10‏/02‏/2008

أزمة الصواريخ الكورية وآفاقها

أزمة الصواريخ الكورية وآفاقها

د.خليل حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
رئيس مصلحة الدراسات في مجلس النواب اللبناني
مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي ، أخذ الاهتمام الدولي بكوريا الشمالية منحنى جديدا عبر التركيز على برنامجها لأسلحة الدمار الشامل-؛ الأمر الذي كان على وشك إشعال حرب عام 1994، ثم ما لبثت ان أثارت قلق واشنطن وطوكيو وسيول، عندما أطلقت قمرا صناعيا فشلت محاولة تثبيته في مداره عام 1998 بالقرب من اليابان؛ الأمر الذي زاد قلق واشنطن من إمكانية بيع هذه التقنية لدول غير صديقة لها، مع الإصرار بالاستمرار في برنامج تطوير تقنية الصواريخ حتى عام 2003. وبعد 6 أشهر من مراجعة إدارة جورج بوش لسياسة بلاده التي اتبعها سلفه بيل كلينتون، أعلن البنتاغون في تموز / يوليو 2001 أن بيونغ يانغ تشكل التهديد العسكري الأول للولايات المتحدةا.
وعلى الرغم من أن كوريا الشمالية لم تتهم رسميا بأي عمل إرهابي نفذته بشكل مباشر منذ أحداث 11ايلول /سبتمبر 2001، فإن استنكارها لتفجيرات أمريكا وتوقيعها على معاهدات بهذا الشأن في الأمم المتحدة، لم يمنع الرئيس الأمريكي من ضم كوريا الشمالية لـ "محور الشر" الثلاثي كوريا الشمالية والعراق وإيران.،انطلاقا من عدة اعتبارات أبرزها:
- يعتبر البنتاغون حكومة بيونغ يانغ مصدرا ممكنا لتحد أمني للولايات المتحدة، باستمرارها في الحفاظ على جيش قوي موجه نحو الحدود الجنوبية، وبرنامج صواريخ وأسلحة دمار شامل كدعائم لإستراتيجيتها الأمنية. وعلى الرغم من الاعتقاد بأنها قد جمَّدت إنتاج البلوتونيوم عام 1994، فإن بعض أجزاء برنامجها النووي لم يتوقف، بالإضافة إلى امتلاكها احتياطيا كبيرا من الأسلحة الكيماوية يمكن توجيهها عسكريا عبر الصواريخ البالستية والطائرات والمدرعات والأساليب غير التقليدية.كما أن هناك اعتقاد بامتلاكها قدرات هجوم بالأسلحة البيولوجية، بناء على بحوثها التي بدأت منذ الستينيات، ولديها مئات الصواريخ البالستية التي لو استمرت في تطويرها لكان بإمكانها أن تهدد أجزاء من القارة الأمريكية. ومن بين منتجاتها: صواريخ "نودونغ إم آر إم بي" التي يصل مداها إلى أكثر من 1300 كم، والتي يمكن باستخدامها عزل شبه الجزيرة الكورية عن أي تعزيز عسكري من قبل القوات الأمريكية، واستهداف السواحل اليابانية.
وفي عام 1998 جرَّبت بيونغ يانغ نظام "تايبودونغ-1" الفضائي لإطلاق الأقمار الصناعية والصواريخ طويلة المدى، ثم تطويرها لصواريخ "تايبودونغ-2" طويلة المدى التي تراجعت عن تجريبها في سبتمبر 1999. وتمَّ تطوير صواريخ مضادة للسفن مبنية على الهندسة الروسية والصينية، بالإضافة إلى امتلاكها مخزونا كبيرا من أسلحة تقليدية أخرى من طائرات مهاجمة ومروحيات ومدرعات ودبابات وأسلحة مضادة للدروع والدبابات.
ويبدي مسؤولو البنتاغون قلقهم من أن بيونغ يانغ تبدو مستعدة لبيع تقنياتها التسليحية لدول أخرى تدعيما لخطتها العسكرية كأحد أبرز مصادرها من العملة الصعبة، متهمين بيونغ يانغ ببيعها تقنية صواريخ "نودونغ 1" لإيران لدعم مشروعها لتصنيع شهاب 3 ، وتقنيات صواريخ "نودونغ إم آر بي إم" لباكستان، معتبرين ذلك قد أثرَّ على الميزان الإستراتيجي في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وقد تبيع تقنياتها لدول أخرى تشكل مصدر قلق، ومع ذلك لا يخفي بعض الخبراء الأمريكيين اعترافهم بمحدودية قدرات هذه الصواريخ من ناحية التقنية المستخدمة فيها.
- ليس هناك خلاف بين الأوساط الأمنية الأمريكية حول امتلاك بيونيانغ لمخزون كبير من الأسلحة التقليدية والبيولوجية؛ لكن الخلاف يدور حول قدرتها على توجيه ضربات نووية. وكان أول تقرير حول برنامجها النووي قد ظهر في عام 1993، حيث أجريت محادثات أنهيت باتفاقية جنيف لعام 1994، وجمَّدت بيونغ يانغ إنتاج البلوتونيوم. لكن ما تمَّ إنتاجه قبل ذلك يمكن استخدامه لتصنيع قنبلة أو قنبلتين نوويتين و10 رؤوس نووية أخرى.
كما زادت الشكوك حول تحوّل بيونغ يانغ إلى سرية برنامجها النووية، مع تأكيدها على أن اتفاقية جنيف لا تشمل إلا محطة يونغبيون التي تعرفت عليها المخابرات الأمريكية. وتقول المخابرات العسكرية الأمريكية بأنها تعتقد بوجود 10 مواقع سرية، ولكن دون دليل على وجود أنشطة لهذا الغرض. ولم تنجح محاولتان للتفتيش الدولي في العثور عما يقلق واشنطن في عامي 1999 و 2000؛ وهو ما أدى إلى خلاف في نهاية عهد بيل كلينتون بين وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية الأمريكيتين حول هذه التقارير الأمنية، المبنية على صور فضائية وتقارير جواسيس يعملون لحساب البنتاغون.
- تعتقد المخابرات المركزية الأمريكية أن بيونغ يانغ سعت عبر قنوات تجارية في الصين إلى استيراد ما لا يمكنها تصنيعه، وما تحتاجه من مواد خام لبرامجها التسليحية. ومن ذلك شراؤها لطائرات "ميغ-21" من كازخستان عام 1999. وفي المقابل، لم تتوقف عن تصدير خبراتها، وبيع منتجاتها العسكرية. ويعتبر مجلس الأمن القومي الأمريكي أنه "بعد روسيا والصين تعد كوريا الشمالية أكثر الدول قدرة على تهديد الولايات المتحدة خلال الـ 15 سنة القادمة". وتشير آخر تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى أن تطوير تقنيات "تايبونغ-1 و2" تعني إمكانية استهداف ألاسكا وجميع مناطق أمريكا الشمالية والغربية، إذا وصل مدى الصاروخ إلى أكثر من 15 ألف كم، مع قدرة على نقله حمولة هجومية بمئات الكيلو غرامات.
وعلى الرغم من أن العديد من التعقيدات التي تتحكم في هذا الملف فقد جرت عدة محاولات لحله عبر الطرق الدبلوماسية،من بينها المحاولات التي جرت في العام 2002 وما تلاها من مفاوضات متعددة الطرف ضمّت إلى كوريا الشمالية الجنوبية والصين وروسيا واليابان،وأتى ذلك في سياق التزام طرفي الصراع الرئيسيين، كوريا الشمالية والولايات المتحدة "بقواعد اللعبة"، وعدم الذهاب بعيدًا على طريق الصدام والمواجهة؛ الأمر الذي برز في عديد من التصريحات المتبادلة، المؤكدة لأهمية حل الأزمة سلميًّا، وعدم المغامرة بشن حرب في شبه الجزيرة الكورية، خاصة من جانب الولايات المتحدة، في بيئة متباينة كليًّا عن نموذج العراق أو أفغانستان، بالنظر إلى توافق دول الجوار على رفض الخيار العسكري ضد كوريا الشمالية وعدم معاملتها بعصا القوة ، ورفض الطاعة العمياء لإملاءات السياسة الأمريكية، وبدرجة القوة نفسها في عدم التساهل إزاء طموحات بيونج يانج لامتلاك أسلحة دمار شامل أو امتلاكها فعلا.
إن قراءة دقيقة لتجارب المفاوضات السابقة تقودنا إلى القول بأن المحادثات لم تفشل بالمعنى المطلق، حيث إنها في حد ذاتها، وبما تطرقت إليه، كانت متقدمة ، رغم الخلافات التي مردها وضع الأطراف لشروط صعبة تمثل الحد الأقصى، دفعة واحدة. ورغم ذلك فإن الأطراف توافقت على ست نقاط رئيسية ذات دلالة هامة، تمثلت في:
- الاتفاق على حل القضية النووية الكورية بالسبل السلمية، حفاظًا على الاستقرار والسلام والأمن طويل الأمد في شبه الجزيرة الكورية.
- الاتفاق على جعل شبه الجزيرة الكورية منطقة خالية من الأسلحة النووية، مع الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الأمنية لكوريا الشمالية.
- الاتفاق على بحث وصياغة خطة شاملة لتسوية تلك القضية بأسلوب عادل ومعقول.
- الاتفاق على ضرورة تجنب أي عمل أو اتخاذ أي إجراء من شأنه تدهور الأوضاع، طالما بقيت المسيرة التفاوضية مستمرة.
- الاتفاق على ضرورة مواصلة الحوار لتعزيز جسور الثقة وتضييق هوة الخلافات وتوسيع الأرضية المشتركة.
- الاتفاق على ضرورة مواصلة المحادثات المتعددة الطرف.
كما باتت واضحة مطالب الجانب الكوري الشمالي، مقابل التزامه بتعهدات واستحقاقات، حيث حددت بيونج يانج مطالبها في النقاط التالية:
- توقيع معاهدة عدم اعتداء بين بيونج يانج وواشنطن.
- إقامة علاقات دبلوماسية كاملة وطبيعية بين البلدين.
- توفير ضمانات اقتصادية لبيونج يانج من قبل كوريا الجنوبية واليابان.
- استكمال تشييد المفاعلين النوويين اللذين يعملان بالمياه الخفيفة لتوفير احتياجات كوريا الشمالية من الطاقة الكهربائية، وفقًا لما تعهدت به الدول الأطراف في اتفاقية جنيف التي تم إبرامها في عام 1994.
وفي مقابل هذه المطالب، تتعهد بيونج يانج بأربعة إجراءات هي:
- التوقف عن إنتاج أسلحة نووية.
- السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإجراء عمليات تفتيش على منشأتها.
- التخلص نهائيًا من منشآتها النووية.
- وقف إجراء التجارب الصاروخية ووقف تصدير الصواريخ.
إن انشغال واشنطن بالملفين العراقي والإيراني إضافة إلى عوامل أمريكية داخلية أخرى قد ساعد في تجميد الملف الكوري،إلا أن استئناف كوريا لتجاربها الصاروخية الأخيرة وضع هذا الملف على نار حامية اقله في إطار مجلس الأمن فما هي احتمالاته وآفاقه المستقبلية؟وفي هذا الإطار يمكن إدراج الملاحظات التالية:
- إن لجوء وكالة الطاقة الذرية إلى مجلس الأمن لمعالجة أي مخالفة لم تكن مشجعة على الأقل في تجربتين سابقتين. كحالة العراق في العام 1991، والتي تبين فيما بعد أن جميع التقارير التي شنَّت الولايات المتحدة على أساسها الحرب كانت غير صحيحة وباعتراف المفتشين الدوليين أنفسهم. أما التجربة الثانية فتتعلق بكوريا الشمالية . فبعد تهديدات ومفاوضات متعددة أفضت في العام 1994 إلى توقيع اتفاق بين بيونغ يانغ وواشنطن، تعهدت بموجبه كوريا الجنوبية لكوريا الشمالية ببناء مفاعلين ضخمين لإنتاج الطاقة الكهربائية مقابل وقف النشاطات النووية في كوريا الشمالية. وقد صمد هذا الاتفاق إلى أن قررت الولايات المتحدة أن توقف العمل به في نهاية العام 2002، وعندها انسحبت كوريا الشمالية من معاهدة حظر نشر الأسلحة النووية وطردت مفتشي الوكالة وعزلت كميات من البلوتونيوم اللازمة لتصنيع حوالي ست قنابل، لتعلن بعد أشهر أنها باتت تمتلك أسلحة نووية؛ ولم يثر أي من هذه القرارات أي رد فعل من جانب مجلس الأمن أو معظم الدول باستثناء التهديدات التي أطلقها رئيس الولايات المتحدة؛ وإثر ذلك، وتجاوباً مع رغبات الصين، جرت مفاوضات شاركت فيها الكوريتين والولايات المتحدة والصين واليابان وروسيا. وبعد إعلان مشترك وقع في 19 أيلول / سبتمبر 2005، تعهدت كوريا الشمالية التخلي عن برامجها النووية مقابل تعهد الدول المذكورة بأن تقدم لها مساعدة في مجال الطاقة وضمانات في مجال الأمن. إلا أن كوريا الشمالية، الموافقة على مضض، أعادت النظر في هذا الاتفاق مطالبة بأن تمنح حق استخدام الطاقة الذرية لأغراض سلمية.
- لقد تضاءلت إلى حدٍ كبير سياسة حظر نشر الأسلحة النووية منذ مؤتمر العام 1995 في وقت بدا فيه أن الهدف المطلوب قد تحقق إلى حدٍ ما. إذ كانت ضرورة وقف نشر الأسلحة موضع هجوم في الولايات المتحدة من جانب المحافظين الجدد الذين رفضوا أن يخضع بلدهم لبعض الالتزامات الدولية أياً كان نوعها، كما رأوا أن حظر نشر الأسلحة يعود إلى منطق الحرب الباردة ولم يعد هناك من داعٍ لوجوده بعد أن انتهت تلك الحرب. ويرى هؤلاء أن الرد على مخاطر نشر الأسلحة النووية يكمن في إنشاء أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ التي يفترض بجميع الدول أن تشتريها من الولايات المتحدة.
- كما تجلى بشكل واضح الإهمال لفكرة حظر نشر الأسلحة النووية خلال مؤتمر البحث في المعاهدة في شهر حزيران / يونيو 2005، فالدول المشاركة، قد انفرط عقدها دون أن تتفق على أمرٍ واحد وهو ما يعكس عالماً منقسماً ومضطرباً. لكن هذا النظام المنتقد، والذي لم يتم اقتراح أي حلٍ بديل منه ما زال ساري المفعول.
- ومهما يكن من أسلوب المعالجة التي تمَّ بها التعامل مع الملف الكوري بجانبيه الصاروخي والنووي فان التجربة الكورية الأخيرة تهدف بشكل أو بآخر إلى إعادة هذا الملف إلى الحراك الدولي مجددا إذ أن كوريا شعرت وبكل تأكيد أن تجميد ملفها لم يسعفها في الوصول إلى مبتغاها بعدما زادت عزلتها الدولية ولم تحقق أيا من المساعدات الموعودة في الوقت الذي تمر بأزمات اقتصادية متلاحقة وبمستوى معيشي متدن جدا.
- وعلى ما يبدو لقد اختارت كوريا التوقيت المناسب بالنسبة لها لإجراء التجارب الصاروخية،في الوقت الذي تنشغل فيه واشنطن بأزمات العراق المتتالية والبرنامج النووي الإيراني،إضافة إلى الانتخابات التشريعية الأمريكية القادمة بهدف إعادة هذا الملف إلى واجهة الأحداث الدولية بهدف العودة إلى المفاوضات وبشروط مناسبة لها.
- إن الموقفين الروسي والصيني من الملف برمته يميل لمصلحة بيونغ يانغ وبالتالي ستحاول هذه الأخيرة تحسين شروط التفاوض ومضمونه في ظل صعوبة بالغة للجوء إلى خيارات العقوبات الاقتصادية أو العسكرية من قبل واشنطن عبر مجلس الأمن.
- وعطفا على ما سبق إن أفضل الممكن بالنسبة إلى واشنطن في هذا الملف حاليا،هو استصدار قرار يدعو كوريا الشمالية مجددا إلى وقف تجاربها الصاروخية وكذلك كل الأعمال ذات الصلة في البرنامج النووي مقابل العودة إلى المفاوضات المتعددة والمنقطعة منذ الصيف الماضي.وفي أسوأ الأحوال اللجوء إلى بيان رئاسي عن مجلس الأمن يحمل التوجهات السالفة الذكر.
لقد باتت قضايا التسلح غير التقليدي من صلب أزمات النظام الدولي القائم،كما بات واضحا أن ازدواجية التعامل مع هذه الملفات قد زادها تأزما،وبالتالي على المجتمع الدولي ومن يتحكم به النظر بعين واحدة لمثل تلك الملفات قبل أن تفلت الأمور من عقالها،فأزمة الصواريخ الكوبية لا زالت ماثلة في الأذهان ولكي لا تتكرر مع الكورية ينبغي التفكر مليا قبل الإقدام على أي خطوة ناقصة.