13‏/02‏/2008

استقالة الحكومة اللبنانية واستراتيجيا الدمينو في المنطقة

استقالة الحكومة اللبنانية واستراتيجيا الدمينو في المنطقة
د.خليل حسين
استاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية

بدا واضحا منذ معركة التمديد للرئيس اميل لحود ان ضغوطا هائلة ستمارس على الساحة اللبنانية بكافة مواقعها وامتداداتها،وبالتالي لن يكون لبنان سوى نقطة انطلاق وارتكاز باتجاه ما هو ابعد بكثير من الواقع السياسي القائم في لبنان،وهذا ما اثبتته الوقائع المتسارعة في المنطقة بدءا من الملف النووي الايراني مرورا بالقرار 1546 المتعلق بالشأن العراقي،وبداية تصفية لمرحلة ياسر عرفات،وانتهاء بالقرار 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري،وما بينها من قرارات لمجلس الامن الدولي رممت بعض الثغرات في السيناريوهات المحتملة للمنطقة ومنها القرار 1566 لعام 2004 المتعلق بمحاربة الارهاب.
فالوضع الاقليمي المحتقن شكل البيئة المناسبة لتشكيل اركان واسس الازمة الداخلية اللبنانية،كما ان هذه الاخيرة ستستعمل في ترتيب فتح الملفات الاقليمية القابلة للانفجار في أي لحظة ممكنة،ومن هنا يبدو مرة اخرى تقاطع وتفاعل الوضع الداخلي اللبناني بالوضع الخارجي وهو امر شائع وعادي في مسلسل الازمات اللبنانية المتلاحقة منذ استقلاله.ومن هذا المنطلق يمكن تسجيل العديد من المسائل في الوضع الداخلي ابرزها:
- ان جريمة اغتيال الرئيس الحريري بأبعادها المحلية والاقليمية والدولية شكلت صافرة الانطلاق نحو تكوين البيئة المناسبة للفرز السياسي في لبنان،وربط تداعياتها وآثارها بمفاصل من الصعب بمكان على لبنان استيعابها وتجاوزها،وبالتالي ايصال الوضع الداخلي الى نقاط يصعب التراجع عنها.
- ومن الطبيعي والمنطقي ان تتحمل السلطة السياسية في لبنان الممثلة بالحكومة اولى تداعيات جريمة بهذا الحجم،ولكن نظرا لحجم المخاطر والضغوط الخارجية تمّ التعامل مع هذه القضية الاستثنائية بوسائل عادية وصلت الى مرحلة انعدام الوزن السياسي ما شكل عوامل اضافية اخرى ضاغطة على الحكم والحكومة.
- كما ان التباين الظاهر والمستتر بين اطراف المعارضة بكافة تلاوينها السياسية وعدم تمكنها من القراءة في كتاب واحد،قد اسهم في بقائها تجمعا وتكتلا انتخابيا اكثر مما هو مشروع سياسي قابل للحياة رغم ما يحكى عن انجازات استراتيجية تمكنت من تحقيقها.
- ان وضعي الحكم والحكومة والمعارضة السالفي الذكر،اجبر هذه الاخيرة الاحتكام الى الشارع والاستقواء بمناخات خارجية مناسبة،وبسوابق وتجارب ناجحة كنموذج الثورة البرتقالية الاوكرانية والوردية في حورحيا رغم الاختلافات الكبيرة برأينا بين الواقع اللبناني والاوكراني والجورجي.
- لقد تمكنت المعارضة حتى الآن من الفوز بالنقاط على الحكم عبر اسقاط الحكومة تحت وطأة ضغط الشارع – بصرف النظرعن حجمه وتنوعه وفعاليته الداخلية في مثل هذه الادوار- الا ان فوزها بالضربة القاضية على الحكم دونه عقبات نظرا لأختلاف وجهات نظرها لا سيما الفاعلة منها،وارتباط الموضوع الأخير بقرارات اقليمية ودولية لا قدرة للمعارضة على التأثير فيه كثيرا في هذه اللحظة بالذات.
- وبصرف النظر عما يمكن ان تتوصل اليه المعارضة في لقائها الرابع، فتبقى ردود الفعل الأولية على استقالة الحكومة مؤشرا بارزا على سياق توجهاتها السياسية اللاحقة، وفي هذا المجال يمكن ملاحظة مرونة الشعارات التي اطلقها النائب وليد جنبلاط لجهة التروي وعدم الوصول بنشوة النصر الى حد العداء لسوريا،وتلميحه للحوار السياسي الداخلي والخارجي.
- وفي مقابل ذلك تعيش قوى الموالاة حالة من الترقب لإلتقاط الانفاس قبل اطلاق مواقفها الجديدة التي ربما تكون قديمة وغير قادرة على التأثير بفاعلية على مجرى الامور بغير التقاط المناخ الاقليمي الذي يبدو حرجا جدا في هذه الاثناء.
- ومن كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن وضعا غير مريح ينتظر الواقع الداخلي للعديد من الاسباب،اولها ان الامر تعدى استقالة الحكومة بنظر البعض الى المطالبة باسقاط رموز الحكم،وثانيها ربط بعض المعارضة الحوار مع الحكم بكشف ملابسات اغتيال الرئيس الحريري وهو امر يصب التكهن بنتائجه بسرعة،وثالثها ازدياد التأزم الداخلي والضغوط التي يمكن أن يواجهها أي مرشح لتولي رئاسة الحكومة،ورابعها ضغط الوقت المتعلق بالاستحقاقات الداخلية كإقرار قانون الانتخابات وإجرائها, وخامسها إعادة ربط الوضع اللبناني بالوضعين الاقليمي والدولي وتقاطع مصالح هذه المؤثرات بشكل لا يسمح للبنان ان يكون بعيدا عن تأثيراتها السلبية.
ان الصورة القاتمة التي تبدو فيها المعطيات الداخلية اللبنانية هي انعكاس لما يجري حول لبنان ومن الصعب فصل هذه الوقائع عما يخطط للمنطقة من مشاريع تصل الى حد إعادة تركيب الجغرافيا السياسية للمنطقة.فتقاطع المصالح الامريكية الفرنسية حول لبنان انتج القرار 1559 الذي شكل نقطة الانطلاق الامريكية باتجاه القسم المتعلق بلبنان وسوريا من مشروع الشرق الاوسط الكبير،كما ان تمكن واشنطن من ترميم علاقاتها الاوروبية بشكل مقبول قد اعطى زخما واندافاعا امريكيين باتجاه تكثيف الضغوط على سوريا ولبنان نيابة عن اسرائيل لا سيما بعد محاولة سوريا ايجاد ثغرة في الطوق المضروب عليها عبر زيارة رئيسها بشار الاسد الى موسكو مؤخرا، ما اجبر واشنطن وباريس على محاولة احكام الطوق عبر البدء بضرب تركيبة النظام السياسي اللبناني الذي بدأ بإغتيال الرئيس الحريري واستقالة الحكومة اللبنانية، مقدمة للانتقال الى محاولة اسقط الحكم في لبنان وضرب السلم الاهلي – البارد- للانتقال الى مواقع اخرى في المنطقة ومنها سوريا وايران،وما يدعم هذا الادعاء ما اقدمت عليه الولايات المتحدة مؤخرا من سحب مهمة المظلة الامنية الاطلسية للبنان وسوريا من العهدة الفرنسية اليها مباشرة،اضافة الى معاني وأبعاد الترحيب الامريكي – وهو الاول عالميا- باستقالة الحكومة اللبنانية وتصويرها بالانجاز الاول على طريق ثورة الأرز لإخراج سوريا من لبنان،معطوفا على الانبهار الاسرائيلي الذي وصفه وزير خارجيتها سلفان شالوم "بالانقلاب" على النظام.
ان تصريح الرئيس السوري بشار الاسد لإحدى الصحف الايطالية بأن الاجواء المفروضة على سوريا في المنطقة تشبه الاجواء التي سادت العراق قبل الحرب عليه يعكس مدى التصميم الامريكي للمضي قدما في لعبة اسقاط الانظمة الممانعة لسياساتها في المنطقة،وهي ان تحاول البدء في لبنان عبر اسقاط حكومته فان خطواتها لن تقف عند هذا الحد،وهذا ما ذهبت اليه احد الدراسات الصادرة عن مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية في واشنطن الذي يُعتبر احد الدعائم في رسم السياسية الخارجية الامريكية،من ان انجاز مشروع الشرق الاوسط الكبير يتطلب اسقاط الانظمة المعادية ونشر الحروب الاهلية فيها.
كما ان العرقلة التي تمارسها واشنطن على المفاوضات الاوروبية الايرانية بشأن الملف النووي الايراني وعدم وصوله الى نهايات محددة في المدى المنظور، يشكل مرتكزا آخرا لسياسة واشنطن في المنطقة عبر البوابة اللبنانية لما يشكل لبنان من بعد هام في السياسية الخارجية الايرانية عبر بعض قواه؛ ومن هنا ان اسقاط الحكومة والنظام في لبنان سيكسر احد اضلع المثلث الايراني السوري اللبناني.
صحيح ان هناك عدد لا يستهان به من الثغرات الممكن تلافيها في الواقع اللبناني ،وصحيح ايضا ان المسؤولية السياسية اولا وأخيرا تقع على عاتق الحكومة،الا ان التدقيق في موضوع اجبار الحكومة على الاستقالة قد اتخذ ابعادا اكثر من مجرد تحمل حكومة لحدث كبير بثقل جريمة اغتيال رئيس وزراء بحجم الرئيس الحريري،اذ ان الاستثمار الداخلي والخارجي لتداعيات الجريمة له خلفيات وأبعاد كثيرة تتعدى حجم لبنان،فهل يكون نظام الحكم في لبنان الحائط الأول في استراتيجيا الدمينو التي تتبعها واشنطن في المنطقة،وما هو الرد العملي او الرد الممكن الذي باستطاعة لبنان موالاة ومعارضة تقديمه في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ لبناني السياسي المعاصر.
ان جلاء الحقيقة في جريمة الاغتيال ينبغي ان تكون اولوية لكن ليس الى الحد الذي يمكن ان تصبح اداة ووسيلة لعدم البحث في مصير لبنان الجالس على حد السيف،كما ان اجراء الانتخابات النيابية يجب ان تكون هدفا للموالاة والمعارضة للوصول بمجلس نيابي قادر على انتاج حكومة وحدة وطنية تعالج القضايا الخلافية الكبيرة، كما ان خروج القوات السورية من لبنان وفقا لإتفاق الطائف وبرعاية عربية وليس بضغوط دولية عبر القرار 1559 ينبغي ان يكون مطلبا مشتركا للموالاة والمعارضة،لسبب بسيط وهو ان مهما تغيرت موازين القوى في التاريخ السياسي للدول تبقى الجغرافيا ثابتة، وعلى هذه القاعدة سيبقى لبنان ليس خاصرة سوريا ورئتها،وستظل سوريا حاضنة لبنان شئنا ام أبينا،حقيقة ينبغي علينا نخن اللبنانيون والسوريون ادراكها والعمل على هديها.