من النقاط اهمها:
- لقد تأكدت دمشق ايضا ان ما اُحيك وسيُحاك ضدها في لبنان من قبل بعض القوى الكبرى،قد يتعدى الموضوع اللبناني بتفاصيله المملة لسوريا، وان هذه القوى تمكنت من اختراق العديد من القوى اللبنانية واستعمالها في الحرب المفتوحة ضد سوريا لتصل الى حد المسّ بالنظام وبمقومات وجوده، وفي هذه الحالة ان جميع الاسلحة مباحة للدفاع عن النفس ان كانت في الداخل او الخارج.
- وتأكيدا على ما سبق من التوجس السوري،فان القرار 1559 ليس كغيره من القرارات ولا تقرير كوفي انان كغيره من التقارير، فدمشق عرفت كما كانت تعرف قبل القرار والتقرير،ان المطلوب فيهما هو قرارات ومواقف من دمشق لم يتمكن احدا من انتزاعه ولو عنوة في احلك الظروف التي مرت بها سوريا منذ منتصف السبعينيات.فالاستحقاق الرئاسي اللبناني هو مجرد تفصيل في الاجندة الامريكية – الفرنسية، والاعتراض على شخص الرئيس لحود تحديدا نتيجة مواقفه المبدئية وليس لأمر آخر ان كان دستوريا او غيره كما اتى به القرار والتقرير.
- وعطفا على ما سبق فإن الهمَّ الامريكي- الفرنسي لا علاقة له بالسيادة والاستقلال بقدر ما هو السعي الحثيث لحياد لبنان عن الصراع العربي- الاسرائيلي الموضوع القديم الجديد الذي تسبب في ازمات عميقة للوحدة الوطنية اللبنانية حتى حالة الانفجار، ولوكانت واشنطن وباريس مهتمتان بلبنان واللبنانيين لما نبشت الملفات الخلافية بين اللبنانيين وتحاول تأجيجها مجددا عبر سحب سلاح المقاومة ودفع الجيش اللبناني للدخول في مغامرة السلاح الفلسطيني ذات الابعاد الاقليمية التي لا يقوى عليها لبنان تحديدا.
- وفي مقابل الشق الخارجي للملف اللبناني،فالملف الداخلي وهو المعني بعمليات الاستقطاب الخارجي، فسوريا ليست معنية بالهيمنة على لبنان كما تدعي المعارضة وهي دخلت الى لبنان لحماية اطراف كثيرين منهم، بل "طُلب" من سوريا عام 1976 تأجيل الدخول ريثما تُحسم المعركة لغير مصلحة المعارضين آنذاك والذين يشكلون غالبيتها الآن.
- ان العلاقة بين البلدين مبنية على اسس التاريخ والجغرافيا،فكما ان لبنان الضعيف ضرر لسوريا،فان سوريا قوية بقوة لبنان ومواقفه،اي بمعنى ضرورة تلازم المصير قبل المسار وان اي تفريط في الحقوق او المواقف سيعرض البلدين للمخاطر.
ان الخطاب في جانبه الدولي في اشاراته الواضحة تعبر عن الرغبة بالتذكير بأهمية الدور الاقليمي لسوريا وفعاليته،فسوريا ستظل الى جانب القضايا العربية بصرف النظر عن حجم ونوعية الضغوط الموجهة اليها، فقد قدمت الدم في لبنان ولغيره وهي جادة في مواقفها المبدئية، وان ابدت بعض المرونة في بعض الملفات من الوجهة التكتيكية فهي ليست بوارد تقديم شيء في الجوانب الاستراتيجية،ومن هنا إشارات السلام لم تغب رسائلها الى من يعنيهم الامر،وبالتالي ان التعاطي مع سوريا ليس من البوابة اللبنانية لا في القرار 1559 ولا في التقرير غير المتوازن كما وصفته دمشق،بل من المنطلقات والثوابت وما آلت اليها مفاوضات مؤتمر مدريد في التسعينيات.
لقد اتى خطاب الرئيس الأسد بمثابة الرد العملي على بعض القضايا المركزية المثارة في وجه سوريا حاليا،وهو بطبيعة الامر كان بمثابة محاولة لافهام من لم يفهم بعد، بأن سوريا وفي عين العاصفة ليست في وارد المقايضة في الملفات الاستراتيجية، وان التعاون والمرونة في بعض الملفات لن ينسحب على الملفات الاخرى وبخاصة ذات الطابع اللبناني الذي تنظمه معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق وقبلا اتفاق الطائف،وعليه فانها رسائل واضحة الاهداف في الزمان والمكان لجهة التوقيت والى من توجه.
فدوليا هو رد عملي لما يثار في مجلس الامن حول مندرجات القرار 1559، وعربيا واقليميا لما يحيط في المنطقة من مخاطر وضغوط، ولبنانيا توضيح لما هو واضح في التاريخ والجغرافيا بين البلدين وتفسير ما يحاول البعض تأويله واستغلاله، فهل يتعظ البعض من عبر التاريخ القديم والحديث؟وهل اتجهت سوريا من التشدد الى المواجهة؟ ان من يبدأ المفاوضات ويبدي المرونة في "ألف" القضايا الاستراتيجية سيصل حتما الى "يائها"،ومن هنا دقة الموقف ووجوب القراءة المتأنية لما يحاك للبنان ولسوريا ولجميع القوى الحية في المنطقة التي لا زالت تقاوم المشروع الامريكي الامبراطوري وبشقه الشرق الاوسطي الجديد او الكبير سيان.