16‏/02‏/2008

رائحة صفقات روسية امريكية تطيح باستقلال كوسوفا

رائحة صفقات روسية امريكية تطيح باستقلال كوسوفا
د.خليل حسين
استاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية

لم تكن مفاجأة أن تسحب الدول الغربية مشروع القرار الذي كانت قد قدمته إلى مجلس الأمن الدولي، والذي كان سيضع إقليم كوسوفا على طريق الاستقلال عن جمهورية صربيا؛ بسبب المعارضة الروسية لمشروع القرار كما قيل، وربما السعي لإرضائها في ملف الدرع الصاروخي.
فبعد ثماني سنوات من بحث الأمم المتحدة لمشكلة سكان كوسوفا، قرّر المبعوث الأممي الخاص إلى كوسوفا مارتي اهتساري في شباط / فبراير الماضي 2007 أن الإقليم ينبغي أن ينفصل عن صربيا وأن يكون له دستور وعلم ونشيد خاص، وينضم للمنظمات الدولية مثل أي دولة دون أن ينفصل كليا عن صربيا، على الرغم من أن المواصفات الأممية تعطي له ضمنا حق الاستقلال، بيد أن روسيا رفضت بشدة وعارضت صدور قرار من مجلس الأمن يقرّ هذه التوصية الأممية.
لقد سعت الدول الغربية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لطرح قرار بديل في الأمم المتحدة من قرار استقلال كوسوفا الذي ترفضه روسيا، والذي يقترح وجود فسحة من الوقت مدتها ثلاثة أشهر بحيث تكون مهلة للصرب وألبان كوسوفا للتفاوض قبل أن يتم تطبيق خطة أهيتساري مبعوث الأمم المتحدة آليا لفصل الإقليم، إلا أن روسيا رفضت مرة أخرى هذه الخطة أيضا بهدف أن يبقى الوضع على ما هو عليه ويظل الألبان المسلمون خاضعين للصرب.
واللافت أن الولايات المتحدة التي كانت تشجع المسلمين من قبل على الاستقلال وتعد بدعمهم باتت أقل تحمسا لاستقلال كوسوفا الكامل، خاصة في أعقاب تفجّر مشكلة الردع الصاروخي مع روسيا، ما يفسر على أنه نوع من المقايضة.. التخلي عن خطط استقلال كوسوفا مقابل تليين الموقف الروسي من الدرع الصاروخي.
وما يؤكد هذه التحليلات ما أعلنه جان مارك دو لا سابلييه، السفير الفرنسي لدى الأمم المتحدة من أنه لم يعد بالإمكان التوصل إلى أي قرار في الوقت الراهن، وأنه تمَّ تجميد مشروع قرار الاستقلال، وإحالة الملف إلى مجموعة الاتصال حول كوسوفا التي تضم بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والولايات المتحدة، وروسيا مرة أخرى بهدف مناقشته، أي العودة لنقطة الصفر.
إن تراجع الغرب عن مشروع القرار يهدف إلى تهدئة التوترات المتصاعدة بينه وبين روسيا؛ بسبب العديد من القضايا الخلافية، وفي مقدمتها أزمة الدرع الصاروخي الذي تريد الولايات المتحدة نشره في أوروبا وترفض روسيا، بالإضافة إلى عمليات الطرد الدبلوماسي المتبادلة بين الروس والبريطانيين على خلفية مقتل عميل المخابرات الروسي السابق ألكسندر ليتفينينكو في بريطانيا قبل أشهر.كما ان التدخل الروسي يهدف الى عرقلة انضمام صربيا للاتحاد الأوروبي وفقدان دولة حليفة، بعدما خيَّرت واشنطن بلغراد في وقت سابق ما بين الاحتفاظ بالإقليم أو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وما يدفع سكان كوسوفو للتفكير في الخيار المستقل وعدم التعويل كثيرا على مساندة الغرب لهم وهي المساندة التي ترتكز على محاولة إضعاف الروس وحليفتهم صربيا ليس الأسباب الإنسانية أو الأخلاقية بل ثمة رائحة صراع ديني تفوح على خلفية استقلال كوسوفا.. فالحرب في كوسوفا نشأت لأسباب دينية، وعوامل استمرارها لا تزال قائمة، وثمة أصوات أوروبية تطالب بمنع نشوء هذه دويلة مسلمة في قلب أوروبا؛ فالكنائس الأرثوذوكسية في روسيا وباقي دول أوروبا الشرقية تلعب دورا بارزا في إجهاض خطة الأمم المتحدة وإثارة العراقيل في وجهها، والتحذيرات الصربية والمسيحية الشرقية عموما عادت لتكرر نفس المبررات الطائفية التي قيلت عن البوسنة، من أن كوسوفا قد تتحول لمرتع للمتطرفين إذا استقلت، بهدف تخويف الأوروبيين من السماح بأي مبادرات انفصالية قد تؤدي لاستقلال الإقليم لاحقا.
إن ما يلفت الأنظار تهديد قادة الصرب المتطرفين بمنع هذا الاستقلال واستئناف حرب الإبادة ضد الكوسوفيين، ومعارضة الكنيسة الأرثوذكسية الصربية لخطة الأمم المتحدة، والأهم وضع الصرب حججا غير مبررة لرفض استقلال كوسوفا مثل الزعم أن في كوسوفا أهم الأديرة المسيحية وتراثهم التاريخي، ومع أن خطة مبعوث الأمم المتحدة وعدت بالتغلب على هذا بتحديد 40 منطقة وموقعا من كوسوفا ستحظى بالحكم الذاتي لمجرد أن فيها أديرة مسيحية، فهم يرفضون بإصرار خطة استقلال كوسوفا كلها ويريدون تعطيلها عبر شمّاعة الأديرة والتراث المسيحي في كوسوفا.
أن تعلق الأمر بمسلمين في أوروبا يسهّل على الطرفين الروسي والأمريكي عقد صفقة تحظر في نهاية الأمر ظهور هذه الدويلة الإسلامية في البلقان قرب روسيا الأرثوذوكسية، تماما كما حدث مع البوسنة التي حُولت إلى كيان مشترك بين الصرب والكروات والبوسنة وذات حكم ثلاثي علماني، على الرغم من أن غالبية السكان مسلمون، ولهذا بدأت المحاولات الصربية مدعومة بالكنائس الأرثوذوكسية في روسيا وباقي دول أوروبا الشرقية لإجهاض خطة الأمم المتحدة وإثارة العراقيل في وجهها.
لقد تصوَّر مسلمو كوسوفا أن مشكلتهم تقترب من الحل حينما صدر التقرير الخاص لمبعوث الأمم المتحدة الذي يعطيهم حق الاستقلال الذاتي مع تقييد انفصالهم التام عن صربيا لمراحل لاحقة، ولكن هذا القرار الدولي أصبح لا قيمة له بعد رفض روسيا له والتهديد بالفيتو لمنع تمريره، وبدلا من إصرار الغرب كما يفعل في قرارات مماثلة تتعلق بعقاب دول عربية، نشهد نوعا من المساومات والتفاوض حول هذا الاستقلال والمقابل له في حالة تخلي الغرب عن دعم استقلال مثل تلك الدول.
لم يعد من خيارات أمام كوسوفا غير الاستقلال التام، لأن بلغراد لا تريد منح السيادة لسكان الإقليم، وترفض مع روسيا خطة الأمم المتحدة، كما أن مساندة الغرب وأمريكا لهم "فاترة" ومتوقفة على مصالحهم مع روسيا ومقايضة الاستقلال بقضية الدرع الصاروخي.
ويبقى السؤال الصعب، في حالة إعلان كوسوفا الاستقلال من جانب واحد.. من سيساند هذه الدولة المستقلة الجديدة؟ وهل سيكون استقلالها مجمدا بحيث تصبح ثاني دولة مسلمة محاصرة وغير معترف بها دوليا كدولة مستقلة على غرار "قبرص التركية" التي لا يعترف بها سوى تركيا؟ وهل يمكن أن تعترف بها الدول العربية والإسلامية ؟ أم أن المصالح الدولية ستمنع حتى الاعتراف العربي والإسلامي بها؟